التفاسير

< >
عرض

قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ ٱسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ ٱلْجِنِّ فَقَالُوۤاْ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً
١
يَهْدِيۤ إِلَى ٱلرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَداً
٢
وَأَنَّهُ تَعَالَىٰ جَدُّ رَبِّنَا مَا ٱتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَداً
٣
وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى ٱللَّهِ شَطَطاً
٤
وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن تَقُولَ ٱلإِنسُ وَٱلْجِنُّ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً
٥
وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ ٱلإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ ٱلْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً
٦
وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ ٱللَّهُ أَحَداً
٧
-الجن

تفسير القرآن العظيم

يقول تعالى آمراً رسوله صلى الله عليه وسلم أن يخبر قومه أن الجن استمعوا القرآن، فآمنوا به وصدقوه وانقادوا له، فقال تعالى: { قُلْ أُوحِىَ إِلَىَّ أَنَّهُ ٱسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ ٱلْجِنِّ فَقَالُوۤاْ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْءَانَاً عَجَباً يَهْدِىۤ إِلَى ٱلرُّشْدِ } أي: إلى السداد والنجاح، { فَـآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَداً } وهذا المقام شبيه بقوله تعالى: { وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ ٱلْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ ٱلْقُرْءَانَ } وقد قدمنا الأحاديث الواردة في ذلك بما أغنى عن إعادتها ههنا.

وقوله تعالى: { وَأَنَّهُ تَعَـٰلَىٰ جَدُّ رَبِّنَا } قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: { جَدُّ رَبِّنَا } أي: فعله وأمره وقدرته. وقال الضحاك عن ابن عباس: جد الله: آلاؤه وقدرته ونعمته على خلقه، وروي عن مجاهد وعكرمة: جلال ربنا، وقال قتادة: تعالى جلاله وعظمته وأمره، وقال السدي: تعالى أمر ربنا. وعن أبي الدرداء ومجاهد أيضاً وابن جريج: تعالى ذكره. وقال سعيد بن جبير: { تَعَـٰلَىٰ جَدُّ رَبِّنَا } أي: تعالى ربنا، فأما ما رواه ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري، حدثنا سفيان عن عمرو، عن عطاء، عن ابن عباس، قال: الجد أب، ولو علمت الجن أن في الإنس جداً، ما قالوا: تعالى جد ربنا، فهذا إسناد جيد، ولكن لست أفهم ما معنى هذا الكلام، ولعله قد سقط شيء، والله أعلم.

وقوله تعالى: { مَا ٱتَّخَذَ صَـٰحِبَةً وَلاَ وَلَداً } أي: تعالى عن اتخاذ الصاحبة والأولاد، أي: قالت الجن: تنزّه الرب جل جلاله حين أسلموا وآمنوا بالقرآن عن اتخاذ الصاحبة والولد، ثم قالوا: { وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى ٱللَّهِ شَطَطاً } قال مجاهد وعكرمة وقتادة والسدي: { سَفِيهُنَا } يعنون: إبليس { شَطَطاً } قال السدي عن أبي مالك: { شَطَطاً } أي: جوراً، وقال ابن زيد: أي: ظلماً كبيراً، ويحتمل أن يكون المراد بقولهم: سفيهنا، اسم جنس لكل من زعم أن لله صاحبة أو ولداً، ولهذا قالوا: { وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا } أي: قبل إسلامه { عَلَى ٱللَّهِ شَطَطاً } أي: باطلاً وزوراً، ولهذا قالوا: { وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن تَقُولَ ٱلإِنسُ وَٱلْجِنُّ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً } أي: ما حسبنا أن الإنس والجن يتمالؤون على الكذب على الله تعالى في نسبة الصاحبة والولد إليه، فلما سمعنا هذا القرآن وآمنا به، علمنا أنهم كانوا يكذّبون على الله في ذلك.

وقوله تعالى: { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ ٱلإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ ٱلْجِنِّ فَزَادوهُمْ رَهَقاً } أي: كنا نرى أن لنا فضلاً على الإنس؛ لأنهم كانوا يعوذون بنا إذا نزلوا وادياً أو مكاناً موحشاً من البراري وغيرها، كما كانت عادة العرب في جاهليتها يعوذون بعظيم ذلك المكان من الجان أن يصيبهم بشيء يسوءُهم، كما كان أحدهم يدخل بلاد أعدائه في جوار رجل كبير وذمامه وخفارته، فلما رأت الجن أن الإنس يعوذون بهم من خوفهم منهم، زادوهم رهقاً، أي: خوفاً وإرهاباً وذعراً، حتى بقوا أشد منهم مخافة، وأكثر تعوّذاً بهم، كما قال قتادة: { فَزَادوهُمْ رَهَقاً } أي: إثماً، وازدادت الجن عليهم بذلك جراءة، وقال الثوري عن منصور عن إبراهيم { فَزَادُوهُمْ رَهَقاً } أي ازدادت الجن عليهم جرأة. وقال السدي: كان الرجل يخرج بأهله، فيأتي الأرض فينزلها فيقول: أعوذ بسيد هذا الوادي من الجن أن أضر أنا فيه، أو مالي أو ولدي أو ماشيتي، قال قتادة: فإذا عاذ بهم من دون الله، رهقتهم الجن الأذى عند ذلك.

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد يحيى بن سعيد القطان، حدثنا وهب بن جرير، حدثنا أبي، حدثنا الزبير بن الخريت عن عكرمة قال: كان الجن يفرقون من الإنس كما يفرق الإنس منهم أو أشد، فكان الإنس إذا نزلوا وادياً، هرب الجن، فيقول سيد القوم: نعوذ بسيد أهل هذا الوادي، فقال الجن: نراهم يفرقون منا كما نفرق منهم، فدنوا من الإنس فأصابوهم بالخبل والجنون، فذلك قول الله عز وجل: { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ ٱلإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ ٱلْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً } أي: إثماً. وقال أبو العالية والربيع وزيد بن أسلم: { رَهَقاً } أي: خوفاً. وقال العوفي عن ابن عباس: { فَزَادُوهُمْ رَهَقاً } أي: إثماً، وكذا قال قتادة. وقال مجاهد: زاد الكفار طغياناً.

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا فروة بن المغراء الكندي، حدثنا القاسم بن مالك ــــ يعني: المزني ــــ عن عبد الرحمن بن إسحاق عن أبيه عن كردم بن أبي السائب الأنصاري قال: خرجت مع أبي من المدينة في حاجة، وذلك أول ما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فآوانا المبيت إلى راعي غنم، فلما انتصف الليل، جاء ذئب فأخذ حملاً من الغنم، فوثب الراعي فقال: يا عامر الوادي جارك، فنادى مناد لا نراه يقول: يا سرحان أرسله. فأتى الحمل يشتد حتى دخل في الغنم لم تصبه كدمة. وأنزل الله تعالى على رسوله بمكة: { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ ٱلإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ ٱلْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً } ثم قال: وروي عن عبيد بن عمير ومجاهد وأبي العالية والحسن وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي نحوه، وقد يكون هذا الذئب الذي أخذ الحمل، وهو ولد الشاة، كان جنياً حتى يرهب الإنسي ويخاف منه، ثم رده عليه لما استجار به؛ ليضله ويهينه ويخرجه عن دينه، والله أعلم. وقوله تعالى: { وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ ٱللَّهُ أَحَداً } أي: لن يبعث الله بعد هذه المدة رسولاً، قاله الكلبي وابن جرير.