التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلْمُدَّثِّرُ
١
قُمْ فَأَنذِرْ
٢
وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ
٣
وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ
٤
وَٱلرُّجْزَ فَٱهْجُرْ
٥
وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ
٦
وَلِرَبِّكَ فَٱصْبِرْ
٧
فَإِذَا نُقِرَ فِي ٱلنَّاقُورِ
٨
فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ
٩
عَلَى ٱلْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ
١٠
-المدثر

تفسير القرآن العظيم

ثبت في "صحيح البخاري" من حديث يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن جابر أنه كان يقول: أول شيء نزل من القرآن { يٰأَيُّهَا ٱلْمُدَّثِّرُ } وخالفه الجمهور فذهبوا إلى أن أول القرآن نزولاً قوله تعالى: { { ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلَّذِى خَلَقَ } [العلق: 1] كما سيأتي ذلك هنالك إن شاء الله تعالى. قال البخاري: حدثنا يحيى، حدثنا وكيع عن علي بن المبارك، عن يحيى بن أبي كثير قال: سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن أول ما نزل من القرآن فقال: { يٰأَيُّهَا ٱلْمُدَّثِّرُ } قلت يقولون: { { ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلَّذِى خَلَقَ } [العلق: 1] فقال أبو سلمة: سألت جابر بن عبد الله عن ذلك، وقلت له مثل ما قلت لي، فقال جابر: لا أحدثك إلا ما حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "جاورت بحراء، فلما قضيت جواري، هبطت فنوديت، فنظرت عن يميني فلم أر شيئاً، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئاً، ونظرت أمامي فلم أر شيئاً، ونظرت خلفي فلم أر شيئاً، فرفعت رأسي فرأيت شيئاً، فأتيت خديجة، فقلت: دثروني وصبوا عليَّ ماء بارداً ــــ قال ــــ فدثروني وصبوا علي ماء بارداً ــــ قال ــــ فنزلت: { يٰأَيُّهَا ٱلْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ }" هكذا ساقه من هذا الوجه. وقد رواه مسلم من طريق عقيل عن ابن شهاب عن أبي سلمة قال: أخبرني جابر بن عبد الله أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث عن فترة الوحي، فقال في حديثه: "فبينا أنا أمشي، إذ سمعت صوتاً من السماء، فرفعت بصري قبل السماء، فإذا الملك الذي جاءني بحراء قاعد على كرسي بين السماء والأرض، فجئثت منه حتى هويت إلى الأرض، فجئت إلى أهلي فقلت: زملوني زملوني، فزملوني، فأنزل الله تعالى: { يٰأَيُّهَا ٱلْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنذِرْ } ــــ إلى ــــ ــــ قال أبو سلمة: والرجز: الأوثان ــــ ثم حمي الوحي وتتابع" هذا لفظ البخاري، وهذا السياق هو المحفوظ، وهو يقتضي أنه قد نزل الوحي قبل هذا؛ لقوله: "فإذا الملك الذي جاءني بحراء" وهو جبريل حين أتاه بقوله: { { ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ خَلَقَ ٱلإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ ٱقْرَأْ وَرَبُّكَ ٱلأَكْرَمُ ٱلَّذِى عَلَّمَ بِٱلْقَلَمِ عَلَّمَ ٱلإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } [العلق: 1 ــــ 5] ثم إنه حصل بعد هذا فترة، ثم نزل الملك بعد هذا.

