التفاسير

< >
عرض

أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ
١
وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ
٢
ٱلَّذِيۤ أَنقَضَ ظَهْرَكَ
٣
وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ
٤
فَإِنَّ مَعَ ٱلْعُسْرِ يُسْراً
٥
إِنَّ مَعَ ٱلْعُسْرِ يُسْراً
٦
فَإِذَا فَرَغْتَ فَٱنصَبْ
٧
وَإِلَىٰ رَبِّكَ فَٱرْغَبْ
٨
-الشرح

تفسير القرآن العظيم

يقول تعالى: { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } يعني: أما شرحنا لك صدرك؟ أي: نورناه، وجعلناه فسيحاً رحيباً واسعاً؛ كقوله: { { فَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَـٰمِ } [الأنعام: 125] وكما شرح الله صدره، كذلك جعل شرعه فسيحاً واسعاً سمحاً سهلاً، لا حرج فيه ولا إصر ولا ضيق. وقيل: المراد بقوله: { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } شرح صدره ليلة الإسراء؛ كما تقدم من رواية مالك بن صعصعة، وقد أورده الترمذي ههنا، وهذا وإن كان واقعاً ليلة الإسراء كما رواه مالك بن صعصعة، ولكن لا منافاة؛ فإن من جملة شرح صدره، الذي فعل بصدره ليلة الإسراء، وما نشأ عنه من الشرح المعنوي أيضاً، فالله أعلم.

قال عبد الله بن الإمام أحمد: حدثني محمد بن عبد الرحيم أبو يحيى البزاز، حدثنا يونس بن محمد، حدثنا معاذ بن محمد بن معاذ بن أبي بن كعب، حدثني أبو محمد بن معاذ عن معاذ عن محمد عن أبي بن كعب: أن أبا هريرة كان جريئاً على أن يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أشياء لا يسأله عنها غيره، فقال: يا رسول الله ما أول ما رأيت من أمر النبوة؟ فاستوى رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً، وقال: "لقد سألت يا أبا هريرة إني لفي الصحراء ابن عشر سنين وأشهر، وإذا بكلام فوق رأسي، وإذا رجل يقول لرجل: أهو هو؟ قال: نعم، فاستقبلاني بوجوه لم أرها قط، وأرواح لم أجدها من خلق قط، وثياب لم أرها على أحد قط، فأقبلا إلي يمشيان حتى أخذ كل واحد منهما بعضدي، لا أجد لأحدهما مساً، فقال أحدهما لصاحبه: أضجعه، فأضجعاني بلا قصر ولا هصر، فقال أحدهما لصاحبه: افلق صدره، فهوى أحدهما إلى صدري ففلقه فيما أرى بلا دم ولا وجع، فقال له: أخرج الغل والحسد، فأخرج شيئاً كهيئة العلقة، ثم نبذها فطرحها، فقال له: أدخل الرأفة والرحمة، فإذا مثل الذي أخرج شبه الفضة، ثم هز إبهام رجلي اليمنى فقال: أعدُ واسلم، فرجعت بها أعدو؛ رقة على الصغير، ورحمة للكبير"

