التفاسير

< >
عرض

لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ
١٦
إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ
١٧
فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَٱتَّبِعْ قُرْآنَهُ
١٨
ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ
١٩
كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ ٱلْعَاجِلَةَ
٢٠
وَتَذَرُونَ ٱلآخِرَةَ
٢١
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ
٢٢
إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ
٢٣
وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ
٢٤
تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ
٢٥
كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ ٱلتَّرَاقِيَ
٢٦
وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ
٢٧
وَظَنَّ أَنَّهُ ٱلْفِرَاقُ
٢٨
وَٱلْتَفَّتِ ٱلسَّاقُ بِٱلسَّاقِ
٢٩
إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ ٱلْمَسَاقُ
٣٠
فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّىٰ
٣١
وَلَـٰكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ
٣٢
ثُمَّ ذَهَبَ إِلَىٰ أَهْلِهِ يَتَمَطَّىٰ
٣٣
أَوْلَىٰ لَكَ فَأَوْلَىٰ
٣٤
ثُمَّ أَوْلَىٰ لَكَ فَأَوْلَىٰ
٣٥
أَيَحْسَبُ ٱلإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى
٣٦
أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَىٰ
٣٧
ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّىٰ
٣٨
فَجَعَلَ مِنْهُ ٱلزَّوْجَيْنِ ٱلذَّكَرَ وَٱلأُنثَىٰ
٣٩
أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِـيَ ٱلْمَوْتَىٰ
٤٠
-القيامة

تفسير القرآن العظيم

هذا تعليم من الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم في كيفية تلقيه الوحي من الملك، فإنه كان يبادر إلى أخذه، ويسابق الملك في قراءته، فأمره الله عز وجل إذا جاءه الملك بالوحي أن يستمع له، وتكفل الله له أن يجمعه في صدره، وأن ييسره لأدائه على الوجه الذي ألقاه إليه، وأن يبينه له، ويفسره ويوضحه. فالحالة الأولى جمعه في صدره، والثانية تلاوته، والثالثة تفسيره وإيضاح معناه. ولهذا قال تعالى: { لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ } أي: بالقرآن؛ كما قال تعالى: { { وَلاَ تَعْجَلْ بِٱلْقُرْءانِ مِن قَبْلِ إَن يُقْضَىٰ إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِى عِلْماً } [طه: 114] ثم قال تعالى: { إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ } أي: في صدرك { وَقُرْءَانَهُ } أي: أن تقرأه { فَإِذَا قَرَأْنَـٰهُ } أي: إذا تلاه عليك الملك عن الله تعالى { فَٱتَّبِعْ قُرْءَانَهُ } أي: فاستمع له، ثم اقرأه كما أقرأك، { ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } أي: بعد حفظه وتلاوته نبينه لك، ونوضحه، ونلهمك معناه على ما أردنا وشرعنا. قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن عن أبي عوانة عن موسى بن أبي عائشة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة، فكان يحرك شفتيه قال: فقال لي ابن عباس: أنا أحرك شفتي كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرك شفتيه، وقال لي سعيد: وأنا أحرك شفتي كما رأيت ابن عباس يحرك شفتيه، فأنزل الله عز وجل: { لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْءَانَهُ } قال: جمعه في صدرك، ثم تقرؤه { فَإِذَا قَرَأْنَـٰهُ فَٱتَّبِعْ قُرْءَانَهُ } أي: فاستمع له وأنصت، { ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } فكان بعد ذلك إذا انطلق جبريل، قرأه كما أقرأه. وقد رواه البخاري ومسلم من غير وجه عن موسى بن أبي عائشة به. ولفظ البخاري: فكان إذا أتاه جبريل، أطرق، فإذا ذهب، قرأه كما وعده الله عز وجل.