ووجه الجمع أن أول شيء نزل بعد فترة الوحي هذه السورة؛ كما قال الإمام أحمد: حدثنا حجاج، حدثنا ليث، حدثنا عقيل عن ابن شهاب قال: سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن يقول: أخبرني جابر بن عبد الله: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ثم فتر الوحي عني فترة، فبينا أنا أمشي سمعت صوتاً من السماء، فرفعت بصري قبل السماء، فإذا الملك الذي جاءني قاعد على كرسي بين السماء والأرض، فجئثت منه فرقاً حتى هويت إلى الأرض، فجئت أهلي، فقلت لهم: زملوني زملوني، فزملوني، فأنزل الله تعالى: { يٰأَيُّهَا ٱلْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَٱلرُّجْزَ فَٱهْجُرْ } ثم حمي الوحي وتتابع" أخرجاه من حديث الزهري به. وقال الطبراني: حدثنا محمد بن علي بن شعيب السمسار، حدثنا الحسن ابن بشر البجلي، حدثنا المعافى بن عمران عن إبراهيم بن يزيد: سمعت ابن أبي مليكة يقول: سمعت ابن عباس يقول: إن الوليد بن المغيرة صنع لقريش طعاماً، فلما أكلوا منه، قال: ما تقولون في هذا الرجل؟ فقال بعضهم: ساحر، وقال بعضهم: ليس بساحر، وقال بعضهم: كاهن، وقال بعضهم: ليس بكاهن، وقال بعضهم: شاعر، وقال بعضهم: ليس بشاعر، وقال بعضهم: بل سحر يؤثر، فأجمع رأيهم على أنه سحر يؤثر، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فحزن وقنع رأسه وتدثر، فأنزل الله تعالى: { يٰأَيُّهَا ٱلْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَٱلرُّجْزَ فَٱهْجُرْ وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ وَلِرَبِّكَ فَٱصْبِرْ } وقوله تعالى: { قُمْ فَأَنذِرْ } أي: شمر عن ساق العزم وأنذر الناس، وبهذا حصل الإرسال كما حصل بالأول النبوة.

{ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ } أي: عظم. وقوله تعالى: { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } قال الأجلح الكندي عن عكرمة، عن ابن عباس: أنه أتاه رجل فسأله عن هذه الآية: { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } قال: لا تلبسها على معصية، ولا على غدرة. ثم قال: أما سمعت قول غيلان بن سلمة الثقفي:

فَإِني بِحَمْدِ اللّهِ لا ثَوْبَ فاجِرٍلَبِسْتُ ولا مِنْ غَدْرَةٍ أَتَقَنَّعُ

وقال ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس في الآية: { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } قال: في كلام العرب: نقي الثياب. وفي رواية بهذا الإسناد: فطهر من الذنوب، وكذا قال إبراهيم والشعبي وعطاء، وقال الثوري عن رجل عن عطاء عن ابن عباس في هذه الآية: { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } قال: من الإثم، وكذا قال إبراهيم النخعي. وقال مجاهد: { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } قال: نفسك، ليس ثيابك، وفي رواية عنه: { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } أي: عملك فأصلح، وكذا قال أبو رزين، وقال في رواية أخرى: { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } أي: لست بكاهن ولا ساحر، فأعرض عما قالوا. وقال قتادة: { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } أي: طهرها من المعاصي، وكانت العرب تسمي الرجل، إذا نكث ولم يف بعهد الله: إنه لدنس الثياب، وإذا وفى وأصلح: إنه لمطهر الثياب، وقال عكرمة والضحاك: لا تلبسها على معصية. وقال الشاعر:

إذا المَرْءُ لم يَدْنَسْ منَ اللُّؤْمِ عِرْضُهُفَكُلُّ رِداءٍ يَرْتَديهِ جَميلُ

وقال العوفي عن ابن عباس: { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } يعني: لا تكن ثيابك التي تلبس من مكسب غير طائب، ويقال: لا تلبس ثيابك على معصية، وقال محمد بن سيرين: { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } أي: اغسلها بالماء، وقال ابن زيد: كان المشركون لا يتطهرون، فأمره الله أن يتطهر، وأن يطهر ثيابه، وهذا القول اختاره ابن جرير، وقد تشمل الآية جميع ذلك، مع طهارة القلب؛ فإن العرب تطلق الثياب عليه؛ كما قال امرؤ القيس:

أفاطِمُ مَهْلاً بَعْضَ هذا التَّدَلُّلِوإنْ كُنْتِ قَدْ أَزْمَعْتِ هَجْري فَأَجْمِلي
وإنْ تَكُ قَدْ ساءَتْكِ مِني خَليقَةٌفَسُلِّي ثِيابي منْ ثيابِك تَنْسُلِ

وقال سعيد بن جبير: { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ }: وقلبك ونيتك فطهر، وقال محمد بن كعب القرظي والحسن البصري: وخلقك فحسن. وقوله تعالى: { وَٱلرُّجْزَ فَٱهْجُرْ } قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: والرجز، وهو الأصنام، فاهجر، وكذا قال مجاهد وعكرمة وقتادة والزهري وابن زيد: إنها الأوثان، وقال إبراهيم والضحاك: { وَٱلرُّجْزَ فَٱهْجُرْ } أي: اترك المعصية، وعلى كل تقدير فلا يلزم تلبسه بشيء من ذلك؛ كقوله تعالى: { يٰۤأَيُّهَا ٱلنَّبِىِّ ٱتَّقِ ٱللَّهَ وَلاَ تُطِعِ ٱلْكَـٰفِرِينَ وَٱلْمُنَـٰفِقِينَ } [الأحزاب: 1] { { وَقَالَ مُوسَىٰ لأَخِيهِ هَـٰرُونَ ٱخْلُفْنِى فِى قَوْمِى وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ ٱلْمُفْسِدِينَ } [الأعراف: 142]. وقوله تعالى: { وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ } قال ابن عباس: لا تعط العطية تلتمس أكثر منها، وكذا قال عكرمة ومجاهد وعطاء وطاوس وأبو الأحوص وإبراهيم النخعي والضحاك وقتادة والسدي وغيرهم، وروي عن ابن مسعود أنه قرأ: (ولا تمنن أن تستكثر) وقال الحسن البصري: لا تمنن بعملك على ربك تستكثره، وكذا قال الربيع بن أنس، واختاره ابن جرير، وقال خصيف عن مجاهد في قوله تعالى: { وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ } قال: لا تضعف أن تستكثر من الخير، قال: تمنن في كلام العرب: تضعف، وقال ابن زيد: لا تمنن بالنبوة على الناس، تستكثرهم بها، تأخذ عليه عوضاً من الدنيا. فهذه أربعة أقوال، والأظهر القول الأول، والله أعلم.

وقوله تعالى: { وَلِرَبِّكَ فَٱصْبِرْ } أي: اجعل صبرك على أذاهم لوجه ربك عز وجل، قاله مجاهد. وقال إبراهيم النخعي: اصبر عطيتك لله عز وجل. وقوله تعالى: { فَإِذَا نُقِرَ فِى ٱلنَّاقُورِ فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى ٱلْكَـٰفِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ } قال ابن عباس ومجاهد والشعبي وزيد بن أسلم والحسن وقتادة والضحاك والربيع بن أنس والسدي وابن زيد: { ٱلنَّاقُورِ }: الصور، قال مجاهد: وهو كهيئة القرن. وقال ابن أبي حاتم: حدثناأبو سعيد الأشج، حدثنا أسباط بن محمد عن مطرف عن عطية العوفي عن ابن عباس: { فَإِذَا نُقِرَ فِى ٱلنَّاقُورِ } فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كيف أنعم، وصاحب القرن قد التقم القرن، وحنى جبهته ينتظر متى يؤمر فينفخ؟" فقال: أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: "قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، على الله توكلنا" وهكذا رواه الإمام أحمد عن أسباط به، ورواه ابن جرير عن أبي كريب عن ابن فضيل وأسباط، كلاهما عن مطرف به، ورواه من طريق أخرى عن العوفي عن ابن عباس به.

وقوله تعالى: { فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ } أي: شديد { عَلَى ٱلْكَـٰفِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ } أي: غير سهل عليهم؛ كما قال تعالى: { { يَقُولُ ٱلْكَـٰفِرُونَ هَـٰذَا يَوْمٌ عَسِرٌ } [القمر: 8]، وقد روينا عن زرارة بن أوفى قاضي البصرة أنه صلى بهم الصبح، فقرأ هذه السورة، فلما وصل إلى قوله تعالى: { فَإِذَا نُقِرَ فِى ٱلنَّاقُورِ فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى ٱلْكَـٰفِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ } شهق شهقة ثم خرّ ميتاًرحمه الله تعالى.