التفاسير

< >
عرض

أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَٱللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ
١٦
مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَٰجِدَ ٱللهِ شَٰهِدِينَ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَٰلُهُمْ وَفِي ٱلنَّارِ هُمْ خَٰلِدُونَ
١٧
إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَٰجِدَ ٱللَّهِ مَنْ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَأَقَامَ ٱلصَّلَٰوةَ وَءَاتَىٰ ٱلزَّكَٰوةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ ٱللَّهَ فَعَسَىٰ أُوْلَـٰئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ ٱلْمُهْتَدِينَ
١٨
-التوبة

تفسير القرآن العظيم

يقول تعالى: { أَمْ حَسِبْتُمْ } أيها المؤمنون أن نترككم مهملين، لا نختبركم بأمور يظهر فيها أهل العزم الصادق من الكاذب؟ ولهذا قال: { وَلَمَّا يَعْلَمِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ جَـٰهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً } أي: بطانة ودخيلة، بل هم في الظاهر والباطن على النصح لله ولرسوله، فاكتفى بأحد القسمين عن الآخر؛ كما قال الشاعر:

وما أَدْري إذا يَمَّمْتُ أرضاًأُريدُ الخَيْرَ أَيّهما يَلِيني

وقد قال تعالى في الآية الآخرى: { الۤـمۤ أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتْرَكُوۤاْ أَن يَقُولُوۤاْ آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ ٱلْكَاذِبِينَ } [العنكبوت:1-3] وقال تعالى: { { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ } [آل عمران: 142]، وقال تعالى: { { مَّا كَانَ ٱللَّهُ لِيَذَرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ ٱلْخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيِّبِ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى ٱلْغَيْبِ } [آل عمران: 179]، والحاصل أنه تعالى لما شرع لعباده الجهاد، بين أن له فيه حكمة، وهو اختبار عبيده؛ من يطيعه ممن يعصيه، وهو تعالى العالم بما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف كان يكون، فيعلم الشيء قبل كونه ومع كونه على ما هو عليه، لا إله إلا هو، ولا رب سواه، ولا راد لما قدّره وأمضاه.

قوله تعالى: { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَـهِدِينَ عَلَىٰ أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ أُوْلَـٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَـٰلُهُمْ وَفِى ٱلنَّارِ هُمْ خَـٰلِدُونَ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَـٰجِدَ ٱللَّهِ مَنْ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلأَخِرِ وَأَقَامَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءاتَىٰ ٱلزَّكَوٰةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ ٱللَّهَ فَعَسَىٰ أُوْلَـٰئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ ٱلْمُهْتَدِينَ }.

يقول تعالى: ما ينبغي للمشركين بالله أن يعمروا مساجد الله التي بنيت على اسمه وحده لا شريك له، ومن قرأ: مسجد الله، فأراد به المسجد الحرام أشرف المساجد في الأرض الذي بني من أول يوم على عبادة الله وحده لا شريك له، وأسسه خليل الرحمن، هذا وهم شاهدون على أنفسهم بالكفر، أي: بحالهم وبقالهم. قال السدي: لو سألت النصراني: ما دينك؟ لقال: نصراني، ولو سألت اليهودي ما دينك؟ لقال: يهودي، والصابىء لقال: صابىء، والمشرك لقال: مشرك { أُوْلَـٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَـٰلُهُمْ } أي: بشركهم { وَفِى ٱلنَّارِ هُمْ خَـٰلِدُونَ } وقال تعالى: { { وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ ٱللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَمَا كَانُوۤاْ أَوْلِيَآءَهُ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ ٱلْمُتَّقُونَ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } [الأنفال: 34] ولهذا قال تعالى: { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَـٰجِدَ ٱللَّهِ مَنْ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلأَخِرِ } فشهد تعالى بالإيمان لعمار المساجد؛ كما قال الإمام أحمد: حدثنا شريح، حدثنا ابن وهب عن عمرو بن الحارث، أن دراجاً أبا السمح حدثه عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد، فاشهدوا له بالإيمان" . قال الله تعالى: { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَـٰجِدَ ٱللَّهِ مَنْ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلأَخِرِ } ورواه الترمذي وابن مردويه والحاكم في مستدركه من حديث عبد الله بن وهب به.