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو يحيى التيمي، حدثنا موسى بن أبي عائشة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي، يلقى منه شدة، وكان إذا نزل عليه، عرف في تحريكه شفتيه، يتلقى أوله، ويحرك به شفتيه، خشية أن ينسى أوله قبل أن يفرغ من آخره، فأنزل الله تعالى: { لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ } وهكذا قال الشعبي والحسن البصري وقتادة ومجاهد والضحاك وغير واحد: إن هذه الآية نزلت في ذلك. وقد روى ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس: { لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ } قال: كان لا يفتر من القراءة مخافة أن ينساه، فقال الله تعالى: { لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ }: أن نجمعه لك، { وَقُرْءَانَهُ }: أن نقرئك فلا تنسى، وقال ابن عباس وعطية العوفي: { ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } تبيين حلاله وحرامه، وكذا قال قتادة. وقوله تعالى: { كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ ٱلْعَاجِلَةَ وَتَذَرُونَ ٱلأَخِرَةَ } أي: إنما يحملهم على التكذيب بيوم القيامة، ومخالفة ما أنزله الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم من الوحي الحق والقرآن العظيم، أنهم إنما همتهم إلى الدار الدنيا العاجلة، وهم لاهون متشاغلون عن الآخرة. ثم قال تعالى: { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ } من النضارة، أي: حسنة بهية مشرقة مسرورة { إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } أي: تراه عياناً؛ كما رواه البخاريرحمه الله تعالى في صحيحه: "إنكم سترون ربكم عياناً" . وقد ثبتت رؤية المؤمنين لله عز وجل في الدار الآخرة في الأحاديث الصحاح من طرق متواترة عند أئمة الحديث، لا يمكن دفعها ولا منعها؛ لحديث أبي سعيد وأبي هريرة، وهما في الصحيحين: أنَّ ناساً قالوا: يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال: "هل تضارون في رؤية الشمس والقمر ليس دونهما سحاب؟" قالوا: لا، قال: "فإنكم ترون ربكم كذلك"

وفي الصحيحين عن جرير قال: نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القمر ليلة البدر فقال: "إنكم ترون ربكم كما ترون هذا القمر! فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس ولا قبل غروبها فافعلوا" وفي الصحيحين عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى الله عز وجل إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن" . وفي أفراد مسلم عن صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دخل أهل الجنة الجنة ــــ قال ــــ يقول الله تعالى: تريدون شيئاً أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا! ألم تدخلنا الجنة، وتنجنا من النار! قال: فيكشف الحجاب، فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى ربهم، وهي الزيادة" ثم تلا هذه الآية: { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ ٱلْحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌ } وفي أفراد مسلم عن جابر في حديثه: "إن الله يتجلى للمؤمنين يضحك" يعني: في عرصات القيامة. ففي هذه الأحاديث أن المؤمنين ينظرون إلى ربهم عز وجل في العرصات، وفي روضات الجنات، وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية، حدثنا عبد الملك بن أبجر، حدثنا ثوير بن أبي فاخته عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أدنى أهل الجنة منزلة لينظر في ملكه ألفي سنة يرى أقصاه كما يرى أدناه، ينظر إلى أزواجه وخدمه، وإن أفضلهم منزلة لينظر في وجه الله كل يوم مرتين" ورواه الترمذي عن عبد بن حميد عن شبابة عن إسرائيل عن ثوير قال: سمعت ابن عمر، فذكره، قال: ورواه عبد الملك بن أبجر عن ثوير عن مجاهد عن ابن عمر، وكذلك رواه الثوري عن ثوير عن مجاهد عن ابن عمر، ولم يرفعه، ولولا خشية الإطالة، لأوردنا الأحاديث بطرقها وألفاظها من الصحاح والحسان والمسانيد والسنن، ولكن ذكرنا ذلك مفرقاً في مواضع من هذا التفسير، وبالله التوفيق.

وهذا بحمد الله مجمع عليه بين الصحابة والتابعين، وسلف هذه الأمة، كما هو متفق عليه بين أئمة الإسلام، وهداة الأنام، ومن تأول ذلك بأن المراد بــ (إلى) مفرد الآلاء، وهي النعم؛ كما قال الثوري عن منصور عن مجاهد: { إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } قال: تنتظر الثواب من ربها، رواه ابن جرير من غير وجه عن مجاهد، وكذا قال أبو صالح أيضاً، فقد أبعد هذا القائل النجعة، وأبطل فيما ذهب إليه، وأين هو من قوله تعالى: { { كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ } [المطففين: 15] قال الشافعيرحمه الله تعالى: ما حجب الكفار، إلا وقد علم أن الأبرار يرونه عز وجل. ثم قد تواترت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما دل عليه سياق الآية الكريمة، وهي قوله تعالى: { إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } قال ابن جرير: حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري، حدثنا آدم، حدثنا المبارك عن الحسن: { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ } قال: حسنة { إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } قال: تنظر إلى الخالق، وحق لها أن تنضر وهي تنظر إلى الخالق.