وقوله تعالى: { وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ } بمعنى: { { لِّيَغْفِرَ لَكَ ٱللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } [الفتح: 2] { ٱلَّذِىۤ أَنقَضَ ظَهْرَكَ } الإنقاض: الصوت، وقال غير واحد من السلف في قوله: { ٱلَّذِىۤ أَنقَضَ ظَهْرَكَ } أي: أثقلك حمله، وقوله تعالى: { وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ } قال مجاهد: لا أذكر إلا ذكرت معي؛ أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، وقال قتادة: رفع الله ذكره في الدنيا والآخرة، فليس خطيب ولا متشهد ولا صاحب صلاة إلا ينادي بها: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله. وقال ابن جرير: حدثني يونس، أخبرنا ابن وهب، أخبرنا عمرو بن الحارث عن دراج، عن أبي الهيثم عن أبي سعيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أتاني جبريل فقال: إن ربي وربك يقول: كيف رفعت ذكرك؟ قال: الله أعلم، قال: إذا ذكرت، ذكرت معي" وكذا رواه ابن أبي حاتم عن يونس عن عبد الأعلى به. ورواه أبو يعلى من طريق ابن لهيعة عن دراج. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة، حدثنا أبو عمر الحوضي، حدثنا حماد بن زيد، حدثنا عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سألت ربي مسألة وددت أني لم أسأله، قلت: قد كان قبلي أنبياء، منهم من سخرت له الريح، ومنهم من يحيي الموتى، قال: يا محمد ألم أجدك يتيماً فآويتك؟ قلت: بلى يا رب قال: ألم أجدك ضالاً فهديتك؟ قلت: بلى يا رب قال: ألم أجدك عائلاً فأغنيتك؟ قلت: بلى يا رب قال: ألم أشرح لك صدرك؟ ألم أرفع لك ذكرك؟ قلت: بلى يا رب" وقال أبو نعيم في "دلائل النبوة": حدثنا أبو أحمد الغطريفي، حدثنا موسى بن سهل الجوني، حدثنا أحمد بن القاسم بن بهرام الهيتي، حدثنا نصر بن حماد عن عثمان بن عطاء عن الزهري عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما فرغت مما أمرني الله به من أمر السموات والأرض، قلت: يا رب إنه لم يكن نبي قبلي إلا وقد كرمته؛ جعلت إبراهيم خليلاً، وموسى كليماً، وسخرت لداود الجبال، ولسليمان الريح والشياطين، وأحييت لعيسى الموتى، فما جعلت لي؟ قال: أو ليس قد أعطيتك أفضل من ذلك كله؛ أني لا أذكر إلا ذكرت معي، وجعلت صدور أمتك أناجيل يقرؤون القرآن ظاهراً، ولم أعطها أمة، وأعطيتك كنزاً من كنوز عرشي: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم؟" وحكى البغوي عن ابن عباس ومجاهد أن المراد بذلك الأذان، يعني: ذكره فيه، وأورد من شعر حسان بن ثابت:

أَغَرُّ عليهِ للنُّبُوَّةِ خاتَمٌمن اللّهِ من نورٍ يلوحُ ويَشْهَدُ
وضَمَّ الإلهُ اسمَ النَّبِيِّ إلى اسمِهِإذا قالَ في الخَمْسِ المُؤَذِّنُ أَشْهَدُ
وشَقَّ لهُ منِ اسمِهِ لِيُجِلَّهُفَذُو العَرْشِ مَحْمود وهذا مُحَمَّدُ

وقال آخرون: رفع الله ذكره في الأولين والآخرين، ونوه به حين أخذ الميثاق على جميع النبيين؛ أن يؤمنوا به، وأن يأمروا أممهم بالإيمان به، ثم شهد ذكره في أمته، فلا يذكر الله إلا ذكر معه، وما أحسن ما قال الصرصريرحمه الله :

لا يَصِحُّ الأذانُ في الفَرْضِ إِلاباسْمِهِ العَذْبِ في الفَمِ المَرْضِيِّ

وقال أيضاً:

أَلَمْ تَرَ أَنَّا لا يَصِحُّ أَذانُناولا فَرْضُنا إِنْ لَمْ نُكَرِّرْهُ فيهِما

وقوله تعالى: { فَإِنَّ مَعَ ٱلْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ ٱلْعُسْرِ يُسْراً } أخبر تعالى أن مع العسر يوجد اليسر، ثم أكد هذا الخبر. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة، حدثنا محمود بن غيلان، حدثنا حميد بن حماد بن أبي خوار أبو الجهم، حدثنا عائذ بن شريح قال: سمعت أنس بن مالك يقول: كان النبي صلى الله عليه وسلم جالساً، وحياله حجر، فقال: "لو جاء العسر فدخل هذا الحجر، لجاء اليسر حتى يدخل عليه فيخرجه" فأنزل الله عز وجل: { فَإِنَّ مَعَ ٱلْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ ٱلْعُسْرِ يُسْراً } ورواه أبو بكر البزار في مسنده عن محمد بن معمر، عن حميد بن حماد ولفظه: "لو جاء العسر حتى يدخل هذا الجحر، لجاء اليسر حتى يخرجه" ثم قال: { فَإِنَّ مَعَ ٱلْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ ٱلْعُسْرِ يُسْراً } ثم قال البزار: لا نعلم رواه عن أنس إلا عائذ بن شريح.

(قلت): وقد قال فيه أبو حاتم الرازي: في حديثه ضعف، ولكن رواه شعبة عن معاوية بن قرة عن رجل عن عبد الله بن مسعود موقوفاً. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح، حدثنا أبو قطن، حدثنا المبارك بن فضالة عن الحسن قال: كانوا يقولون: لا يغلب عسر واحد يسرين اثنين.

