التفاسير

< >
عرض

سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ
١
لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ
٢
مِّنَ ٱللَّهِ ذِي ٱلْمَعَارِجِ
٣
تَعْرُجُ ٱلْمَلاَئِكَةُ وَٱلرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ
٤
فَٱصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً
٥
إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً
٦
وَنَرَاهُ قَرِيباً
٧
-المعارج

تفسير القرآن العظيم

{ سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ } فيه تضمين دلّ عليه حرف الباء، كأنه مقدر: استعجل سائل بعذاب واقع؛ كقوله تعالى: { { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِٱلْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ ٱللَّهُ وَعْدَهُ } [الحج: 47] أي: وعذابه واقع لا محالة. قال النسائي: حدثنا بشر بن خالد، حدثنا أبو أسامة، حدثنا سفيان عن الأعمش عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: { سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ } قال: النضر بن الحارث بن كلدة. وقال العوفي عن ابن عباس: { سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ } قال: ذلك سؤال الكفار عن عذاب الله، وهو واقع بهم، وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى: { سَأَلَ سَآئِلٌ }: دعا داع بعذاب واقع يقع في الآخرة، قال: وهو قولهم: { { ٱللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ ٱلْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ أَوِ ٱئْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [الأنفال: 32] وقال ابن زيد وغيره: { سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ } أي: وادٍ في جهنم يسيل يوم القيامة بالعذاب، وهذا القول ضعيف بعيد عن المراد، والصحيح الأول؛ لدلالة السياق عليه.

وقوله تعالى: { وَاقِعٍ لِّلْكَـٰفِرِينَ } أي: مرصد معد للكافرين، وقال ابن عباس: واقع: جاءٍ { لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ } أي: لا دافع له إذا أراد الله كونه، ولهذا قال تعالى: { مِّنَ ٱللَّهِ ذِي ٱلْمَعَارِجِ } قال الثوري عن الأعمش عن رجل عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: { ذِي ٱلْمَعَارِجِ } قال: ذو الدرجات. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: ذي المعارج، يعني: العلوّ والفواضل. وقال مجاهد: ذي المعارج: معارج السماء. وقال قتادة: ذي الفواضل والنعم. وقوله تعالى: { تَعْرُجُ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ وَٱلرُّوحُ إِلَيْهِ } قال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: تعرج: تصعد، وأمّا الروح، فقال أبو صالح: هم خلق من خلق الله يشبهون الناس، وليسوا ناساً، قلت: ويحتمل أن يكون المراد به جبريل، ويكون من باب عطف الخاص على العام، ويحتمل أن يكون اسم جنس لأرواح بني آدم؛ فإنها إذا قبضت، يصعد بها إلى السماء؛ كما دلّ عليه حديث البراء، وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث المنهال عن زاذان عن البراء مرفوعاً، الحديث بطوله في قبض الروح الطيبة، قال فيه: "فلا يزال يصعد بها من سماء إلى سماء حتى ينتهي بها إلى السماء التي فيها الله" والله أعلم بصحته، فقد تكلم في بعض رواته، ولكنه مشهور، وله شاهد في حديث أبي هريرة فيما تقدم من رواية الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه من طريق ابن أبي الدنيا، عن محمد بن عمرو بن عطاء عن سعيد بن يسار عنه، وهذا إسناد رجاله على شرط الجماعة، وقد بسطنا لفظه عند قوله تعالى: { { يُثَبِّتُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱلْقَوْلِ ٱلثَّابِتِ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَفِى ٱلأَخِرَةِ وَيُضِلُّ ٱللَّهُ ٱلظَّـٰلِمِينَ وَيَفْعَلُ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ } [إبراهيم: 27].