وقوله تعالى: { وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ } هذه وجوه الفجار، تكون يوم القيامة باسرة، قال قتادة: كالحة، وقال السدي: تغير ألوانها، وقال ابن زيد: { بَاسِرَةٌ } أي: عابسة { تَظُنُّ } أي: تستيقن { أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ } قال مجاهد: داهية، وقال قتادة: شر، وقال السدي. تستيقن أنها هالكة، وقال ابن زيد: تظن أن ستدخل النار، وهذا المقام كقوله تعالى: { { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } [آل عمران: 106] وكقوله تعالى: { { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ضَـٰحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَفَرَةُ ٱلْفَجَرَةُ } [عبس: 38 ــــ 42] وكقوله تعالى: { { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَـٰشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ تَصْلَىٰ نَاراً حَامِيَةً } ــــ إلى قوله ــــ { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ } [الغاشية:2-10] في أشباه ذلك من الآيات والسياقات.

يخبر تعالى عن حالة الاحتضار، وما عنده من الأهوال، ثبتنا الله هنالك بالقول الثابت، فقال تعالى: { كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ ٱلتَّرَاقِىَ } إن جعلنا (كلا) رادعة، فمعناها: لست يابن آدم هناك تكذب بما أخبرت به، بل صار ذلك عندك عياناً، وإن جعلناها بمعنى حقاً، فظاهر، أي: حقاً إذا بلغت التراقي، أي: انتزعت روحك من جسدك، وبلغت تراقيك، والتراقي جمع ترقوة، وهي العظام التي بين ثغرة النحر والعاتق؛ كقوله تعالى: { { فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ ٱلْحُلْقُومَ وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَـٰكِن لاَّ تُبْصِرُونَ فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَآ إِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ } [الواقعة: 83 ــــ 87] وهكذا قال ههنا: { كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ ٱلتَّرَاقِىَ } ويذكر ههنا حديث بسر بن جحاش الذي تقدم في سورة يس. والتراقي جمع ترقوة، وهي قريبة من الحلقوم { وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ }؟ قال عكرمة عن ابن عباس: أي: من راق يرقي؟ وكذا قال أبو قلابة: { وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ } أي: من طبيب شاف؟ وكذا قال قتادة والضحاك وابن زيد، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا نصر بن علي، حدثنا روح بن المسيب أبو رجاء الكلبي، حدثنا عمرو بن مالك عن أبي الجوزاء عن ابن عباس { وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ } قيل: من يرقى بروحه، ملائكة الرحمة، أم ملائكة العذاب؟ فعلى هذا يكون من كلام الملائكة.

وبهذا الإسناد عن ابن عباس في قوله: { وَٱلْتَفَّتِ ٱلسَّاقُ بِٱلسَّاقِ } قال: التفت عليه الدنيا والآخرة، وكذا قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: { وَٱلْتَفَّتِ ٱلسَّاقُ بِٱلسَّاقِ } يقول: آخر يوم من أيام الدنيا أول يوم من أيام الآخرة، فتلتقي الشدة بالشدة، إلا منرحمه الله . وقال عكرمة: { وَٱلْتَفَّتِ ٱلسَّاقُ بِٱلسَّاقِ } الأمر العظيم بالأمر العظيم، وقال مجاهد: بلاء ببلاء، وقال الحسن البصري في قوله تعالى: { وَٱلْتَفَّتِ ٱلسَّاقُ بِٱلسَّاقِ } هما ساقاك إذا التفتا، وفي رواية عنه: ماتت رجلاه فلم تحملاه، وقد كان عليهما جوالاً، وكذا قال السدي عن أبي مالك، وفي رواية عن الحسن: هو لفهما في الكفن، وقال الضحاك: { وَٱلْتَفَّتِ ٱلسَّاقُ بِٱلسَّاقِ } اجتمع عليه أمران: الناس يجهزون جسده، والملائكة يجهزون روحه. وقوله تعالى: { إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ ٱلْمَسَاقُ } أي: المرجع والمآب، وذلك أن الروح ترفع إلى السموات، فيقول الله عز وجل: ردوا عبدي إلى الأرض؛ فإني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى؛ كما ورد في حديث البراء الطويل. وقد قال الله تعالى: { { وَهُوَ ٱلْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىٰ إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ ثُمَّ رُدُّوۤاْ إِلَىٰ ٱللَّهِ مَوْلَـٰهُمُ ٱلْحَقِّ أَلاَ لَهُ ٱلْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ ٱلْحَـٰسِبِينَ } [الأنعام: 61 ــــ 62].

