التفاسير

< >
عرض

قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ
١٤
وَذَكَرَ ٱسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّىٰ
١٥
بَلْ تُؤْثِرُونَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا
١٦
وَٱلآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ
١٧
إِنَّ هَـٰذَا لَفِي ٱلصُّحُفِ ٱلأُولَىٰ
١٨
صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ
١٩
-الأعلى

تفسير القرآن العظيم

يقول تعالى: { قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ } أي: طهر نفسه من الأخلاق الرذيلة، وتابع ما أنزل الله على الرسول صلوات الله وسلامه عليه، { وَذَكَرَ ٱسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّىٰ } أي: أقام الصلاة في أوقاتها ابتغاء رضوان الله، وطاعة لأمر الله، وامتثالاً لشرع الله. وقد قال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا عباد بن أحمد العزرمي، حدثنا عمي محمد بن عبد الرحمن عن أبيه عن عطاء بن السائب، عن عبد الرحمن بن سابط عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: { قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ } قال: "من شهد أن لا إله إلا الله، وخلع الأنداد، وشهد أني رسول الله" { وَذَكَرَ ٱسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّىٰ } قال: "هي الصلوات الخمس، والمحافظة عليها، والاهتمام بها" ثم قال: لا يروى عن جابر إلا من هذا الوجه، وكذا قال ابن عباس: إن المراد بذلك الصلوات الخمس، واختاره ابن جرير.

وقال ابن جرير: حدثني عمرو بن عبد الحميد الآملي، حدثنا مروان بن معاوية عن أبي خلدة قال: دخلت على أبي العالية، فقال لي: إذا غدوت غداً إلى العيد، فمر بي، قال: فمررت به، فقال: هل طعمت شيئاً؟ قلت: نعم. قال: أفضت على نفسك من الماء؟ قلت: نعم. قال: فأخبرني ما فعلت زكاتك! قلت: قد وجهتها، قال: إنما أردتك لهذا، ثم قرأ: { قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ وَذَكَرَ ٱسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّىٰ } وقال: إن أهل المدينة لا يرون صدقة أفضل منها، ومن سقاية الماء. (قلت): وقد روينا عن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز: أنه كان يأمر الناس بإخراج صدقة الفطر، ويتلو هذه الآية: { قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ وَذَكَرَ ٱسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّىٰ }. وقال أبو الأحوص: إذا أتى أحدكم سائل، وهو يريد الصلاة، فليقدم بين يدي صلاته زكاة؛ فإن الله تعالى يقول: { قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ وَذَكَرَ ٱسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّىٰ } وقال قتادة في هذه الآية: { قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ وَذَكَرَ ٱسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّىٰ }. زكى ماله، وأرضى خالقه.

ثم قال تعالى: { بَلْ تُؤْثِرُونَ ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا } أي: تقدمونها على أمر الآخرة، وتبدونها على ما فيه نفعكم وصلاحكم في معاشكم ومعادكم، { وَٱلأَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ } أي: ثواب الله في الدار الآخرة خير من الدنيا وأبقى، فإن الدنيا دنية فانية، والآخرة شريفة باقية، فكيف يؤثر عاقل ما يفنى على ما يبقى، ويهتم بما يزول عنه قريباً، ويترك الاهتمام بدار البقاء والخلد؟ قال الإمام أحمد: حدثنا حسين بن محمد، حدثنا ذويد عن أبي إسحاق عن عروة عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدنيا دار من لا دار له، ومال من لا مال له، ولها يجمع من لا عقل له" وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا يحيى بن واضح، حدثنا أبو حمزة عن عطاء عن عرفجة الثقفي قال استقرأت ابن مسعود: { سَبِّحِ ٱسْمَ رَبِّكَ ٱلأَعْلَىٰ } فلما بلغ { بَلْ تُؤْثِرُونَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا } ترك القراءة، وأقبل على أصحابه، وقال: آثرنا الدنيا على الآخرة، فسكت القوم، فقال: آثرنا الدنيا؛ لأنا رأينا زينتها ونساءها وطعامها وشرابها، وزويت عنا الآخرة، فاخترنا هذا العاجل، وتركنا الآجل، وهذا منه على وجه التواضع والهضم، أو هو إخبار عن الجنس من حيث هو، والله أعلم.

