يقول تعالى منكراً على المشركين في تساؤلهم عن يوم القيامة إنكاراً لوقوعها: { عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ عَنِ ٱلنَّبَإِ ٱلْعَظِيمِ } أي: عن أي شيء يتساءلون عن أمر القيامة؟ وهو النبأ العظيم، يعني: الخبر الهائل المفظع الباهر، قال قتادة وابن زيد: النبأ العظيم: البعث بعد الموت. وقال مجاهد: هو القرآن. والأظهر الأول؛ لقوله: { ٱلَّذِى هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ } يعني: الناس فيه على قولين: مؤمن به، وكافر، ثم قال تعالى متوعداً لمنكري القيامة: { كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ } وهذا تهديد شديد، ووعيد أكيد. ثم شرع تبارك وتعالى يبين قدرته العظيمة على خلق الأشياء الغريبة، والأمور العجيبة الدالة على قدرته على ما يشاء؛ من أمر المعاد وغيره، فقال: { أَلَمْ نَجْعَلِ ٱلأَرْضَ مِهَـٰداً } أي: ممهدة للخلائق، ذلولاً لهم، قارةً ساكنة ثابتة { وَٱلْجِبَالَ أَوْتَاداً } أي: جعلها لها أوتاداً أرساها بها، وثبتها وقررها حتى سكنت ولم تضطرب بمن عليها. ثم قال تعالى: { وَخَلَقْنَـٰكُمْ أَزْوَٰجاً } يعني: ذكراً وأنثى، يتمتع كل منهما بالآخر، ويحصل التناسل بذلك؛ كقوله:
{ { وَمِنْ ءايَـٰتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَٰجاً لِّتَسْكُنُوۤاْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً } [الروم: 21] وقوله تعالى: { وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً } أي: قطعاً للحركة؛ لتحصل الراحة من كثرة الترداد والسعي في المعايش في عرض النهار. وقد تقدم مثل هذه الآية في سورة الفرقان. { وَجَعَلْنَا ٱلَّيْلَ لِبَاساً } أي: يغشى الناس ظلامه وسواده؛ كما قال: { { وَٱلَّيْلِ إِذَا يَغْشَـٰهَا } [الشمس: 4] وقال الشاعر:فَلمَّا لَبِسْنَ اللَّيْلَ أَوْحينَ نصبَتْله منْ خذا آذانِها وهو جانِحُ
وقال قتادة في قوله تعالى: { وَجَعَلْنَا ٱلَّيْلَ لِبَاساً } أي: سكناً، وقوله تعالى: { وَجَعَلْنَا ٱلنَّهَارَ مَعَاشاً } أي: جعلناه مشرقاً نيراً مضيئاً، ليتمكن الناس من التصرف فيه، والذهاب والمجيء للمعاش والتكسب والتجارات وغير ذلك. وقوله تعالى: { وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً } يعني: السموات السبع؛ في اتساعها وارتفاعها، وإحكامها وإتقانها، وتزيينها بالكواكب الثوابت والسيارات، ولهذا قال تعالى: { وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً } يعني: الشمس المنيرة على جميع العالم التي يتوهج ضوءُها لأهل الأرض كلهم. وقوله تعالى: { وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلْمُعْصِرَاتِ مَآءً ثَجَّاجاً } قال العوفي عن ابن عباس: المعصرات: الريح، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد، حدثنا أبو داود الحفري عن سفيان عن الأعمش عن المنهال عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: { وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلْمُعْصِرَاتِ } قال: الرياح، وكذا قال عكرمة ومجاهد وقتادة ومقاتل والكلبي وزيد بن أسلم وابنه عبد الرحمن: إنها الرياح، ومعنى هذا القول: أنها تستدر المطر من السحاب، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: من المعصرات، أي: من السحاب، وكذا قال عكرمة أيضاً وأبو العالية والضحاك والحسن والربيع بن أنس والثوري، واختاره ابن جرير، وقال الفراء: هي السحاب التي تتحلب بالمطر ولم تمطر بعد، كما يقال: امرأة معصر، إذا دنا حيضها ولم تحض. وعن الحسن وقتادة: من المعصرات، يعني: السموات، وهذا قول غريب، والأظهر أن المراد بالمعصرات السحاب؛ كما قال تعالى: { { ٱللَّهُ ٱلَّذِى يُرْسِلُ ٱلرِّيَـٰحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِى ٱلسَّمَآءِ كَيْفَ يَشَآءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى ٱلْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ } [الروم: 48] أي: من بينه. وقوله جل وعلا: { مَآءً ثَجَّاجاً } قال مجاهد وقتادة والربيع بن أنس: ثجاجاً: منصباً. وقال الثوري: متتابعاً. وقال ابن زيد: كثيراً، وقال ابن جرير: ولا يعرف في كلام العرب في صفة الكثرة الثج، وإنما الثج الصب المتتابع، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم:
"أفضل الحج العج والثج" يعني: صب دماء البدن، هكذا قال، قلت: وفي حديث المستحاضة حين قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنعت لك الكرسف" يعني: أن تحتشي بالقطن، فقالت: يا رسول الله هو أكثر من ذلك، إنما أثج ثجاً، وهذا فيه دلالة على استعمال الثج في الصب المتتابع الكثير، والله أعلم. وقوله تعالى: { لِّنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً وَجَنَّـٰتٍ أَلْفَافاً } أي: لنخرج بهذا الماء الكثير الطيب النافع المبارك { حَبّاً } يدخر للأناسي والأنعام { وَنَبَاتاً } أي: خضراً يؤكل رطباً { وَجَنَّـٰتٌ } أي: بساتين وحدائق من ثمرات متنوعة، وألوان مختلفة، وطعوم وروائح متفاوتة، وإن كان ذلك في بقعة واحدة من الأرض مجتمعاً، ولهذا قال: وجنات ألفافاً، قال: ابن عباس وغيره: ألفافاً: مجتمعة، وهذه كقوله تعالى: { { وَفِى ٱلأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَـٰوِرَٰتٌ وَجَنَّـٰتٌ مِّنْ أَعْنَـٰبٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَٰنٌ وَغَيْرُ صِنْوَٰنٍ يُسْقَىٰ بِمَآءٍ وَٰحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَىٰ بَعْضٍ فِى ٱلأُكُلِ إِنَّ فِى ذٰلِكَ لآيَـٰتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [الرعد: 4].