وقوله جل وعلا: { فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّىٰ وَلَـٰكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ } هذا إخبار عن الكافر الذي كان في الدار الدنيا مكذباً للحق بقلبه، متولياً عن العمل بقالبه، فلا خير فيه باطناً ولا ظاهراً، ولهذا قال تعالى: { فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّىٰ وَلَـٰكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ ثُمَّ ذَهَبَ إِلَىٰ أَهْلِهِ يَتَمَطَّىٰ } أي: جذلاً أشراً بطراً، كسلاناً لا همة له ولا عمل؛ كما قال تعالى: { { وَإِذَا ٱنقَلَبُوۤاْ إِلَىٰ أَهْلِهِمْ ٱنقَلَبُواْ فَكِهِينَ } [المطففين: 31] وقال تعالى: { { إِنَّهُ كَانَ فِىۤ أَهْلِهِ مَسْرُوراً إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ } [الانشقاق: 13 ــــ 14] أي: يرجع { بَلَىٰ إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً } وقال الضحاك عن ابن عباس: { ثُمَّ ذَهَبَ إِلَىٰ أَهْلِهِ يَتَمَطَّىٰ } أي: يختال. وقال قتادة وزيد بن أسلم: يتبختر. قال الله تعالى: { أَوْلَىٰ لَكَ فَأَوْلَىٰ ثُمَّ أَوْلَىٰ لَكَ فَأَوْلَىٰ } وهذا تهديد ووعيد أكيد من الله تعالى للكافر به، المتبختر في مشيه، أي: يحق لك أن تمشي هكذا، وقد كفرت بخالقك وبارئك؛ كما يقال في مثل هذا على سبيل التهكم والتهديد؛ كقوله تعالى: { { ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْكَرِيمُ } [الدخان: 49] وكقوله تعالى: { { كُلُواْ وَتَمَتَّعُواْ قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُّجْرِمُونَ } [المرسلات: 46] وكقوله تعالى: { فَٱعْبُدُواْ مَا شِئْتُمْ مِّن دُونِهِ } وكقوله جل جلاله: { ٱعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ } [فصلت: 40] إلى غير ذلك. وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان الواسطي، حدثنا عبد الرحمن، يعني: ابن مهدي، عن إسرائيل عن موسى بن أبي عائشة قال: سألت سعيد بن جبير قلت: { أَوْلَىٰ لَكَ فَأَوْلَىٰ ثُمَّ أَوْلَىٰ لَكَ فَأَوْلَىٰ }؟ قال: قاله النبي صلى الله عليه وسلم لأبي جهل، ثم نزل به القرآن.

وقال أبو عبد الرحمن النسائي: حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا أبو النعمان، حدثنا أبو عوانة "ح" وحدثنا أبو داود، حدثنا محمد بن سليمان، حدثنا أبو عوانة عن موسى بن أبي عائشة عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: { أَوْلَىٰ لَكَ فَأَوْلَىٰ ثُمَّ أَوْلَىٰ لَكَ فَأَوْلَىٰ }؟ قال: قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي جهل، ثم أنزله الله عز وجل، قال ابن أبي حاتم: وحدثنا أبي، حدثنا هشام بن خالد، حدثنا شعيب عن إسحاق، حدثنا سعيد عن قتادة قوله: { أَوْلَىٰ لَكَ فَأَوْلَىٰ ثُمَّ أَوْلَىٰ لَكَ فَأَوْلَىٰ } وعيد على أثر وعيد، كما تسمعون، وزعموا أن عدو الله أبا جهل أخذ نبي الله صلى الله عليه وسلم بمجامع ثيابه، ثم قال: "أولى لك فأولى، ثم أولى لك فأولى" فقال عدو الله أبو جهل: أتوعدني يا محمد؟ والله لا تستطيع أنت ولا ربك شيئاً، وإني لأعز من مشى بين جبليها. وقوله تعالى: { أَيَحْسَبُ ٱلإِنسَـٰنُ أَن يُتْرَكَ سُدًى } قال السدي: يعني: لا يبعث. وقال مجاهد والشافعي وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: يعني: لا يؤمر ولا ينهى، والظاهر أن الآية تعم الحالين، أي: ليس يترك في هذه الدنيا مهملاً، لا يؤمر ولا ينهى، ولا يترك في قبره سدى، لا يبعث، بل هو مأمور منهي في الدنيا، محشور إلى الله في الدار الآخرة، والمقصود هنا إثبات المعاد، والرد على من أنكره من أهل الزيغ والجهل والعناد، ولهذا قال تعالى مستدلاً على الإعادة بالبداءة فقال تعالى: { أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِىٍّ يُمْنَىٰ }؟ أي: أما كان الإنسان نطفة ضعيفة من ماء مهين يمنى: يراق من الأصلاب في الأرحام؟

{ ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّىٰ } أي: فصار علقة، ثم مضغة، ثم شكل ونفخ فيه الروح، فصار خلقاً سوياً سليم الأعضاء، ذكراً أو أنثى بإذن الله وتقديره. ولهذا قال تعالى: { فَجَعَلَ مِنْهُ ٱلزَّوْجَيْنِ ٱلذَّكَرَ وَٱلأُنثَىٰ } ثم قال تعالى: { أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَـٰدِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِىَ ٱلْمَوْتَىٰ }؟ أي: أما هذا الذي أنشأ هذا الخلق السوي من هذه النطفة الضعيفة بقادر على أن يعيده كما بدأه؟ وتناول القدرة للإعادة إما بطريق الأولى بالنسبة إلى البداءة، وإما مساوية على القولين في قوله تعالى: { { وَهُوَ ٱلَّذِى يَبْدَأُ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } [الروم: 27] والأول أشهر؛ كما تقدم في سورة الروم بيانه وتقريره، والله أعلم.

قال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح، حدثنا شبابة عن شعبة، عن موسى بن أبي عائشة عن آخر: أنه كان فوق سطح يقرأ، ويرفع صوته بالقرآن، فإذا قرأ: { أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَـٰدِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِىَ ٱلْمَوْتَىٰ }؟ قال: سبحانك اللهم، فبلى، فسئل عن ذلك فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك. وقال أبو داودرحمه الله : حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن موسى بن أبي عائشة قال: كان رجل يصلي فوق بيته، فكان إذا قرأ: { أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَـٰدِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِىَ ٱلْمَوْتَىٰ }؟ قال: سبحانك فبلى، فسألوه عن ذلك فقال: سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، تفرد به أبو داود، ولم يسم هذا الصحابي، ولا يضر ذلك.

وقال أبو داود أيضاً: حدثنا عبد الله بن محمد الزهري، حدثنا سفيان، حدثني إسماعيل بن أمية، سمعت أعرابياً يقول: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ منكم بالتين والزيتون، فانتهى إلى آخرها: { أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِأَحْكَمِ ٱلْحَـٰكِمِينَ }؟ فليقل: بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين، ومن قرأ: { لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ ٱلْقِيَـٰمَةِ } فانتهى إلى قوله: { أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَـٰدِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِىَ ٱلْمَوْتَىٰ }؟ فليقل: بلى، ومن قرأ: { وَٱلْمُرْسَلَـٰتِ } فبلغ: { فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ } فليقل: آمنا بالله" ورواه أحمد عن سفيان بن عيينة ورواه الترمذي عن ابن أبي عمر، عن سفيان بن عيينة به، وقد رواه شعبة عن إسماعيل بن أمية قال: قلت له من حدثك؟ قال: رجل صدق عن أبي هريرة. وقال ابن جرير: حدثنا بشر، حدثنا يزيد، حدثنا سعيد عن قتادة: قوله تعالى: { أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَـٰدِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِىَ ٱلْمَوْتَىٰ }؟ ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأها قال: "سبحانك، وبلى" ثم قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان الواسطي، حدثنا أبو أحمد الزبيري، حدثنا سفيان عن أبي إسحاق، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، أنه مر بهذه الآية: { أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَـٰدِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِىَ ٱلْمَوْتَىٰ }؟ قال: سبحانك فبلى. آخر تفسير سورة القيامة، ولله الحمد والمنة.