وقال عبد الرحمن بن حميد في مسنده: حدثنا يونس بن محمَّد، حدثنا صالح المري عن ثابت البناني عن ميمون بن سياه، وجعفر بن زيد عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما عمار المساجد هم أهل الله" ورواه الحافظ أبو بكر البزار: عن عبد الواحد بن غياث عن صالح بن بشير المري عن ثابت عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما عمار المساجد هم أهل الله" ثم قال: لا نعلم رواه عن ثابت غير صالح، وقد روى الدار قطني في الأفراد من طريق حكامة بنت عثمان بن دينار عن أبيها عن أخيه مالك بن دينار عن أنس مرفوعاً: "إذا أراد الله بقوم عاهة، نظر إلى أهل المساجد، فصرف عنهم" ثم قال: غريب، وروى الحافظ البهائي في المستقصى عن أبيه بسنده إلى أبي أمية الطرسوسي، حدثنا منصور بن صقير، حدثنا صالح المري عن ثابت عن أنس مرفوعاً: "يقول الله: وعزتي وجلالي إني لأهم بأهل الأرض عذاباً، فإذا نظرت إلى عمار بيوتي، وإلى المتحابين في، وإلى المستغفرين بالأسحار، صرفت ذلك عنهم" ثم قال ابن عساكر: حديث غريب.

وقال الإمام أحمد: حدثنا روح، حدثنا سعيد عن قتادة، حدثنا العلاء بن زياد عن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الشيطان ذئب الإنسان، كذئب الغنم، يأخذ الشاة القاصية والناحية، فإياكم والشعاب، وعليكم بالجماعة والعامة والمسجد" وقال عبد الرزاق: عن معمر عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون الأودي قال: أدركت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وهم يقولون: إن المساجد بيوت الله في الأرض، وإنه حق على الله أن يكرم من زاره فيها. وقال المسعودي: عن حبيب بن أبي ثابت وعدي بن ثابت، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: من سمع النداء بالصلاة، ثم لم يجب، ولم يأت المسجد ويصلي، فلا صلاة له، وقد عصى الله ورسوله. قال الله تعالى: { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَـٰجِدَ ٱللَّهِ مَنْ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلأَخِرِ } الآية، رواه ابن مردويه. وقد روي مرفوعاً من وجه آخر، وله شواهد من وجوه أخر ليس هذا موضع بسطها. وقوله: { وَأَقَامَ ٱلصَّلَوٰةَ } أي: التي هي أكبر عبادات البدن { وَءَاتَى ٱلزَّكَوٰةَ } أي: التي هي أفضل الأعمال المتعدية إلى بر الخلائق، وقوله: { وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ ٱللَّهَ } أي: ولم يخف إلا من الله تعالى، ولم يخش سواه { فَعَسَىٰ أُوْلَـٰئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ ٱلْمُهْتَدِينَ } قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَـٰجِدَ ٱللَّهِ مَنْ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلاَْخِرِ } يقول: من وحد الله وآمن باليوم الآخر، يقول: من آمن بما أنزل الله { وَأَقَامَ ٱلصَّلَوٰةَ } يعني: الصلوات الخمس { وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ ٱللَّهَ } يقول: لم يعبد إلا الله، ثم قال: { فَعَسَىٰ أُوْلَـٰئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ ٱلْمُهْتَدِينَ } يقول تعالى: إن أولئك هم المفلحون؛ كقوله لنبيه صلى الله عليه وسلم: { { عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُودًا } [الإسراء: 79] وهي الشفاعة، وكل عسى في القرآن فهي واجبة، وقال محمد بن إسحاق بن يساررحمه الله : وعسى من الله حق.