وقال ابن جرير: حدثنا ابن عبد الأعلى، حدثنا ابن ثور عن معمر عن الحسن، قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم يوماً مسروراً فرحاً، وهو يضحك، وهو يقول: "لن يغلب عسر يسرين، لن يغلب عسر يسرين، فإن مع العسر يسراً، إن مع العسر يسراً" وكذا رواه من حديث عوف الأعرابي ويونس بن عبيد عن الحسن مرسلاً. وقال سعيد عن قتادة: ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشر أصحابه بهذه الآية فقال: "لن يغلب عسر يسرين" ومعنى هذا: أن العسر معرّف في الحالين، فهو مفرد، واليسر منكر، فتعدد، ولهذا قال: "لن يغلب عسر يسرين" يعني قوله: { فَإِنَّ مَعَ ٱلْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ ٱلْعُسْرِ يُسْراً } فالعسر الأول عين الثاني واليسر تعدد. وقال الحسن بن سفيان: حدثنا يزيد بن صالح، حدثنا خارجة عن عباد بن كثير عن أبي الزناد عن أبي صالح عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "نزلت المعونة من السماء على قدر المؤونة، ونزل الصبر على قدر المصيبة" ومما يروى عن الشافعي أنه قال:

صَبْراً جَميلاً ما أقربَ الفَرَجامَنْ راقبَ اللّهَ في الأُمور نَجا
مَنْ صَدَّقَ اللّهَ لَمْ يَنَلْه أَذىومَنْ رَجاه يَكونُ حَيْثُ رَجا

وقال ابن دريد: أنشدني أبو حاتم السجستاني:

إذا اشْتَمَلَتْ على اليَأْسِ القُلوبُوضاقَ لِما بهِ الصَّدْرُ الرَّحيبُ
وأوطَأَتِ المَكارِهُ واطمَأَنَّتْوأرسَتْ في أماكنِها الخُطوبُ
ولمْ تَرَ لانْكِشافِ الضُّرِّ وَجْهاًولا أغنى بِحِيْلَتِهِ الأريبُ
أتاكَ على قُنوطٍ منكَ غَوْثٌيَمُنُّ بهِ اللطيفُ المُسْتَجيبُ
وكُلُّ الحادثاتِ إذا تَناهَتْفَمَوْصولٌ بها الفَرَجُ القريبُ

وقال آخر:

ولَرُبَّ نازلةٍ يَضيقُ بها الفَتىذَرْعاً وعندَ اللّهِ منْها المَخْرَجُ
كَمُلَتْ فلمَّا استَحْكَمتْ حَلَقاتُهافُرِجَتْ وكانَ يَظُنُّها لا تُفْرَجُ

وقوله تعالى: { فَإِذَا فَرَغْتَ فَٱنصَبْ وَإِلَىٰ رَبِّكَ فَٱرْغَبْ } أي: إذا فرغت من أمور الدنيا وأشغالها، وقطعت علائقها، فانصب إلى العبادة، وقم إليها نشيطاً فارغ البال، وأخلص لربك النية والرغبة، ومن هذا القبيل قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته: "لا صلاة بحضرة الطعام، ولا وهو يدافعه الأخبثان" وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أقيمت الصلاة، وحضر العشاء، فابدؤوا بالعشاء" قال مجاهد في هذه الآية: إذا فرغت من أمر الدنيا، فقمت إلى الصلاة، فانصب لربك، وفي رواية عنه: إذا قمت إلى الصلاة، فانصب في حاجتك، وعن ابن مسعود: إذا فرغت من الفرائض، فانصب في قيام الليل، وعن ابن عياض نحوه، وفي رواية عن ابن مسعود: { فَإِذَا فَرَغْتَ فَٱنصَبْ وَإِلَىٰ رَبِّكَ فَٱرْغَبْ } بعد فراغك من الصلاة وأنت جالس. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: فإذا فرغت فانصب، يعني: في الدعاء، وقال زيد بن أسلم والضحاك: { فَإِذَا فَرَغْتَ } أي: من الجهاد { فَٱنصَبْ } أي: في العبادة { وَإِلَىٰ رَبِّكَ فَٱرْغَبْ } وقال الثوري: اجعل نيتك ورغبتك إلى الله عز وجل. آخر تفسير سورة ألم نشرح، ولله الحمد والمنة.