التفاسير

< >
عرض

فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُواْ قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ
٣٦
عَنِ ٱلْيَمِينِ وَعَنِ ٱلشِّمَالِ عِزِينَ
٣٧
أَيَطْمَعُ كُلُّ ٱمْرِىءٍ مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ
٣٨
كَلاَّ إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ
٣٩
فَلآ أُقْسِمُ بِرَبِّ ٱلْمَشَٰرِقِ وَٱلْمَغَٰرِبِ إِنَّا لَقَٰدِرُونَ
٤٠
عَلَىٰ أَن نُّبَدِّلَ خَيْراً مِّنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ
٤١
فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ حَتَّىٰ يُلَٰقُواْ يَوْمَهُمُ ٱلَّذِي يُوعَدُونَ
٤٢
يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ ٱلأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَىٰ نُصُبٍ يُوفِضُونَ
٤٣
خَٰشِعَةً أَبْصَٰرُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ ٱلْيَوْمُ ٱلَّذِي كَانُواْ يُوعَدُونَ
٤٤
-المعارج

تفسير القرآن العظيم

يقول تعالى منكراً على الكفار الذين كانوا في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهم مشاهدون له، ولما أرسله الله به من الهدى، وما أيّده الله به من المعجزات الباهرات، ثم هم مع هذا كله فارون منه، متفرقون عنه، شاردون يميناً وشمالاً فرقاً فرقاً، وشيعاً شيعاً، كما قال تعالى: { { فَمَا لَهُمْ عَنِ ٱلتَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ } الآية [المدثر: 49 ــــ 51]. وهذه مثلها؛ فإنه قال تعالى: { فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُواْ قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ } أي: فما لهؤلاء الكفار الذين عندك يا محمد مهطعين؟ أي: مسرعين نافرين منك، كما قال الحسن البصري: مهطعين، أي: منطلقين، { عَنِ ٱلْيَمِينِ وَعَنِ ٱلشِّمَالِ عِزِينَ } واحدها عزة، أي: متفرقين، وهو حال من مهطعين، أي: في حال تفرّقهم واختلافهم؛ كما قال الإمام أحمد في أهل الأهواء: فهم مخالفون للكتاب، مختلفون في الكتاب، متفقون على مخالفة الكتاب. وقال العوفي عن ابن عباس: { فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُواْ قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ }، قال: قبلك ينظرون، { عَنِ ٱلْيَمِينِ وَعَنِ ٱلشِّمَالِ عِزِينَ } قال: العزين: العصب من الناس، عن يمين وشمال معرضين يستهزئون به، وقال ابن جرير: حدثنا ابن بشار حدثنا أبو عامر، حدثنا قرة عن الحسن في قوله: { عَنِ ٱلْيَمِينِ وَعَنِ ٱلشِّمَالِ عِزِينَ } أي: متفرقين يأخذون يميناً وشمالاً يقولون: ما قال هذا الرجل؟

وقال قتادة: { مُهْطِعِينَ } عامدين { عَنِ ٱلْيَمِينِ وَعَنِ ٱلشِّمَالِ عِزِينَ } أي: فرقاً حول النبيّ صلى الله عليه وسلم لا يرغبون في كتاب الله، ولا في نبيه صلى الله عليه وسلم. وقال الثوري وشعبة وعبثر بن القاسم وعيسى بن يونس ومحمد بن فضيل ووكيع ويحيى القطان وأبو معاوية، كلهم عن الأعمش، عن المسيب بن رافع، عن تميم بن طرفة، عن جابر بن سمرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عليهم وهم حلق، فقال: "ما لي أراكم عزين؟" رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي وابن جرير من حديث الأعمش به، وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا مؤمل، حدثنا سفيان عن عبد الملك بن عمير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه وهم حلق فقال: "ما لي أراكم عزين؟" وهذا إسناده جيد، ولم أره في شيء من الكتب الستة من هذا الوجه.

وقوله تعالى: { أَيَطْمَعُ كُلُّ ٱمْرِىءٍ مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ كَلاَّ } أي: أيطمع هؤلاء والحالة هذه من فرارهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ونفارهم عن الحق أن يدخلوا جنات النعيم؟ كلا بل مأواهم جهنم. ثم قال تعالى مقرّراً لوقوع المعاد والعذاب بهم، الذي أنكروا كونه، واستبعدوا وجوده، مستدلاً عليهم بالبداءة التي الإعادة أهون منها، وهم معترفون بها، فقال تعالى: { إِنَّا خَلَقْنَـٰهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ } أي: من المني الضعيف؛ كما قال تعالى: { { أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ } [المرسلات: 20] وقال: { { فَلْيَنظُرِ ٱلإِنسَـٰنُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِن مَّآءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِن بَيْنِ ٱلصُّلْبِ وَٱلتَّرَآئِبِ إِنَّهُ عَلَىٰ رَجْعِهِ لَقَادِرٌ يَوْمَ تُبْلَىٰ ٱلسَّرَآئِرُ فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلاَ نَاصِرٍ } [الطارق: 5 ــــ 10] ثم قال تعالى: { فَلاَ أُقْسِمُ بِرَبِّ ٱلْمَشَـٰرِقِ وَٱلْمَغَـٰرِبِ } أي: الذي خلق السموات والأرض، وجعل مشرقاً ومغرباً، وسخر الكواكب تبدو من مشارقها وتغيب في مغاربها. وتقدير الكلام: ليس الأمر كما تزعمون أن لا معاد ولا حساب، ولا بعث ولا نشور، بل كل ذلك واقع وكائن لا محالة، ولهذا أتى بلا في ابتداء القسم؛ ليدلّ على أن المقسم عليه نفي، وهو مضمون الكلام، وهو الرد على زعمهم الفاسد في نفي يوم القيامة. وقد شاهدوا من عظيم قدرة الله تعالى ما هو أبلغ من إقامة القيامة، وهو خلق السموات والأرض، وتسخير ما فيهما من المخلوقات من الحيوانات والجمادات وسائر صنوف الموجودات، ولهذا قال تعالى: { { لَخَلْقُ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ أَكْـبَرُ مِنْ خَلْقِ ٱلنَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكْـثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } [غافر: 57].

وقال تعالى: { { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ ٱللَّهَ ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَلَمْ يَعْىَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْىِ ٱلْمَوْتَىٰ بَلَىٰ إِنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ } [الأحقاف: 33] وقال تعالى في الآية الأخرى: { { أَوَلَـيْسَ ٱلَذِى خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأَرْضَ بِقَـٰدِرٍ عَلَىٰ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَىٰ وَهُوَ ٱلْخَلَّـٰقُ ٱلْعَلِيمُ إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [يس: 81 ــــ 82] وقال ههنا: { فَلاَ أُقْسِمُ بِرَبِّ ٱلْمَشَـٰرِقِ وَٱلْمَغَـٰرِبِ إِنَّا لَقَـٰدِرُونَ عَلَىٰ أَن نُّبَدِّلَ خَيْراً مِّنْهُمْ } أي: يوم القيامة نعيدهم بأبدان خير من هذه؛ فإن قدرته صالحة لذلك، { وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ } أي: بعاجزين؛ كما قال تعالى: { { أَيَحْسَبُ ٱلإِنسَـٰنُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ بَلَىٰ قَـٰدِرِينَ عَلَىٰ أَن نُّسَوِّىَ بَنَانَهُ } [القيامة: 3 ــــ 4] وقال تعالى: { { نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ ٱلْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلَىٰ أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَـٰلَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِى مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [الواقعة: 60 ــــ 61] واختار ابن جرير { عَلَىٰ أَن نُّبَدِّلَ خَيْراً مِّنْهُمْ } أي: أمة تطيعنا ولا تعصينا، وجعلها كقوله: { { وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوۤاْ أَمْثَالَكُم } [محمد: 38] والمعنى الأول أظهر؛ لدلالة الآيات الأخر عليه، والله سبحانه وتعالى أعلم.

ثم قال تعالى: { فَذَرْهُمْ } أي: يا محمد { يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ } أي: دعهم في تكذيبهم وكفرهم وعنادهم { حَتَّىٰ يُلَـٰقُواْ يَوْمَهُمُ ٱلَّذِى يُوعَدُونَ } أي: فسيعلمون غب ذلك، ويذوقون وباله { يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ ٱلأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَىٰ نُصُبٍ يُوفِضُونَ } أي: يقومون من القبور إذا دعاهم الرب تبارك وتعالى لموقف الحساب ينهضون سراعاً، كأنهم إلى نصب يوفضون، قال ابن عباس ومجاهد والضحاك: إلى علم يسعون، وقال أبو العالية ويحيى بن أبي كثير: إلى غاية يسعون إليها، وقد قرأ الجمهور: "إلى نَصْب" بفتح النون وإسكان الصاد، وهو مصدر بمعنى المنصوب، وقرأ الحسن البصري: "نُصُب" بضم النون والصاد، وهو الصنم، أي: كأنهم في إسراعهم إلى الموقف كما كانوا في الدنيا يهرولون إلى النصب إذا عاينوه، يوفضون: يبتدرون أيهم يستلمه أول. وهذا مروي عن مجاهد ويحيى بن أبي كثير ومسلم البطين وقتادة والضحاك والربيع بن أنس وأبي صالح وعاصم بن بهدلة وابن زيد وغيرهم، وقوله تعالى: { خَـٰشِعَةً أَبْصَـٰرُهُمْ } أي: خاضعة { تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ } أي: في مقابلة ما استكبروا في الدنيا عن الطاعة { ذَلِكَ ٱلْيَوْمُ ٱلَّذِى كَانُواْ يُوعَدُونَ }. آخر تفسير سورة سأل سائل، ولله الحمد والمنة.