وقد قال الإمام أحمد: حدثنا سليمان بن داود الهاشمي، حدثنا إسماعيل بن جعفر، أخبرني عمرو بن أبي عمرو عن المطلب بن عبد الله عن أبي موسى الأشعري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أحب دنياه، أضر بآخرته، ومن أحب آخرته، أضر بدنياه، فآثروا ما يبقى على ما يفنى" تفرد به أحمد، وقد رواه أيضاً عن أبي سلمة الخزاعي عن الدراوردي عن عمرو بن أبي عمرو به مثله سواء، وقوله تعالى: { إِنَّ هَـٰذَا لَفِى ٱلصُّحُفِ ٱلأُولَىٰ صُحُفِ إِبْرَٰهِيمَ وَمُوسَىٰ } قال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا نصر بن علي، حدثنا معتمر بن سليمان عن أبيه عن عطاء بن السائب عن عكرمة عن ابن عباس قال: لما نزلت: { إِنَّ هَـٰذَا لَفِى ٱلصُّحُفِ ٱلأُولَىٰ صُحُفِ إِبْرَٰهِيمَ وَمُوسَىٰ } قال النبي صلى الله عليه وسلم: "كان كل هذا ــــ أو كان هذا ــــ في صحف إبراهيم وموسى" ، ثم قال: لا نعلم أسند الثقات عن عطاء بن السائب عن عكرمة عن ابن عباس غير هذا، وحديثاً آخر رواه مثل هذا.

وقال النسائي: أخبرنا زكريا بن يحيى، أخبرنا نصر بن علي، حدثنا المعتمر بن سليمان عن أبيه، عن عطاء بن السائب عن عكرمة عن ابن عباس قال: لما نزلت: { سَبِّحِ ٱسْمَ رَبِّكَ ٱلأَعْلَىٰ } قال: كلها في صحف إبراهيم وموسى، ولما نزلت: { { وَإِبْرَٰهِيمَ ٱلَّذِى وَفَّىٰ } [النجم: 37] قال: وفّى إبراهيم { { أَلاَّ تَزِرُ وَٰزِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ } [النجم: 38] يعني أن هذه الآية كقوله تعالى في سورة النجم: { { أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِى صُحُفِ مُوسَىٰ وَإِبْرَٰهِيمَ ٱلَّذِى وَفَّىٰ أَلاَّ تَزِرُ وَٰزِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَـٰنِ إِلاَّ مَا سَعَىٰ وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ ثُمَّ يُجْزَاهُ ٱلْجَزَآءَ ٱلأَوْفَىٰ وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ ٱلْمُنتَهَىٰ } [النجم: 36 ــــ 42] الآيات إلى آخرهن، وهكذا قال عكرمة فيما رواه ابن جرير عن ابن حميد عن مهران عن سفيان الثوري عن أبيه عن عكرمة في قوله تعالى: { إِنَّ هَـٰذَا لَفِى ٱلصُّحُفِ ٱلأُولَىٰ صُحُفِ إِبْرَٰهِيمَ وَمُوسَىٰ } يقول: الآيات التي في سبح اسم ربك الأعلى. وقال أبو العالية: قصة هذه السورة في الصحف الأولى. واختار ابن جرير أن المراد بقوله: إن هذا إشارة إلى قوله: { قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ وَذَكَرَ ٱسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّىٰ بَلْ تُؤْثِرُونَ ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا وَٱلأَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ } ثم قال تعالى: { إِنَّ هَـٰذَا } أي: مضمون هذا الكلام { لَفِى ٱلصُّحُفِ ٱلأُولَىٰ صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ } وهذا الذي اختاره حسن قوي، وقد روي عن قتادة وابن زيد نحوه، والله أعلم، آخر تفسير سورة سبح، ولله الحمد والمنة، وبه التوفيق والعصمة.