وقوله تعالى: { فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } فيه أربعة أقوال:

[أحدها] أن المراد بذلك مسافة ما بين العرش العظيم إلى أسفل السافلين، وهو قرار الأرض السابعة، وذلك مسيرة خمسين ألف سنة، هذا ارتفاع العرش عن المركز الذي في وسط الأرض السابعة، وكذلك اتّساع العرش من قطر إلى قطر مسيرة خمسين ألف سنة، وإنه من ياقوتة حمراء؛ كما ذكره ابن أبي شيبة في كتاب صفة العرش. وقد قال ابن أبي حاتم عند هذه الآية: حدثنا أحمد بن سلمة حدثنا إسحاق بن إبراهيم، أخبرنا حكام عن عمرو بن معمر بن معروف عن ليث عن مجاهد عن ابن عباس في قوله تعالى: { فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } قال: منتهى أمره من أسفل الأرضين إلى منتهى أمره من فوق السموات خمسين ألف سنة { { فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ } [السجدة:5] يعني بذلك حين ينزل الأمر من السماء إلى الأرض، ومن الأرض إلى السماء في يوم واحد، فذلك مقداره ألف سنة؛ لأن ما بين السماء والأرض مقدار مسيرة خمسمئة عام. وقد رواه ابن جرير عن ابن حميد عن حكام بن سلم عن عمرو بن معروف عن ليث عن مجاهد قوله، لم يذكر ابن عباس. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا علي بن محمد الطنافسي، حدثنا إسحاق بن منصور، حدثنا نوح المؤدب عن عبد الوهاب بن مجاهد عن أبيه عن ابن عباس قال: غلظ كل أرض خمسمئة عام، وبين كل أرض إلى أرض خمسمئة عام، فذلك سبعة آلاف عام، وغلظ كل سماء خمسمئة عام، وبين السماء إلى السماء خمسمئة عام، فذلك أربعة عشر ألف عام، وبين السماء السابعة وبين العرش مسيرة ستة وثلاثين ألف عام، فذلك قوله تعالى: { فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ }.

[القول الثاني] أن المراد بذلك مدة بقاء الدنيا منذ خلق الله هذا العالم إلى قيام الساعة، قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة، أخبرنا إبراهيم بن موسى، أخبرنا ابن أبي زائدة عن ابن جريج عن مجاهد في قوله تعالى: { فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } قال: الدنيا عمرها خمسون ألف سنة، وذلك عمرها يوم سماها الله عزّ وجلّ يوماً { تَعْرُجُ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ وَٱلرُّوحُ إِلَيْهِ فِى يَوْمٍ } قال: اليوم الدنيا. وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن الحكم بن أبان عن عكرمة: { فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } قال: الدنيا من أولها إلى آخرها مقدار خمسين ألف سنة، لا يدري أحد كم مضى، ولا كم بقي، إلا الله عزّ وجلّ.

[القول الثالث] أنه اليوم الفاصل بين الدنيا والآخرة، وهو قول غريب جداً. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى بن سعيد القطان، حدثنا بهلول بن المورق، حدثنا موسى بن عبيدة، أخبرني محمد بن كعب: { فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } قال: هو يوم الفصل بين الدنيا والآخرة.

[القول الرابع] أن المراد بذلك يوم القيامة. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان الواسطي، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس: { فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } قال: يوم القيامة. وإسناده صحيح، ورواه الثوري عن سماك بن حرب عن عكرمة: في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة: يوم القيامة. وكذا قال الضحاك وابن زيد. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: { تَعْرُجُ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ وَٱلرُّوحُ إِلَيْهِ فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } قال: هو يوم القيامة، جعله الله تعالى على الكافرين مقدار خمسين ألف سنة، وقد وردت أحاديث في معنى ذلك. قال الإمام أحمد: حدثنا الحسن بن موسى، حدثنا ابن لهيعة، حدثنا دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: { فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } ما أطول هذا اليوم فقال رسول الله: "والذي نفسي بيده إنه ليخفف على المؤمن، حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا" ورواه ابن جرير عن يونس عن ابن وهب عن عمرو بن الحارث عن دراج به، إلا أن دراجاً وشيخه أبا الهيثم ضعيفان، والله أعلم.

وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن قتادة عن أبي عمر العداني قال: كنت عند أبي هريرة، فمر رجل من بني عامر بن صعصعة، فقيل له: هذا أكثر عامري مالاً، فقال أبو هريرة: ردوه إلي، فردوه، فقال: نبئت أنك ذو مال كثير، فقال العامري: إي والله إن لي لمئة حمراً، ومئة أدماً، حتى عدّ من ألوان الإبل وأفنان الرقيق ورباط الخيل، فقال أبو هريرة: إياك وأخفاف الإبل، وأظلاف النعم، يردد ذلك عليه، حتى جعل لون العامري يتغير، فقال: ما ذاك يا أبا هريرة؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من كانت له إبل لا يعطي حقها في نجدتها ورسلها" قلنا: يا رسول الله ما نجدتها ورسلها؟ قال: "في عسرها ويسرها، فإنها تأتي يوم القيامة كأغذ ما كانت، وأكثره وأسمنه وآشره، حتى يبطح لها بقاع قرقر، فتطؤه بأخفاقها، فإذا جاوزته أخراها، أعيدت عليه أولاها، في يوم كام مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين الناس، فيرى سبيله، وإذا كانت له بقر لا يعطي حقها في نجدتها ورسلها، فإنها تأتي يوم القيامة كأغذ ما كانت، وأكثره وأسمنه وآشره، ثم يبطح لها بقاع قرقر، فتطؤه كل ذات ظلف بظلفها، وتنطحه كل ذات قرن بقرنها، ليس فيها عقصاء ولا عضباء، إذا جاوزته أخراها، أعيدت عليه أولاها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين الناس، فيرى سبيله، وإذا كانت له غنم، لا يعطي حقها في نجدتها ورسلها، فإنها تأتي يوم القيامة كأغذ ما كانت وأسمنه وآشره، حتى يبطح لها بقاع قرقر، فتطؤه كل ذات ظلف بظلفها، وتنطحه كل ذات قرن بقرنها، ليس فيها عقصاء ولا عضباء، إذا جاوزته أخراها، أعيدت عليه أولاها، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين الناس، فيرى سبيله" فقال العامري: وما حق الإبل يا أبا هريرة؟ قال: أن تعطي الكريمة، وتمنح الغزيرة، وتفقر الظهر، وتسقي الإبل، وتطرق الفحل. وقد رواه أبو داود من حديث شعبة، والنسائي من حديث سعيد بن أبي عروبة، كلاهما عن قتادة به.

[طريق أخرى لهذا الحديث] قال الإمام أحمد: حدثنا أبو كامل، حدثنا حماد عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من صاحب كنز لا يؤدي حقه، إلا جعل صفائح يحمى عليها في نار جهنم، فتكوى بها جبهته وجنبه وظهره، حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون، ثم يرى سبيله، إما إلى الجنّة، وإما إلى النار" وذكر بقية الحديث في الغنم والإبل كما تقدم، وفيه: "الخيل لثلاثة: لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر" إلى آخره. ورواه مسلم في صحيحه بتمامه منفرداً به دون البخاري من حديث سهيل عن أبيه عن أبي هريرة، وموضع استقصاء طرقه وألفاظه في كتاب الزكاة من كتاب الأحكام، والغرض من إيراده ههنا قوله: "حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة" وقد روى ابن جرير عن يعقوب عن ابن علية، وعبد الوهاب عن أيوب عن ابن أبي مليكة قال: سأل رجل ابن عباس عن قوله: { فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } فقال: ما يوم كان مقداره خمسين ألف سنة؟ قال: فاتهمه، فقال: إنما سألتك لتحدثني، قال: هما يومان ذكرهما الله، والله أعلم بهما، وأكره أن أقول في كتاب الله بما لا أعلم.

وقوله تعالى: { فَٱصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً } أي: اصبر يا محمد على تكذيب قومك لك، واستعجالهم العذاب؛ استبعاداً لوقوعه؛ كقوله: { { يَسْتَعْجِلُ بِهَا ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا ٱلْحَقُّ } [الشورى: 18] ولهذا قال: { إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً } أي: وقوع العذاب، وقيام الساعة، يراه الكفرة بعيد الوقوع، بمعنى: مستحيل الوقوع { وَنَرَاهُ قَرِيباً } أي: المؤمنون يعتقدون كونه قريباً، وإن كان له أمد لا يعلمه إلا الله عزّ وجلّ، لكن كل ما هوآت فهو قريب، وواقع لا محالة.