يقول تعالـى ذكره: { ونُفِخَ فِـي الصُّورِ }، وقد ذكرنا اختلاف الـمختلفـين والصواب من القول فـيه بشواهده فـيـما مضى قبل بـما أغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع، ويُعْنَى بهذه النفخة، نفخة البعث.
وقوله: { فإذَا هُمْ مِنَ الأجْدَاثِ } يعنـي من أجداثهم، وهي قبورهم، واحدها جَدَث، وفـيها لغتان، فأما أهل العالـية، فتقوله بـالثاء: جَدَث، وأما أهل السافلة فتقوله بـالفـاء جَدَف. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
حدثنـي علـيّ، قال: ثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس، قوله: { مِنَ الأَجْدَاثِ إلـى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ } يقول: من القبور.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة { فإذَا هُمْ مِنَ الأجْداث }: أي من القبور.
وقوله: { إلـى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ } يقول: إلـى ربهم يخرجون سراعاً، والنَّسَلان: الإسراع فـي الـمشي. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
حدثنـي علـيّ، قال: ثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس، قوله: { يَنْسِلونَ } يقول: يخرجون.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة { إلـى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ }: أي يخرجون.
وقوله: { قالُوا يا وَيْـلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هَذَا ما وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الـمُرْسَلُونَ } يقول تعالـى ذكره: قال هؤلاء الـمشركون لـما نُفخ فـي الصور نفخة البعث لـموقـف القـيامة فردّت أرواحهم إلـى أجسامهم، وذلك بعد نومة ناموها: { يا وَيْـلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا } وقد قـيـل: إن ذلك نومة بـين النفختـين. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
حدثنا مـحمد بن بشار، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفـيان، عن منصور، عن خيثمة، عن الـحسن، عن أُبـيّ بن كعب، فـي قوله: { يا وَيْـلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا } قال: ناموا نومة قبل البعث.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفـيان، عن منصور، عن رجل يقال له خيثمة فـي قوله: { يا وَيْـلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا } قال: ينامون نومة قبل البعث.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة { قالُوا يا وَيْـلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا } هذا قول أهل الضلالة. والرَّقدة: ما بـين النفختـين.
حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: ثنا الـحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعاً عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، قوله: { يا وَيْـلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هَذَا } قال: الكافرون يقولونه.
ويعنـي بقوله: { مِنْ مَرْقَدِنا هَذَا } من أيقظنا من منامنا، وهو من قولهم: بعث فلان ناقته فـانبعثت، إذا أثارها فثارت. وقد ذُكر أن ذلك فـي قراءة ابن مسعود: «مَنْ أهَبَّنا مِنْ مَرْقَدِنا هَذَا». وفـي قوله: { هَذَا } وجهان: أحدهما: أن تكون إشارة إلـى «ما»، ويكون ذلك كلاماً مبتدأ بعد تناهي الـخبر الأوّل بقوله: { مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا } فتكون «ما» حينئذٍ مرفوعة بهذا، ويكون معنى الكلام: هذا وعد الرحمن وصدق الـمرسلون. والوجه الآخر: أن تكون من صفة الـمرقد، وتكون خفضاً وردّاً علـى الـمرقد، وعند تـمام الـخبر عن الأوّل، فـيكون معنى الكلام: من بعثنا من مرقدنا هذا، ثم يبتدىء الكلام فـيقال: ما وعدَ الرحمن، بـمعنى: بعثكم وعد الرحمن، فتكون «ما» حينئذٍ رفعاً علـى هذا الـمعنى.
وقد اختلف أهل التأويـل فـي الذي يقول حينئذٍ: هذا ما وعد الرحمن، فقال بعضهم: يقول ذلك أهل الإيـمان بـالله. ذكر من قال ذلك:
حدثنـي الـحارث، قال: ثنا الـحسن، قال: ثنا ورقاء، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: { هَذَا ما وَعَدَ الرَّحمَنُ } مـما سرّ الـمؤمنون يقولون هذا حين البعث.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، فـي قوله: { هَذَا ما وَعَدَ الرَّحمَنُ وَصَدَقَ الـمُرْسَلُونَ } قال: قال أهل الهدى: هذا ما وعد الرحمن وصدق الـمرسلون.
وقال آخرون: بل كلا القولـين، أعنـي { يا وَيْـلَنا مَنْ بَعثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هَذَا ما وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَق الـمُرْسَلُونَ } من قول الكفـار. ذكر من قال ذلك:
حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: { يا وَيْـلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنا } ثم قال بعضهم لبعض: { هَذَا ما وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الـمُرْسَلُونَ } كانوا أخبرونا أنا نبعث بعد الـموت، ونُـحاسب ونُـجازَى.
والقول الأوّل أشبه بظاهر التنزيـل، وهو أن يكون من كلام الـمؤمنـين، لأن الكفـار فـي قـيـلهم: { مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا } دلـيـل علـى أنهم كانوا بـمن بعثهم من مَرْقَدهم جُهَّالاً، ولذلك من جهلهم استثبتوا، ومـحال أن يكونوا استثبتوا ذلك إلاَّ من غيرهم، مـمن خالفت صفته صفتهم فـي ذلك.
وقوله: { إنْ كانَتْ إلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فإذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُـحْضَرُونَ } يقول تعالـى ذكره: إن كانت إعادتهم أحياء بعد مـماتهم إلا صيحة واحدة، وهي النفخة الثالثة فـي الصور { فإذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُـحْضَرُونَ } يقول: فإذا هم مـجتـمعون لدينا قد أُحضروا، فأُشهدوا مَوْقـفَ العرض والـحساب، لـم يتـخـلف عنه منهم أحد. وقد بـينا اختلاف الـمختلفـين فـي قراءتهم { إلاَّ صَيْحَةً } بـالنصب والرفع فـيـما مضى، بـما أغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع.