أرشد تبارك وتعالى عباده إلى دعائه الذي هو صلاحهم في دنياهم وأخراهم فقال: { ٱدْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً } قيل: معناه: تذللاً واستكانة، وخفية؛ كقوله:
{ { وَٱذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ } [الأعراف: 205] الآية. وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري قال: رفع الناس أصواتهم بالدعاء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيها الناس اربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم، ولا غائباً، إن الذي تدعون سميع قريب" الحديث، وقال ابن جريج عن عطاء الخراساني عن ابن عباس في قوله: { تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً } قال: السر. وقال ابن جرير: تضرعاً: تذللاً، واستكانة لطاعته، وخفية، يقول: بخشوع قلوبكم، وصحة اليقين بوحدانيته وربوبيته فيما بينكم وبينه، لا جهراً مراءاة. وقال عبد الله بن المبارك بن فضالة عن الحسن قال: إن كان الرجل لقد جمع القرآن وما يشعر به الناس، وإن كان الرجل لقد فقه الفقه الكثير وما يشعر به الناس، وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة في بيته وعنده الزوار وما يشعرون به، ولقد أدركنا أقوماً ما كان على الأرض من عمل يقدرون أن يعملوه في السر فيكون علانية أبداً، ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء، وما يسمع لهم صوت، إن كان إلا همساً بينهم وبين ربهم، وذلك أن الله تعالى يقول: { ٱدْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً } وذلك أن الله ذكر عبداً صالحاً رضي فعله، فقال: { { إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً } [مريم: 3] وقال ابن جريج: يكره رفع الصوت والنداء والصياح في الدعاء، ويؤمر بالتضرع والاستكانة. ثم روي عن عطاء الخراساني عن ابن عباس في قوله: { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ } في الدعاء، ولا في غيره. وقال أبو مجلز: { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ } لا يسأل منازل الأنبياء. وقال أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا شعبة عن زياد بن مخراق، سمعت أبا نعامة، عن مولى لسعد: أن سعداً سمع ابناً له يدعو، وهو يقول: اللهم إني أسألك الجنة ونعيمها، وإستبرقها، ونحواً من هذا، وأعوذ بك من النار وسلاسلها وأغلالها، فقال: لقد سألت الله خيراً كثيراً، وتعوذت به من شر كثير، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"إنه سيكون قوم يعتدون في الدعاء وفي لفظ يعتدون في الطهور والدعاء وقرأ هذه الآية: { ٱدْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا } الآية وإن بحسبك أن تقول: اللهم إني أسألك الجنة وما قرّب إليها من قول أو عمل، وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل" ورواه أبو داود من حديث شعبة عن زياد بن مخراق عن أبي نعامة عن مولى لسعد عن سعد، فذكره، والله أعلم. وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة، أخبرنا الجريري عن أبي نعامة: أن عبد الله بن مغفل سمع ابنه يقول: اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها، فقال: يا بني سل الله الجنة، وعُذْ به من النار؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يكون قوم يعتدون في الدعاء والطهور" وهكذا رواه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة عن عفان، به وأخرجه أبو داود عن موسى بن إسماعيل عن حماد بن سلمة عن سعيد بن إياس الجُريْري عن أبي نعامة، واسمه قيس بن عباية الحنفي البصري، وهو إسناد حسن لا بأس به، والله أعلم. وقوله تعالى: { وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى ٱلأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَـٰحِهَا } ينهى تعالى عن الإفساد في الأرض، وما أضره بعد الإصلاح فإنه إذا كانت الأمور ماشية على السداد، ثم وقع الإفساد بعد ذلك، كان أضر ما يكون على العباد، فنهى تعالى عن ذلك، وأمر بعبادته ودعائه والتضرع إليه والتذلل لديه فقال: { وَٱدْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا } أي: خوفاً مما عنده من وبيل العقاب، وطمعاً فيما عنده من جزيل الثواب. ثم قال:
{ { إِنَّ رَحْمَتَ ٱللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ ٱلْمُحْسِنِينَ } [الأعراف: 56] أي: إن رحمته مرصدة للمحسنين الذين يتبعون أوامره، ويتركون زواجره؛ كما قال تعالى { وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ } [الأعراف: 156] الآية. وقال: قريب، ولم يقل: قريبة؛ لأنه ضمن الرحمة معنى الثواب، أو لأنها مضافة إلى الله، فلهذا قال: قريب من المحسنين. وقال مطر الوراق: تنجزوا موعود الله بطاعته؛ فإنه قضى أن رحمته قريب من المحسنين. رواه ابن أبي حاتم.