يقول تعالى ذكره: إنما المناجاة من الشيطان، ثم اختلف أهل العلم في النجوى التي أخبر الله أنها من الشيطان، أيّ ذلك هو، فقال بعضهم: عُنِي بذلك مناجاة المنافقين بعضهم بعضاً. ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد،، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: { إنَّمَا النَّجْوَى مِن الشَّيْطان لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا } كان المنافقون يتناجون بينهم، وكان ذلك يغيظ المؤمنين، ويكبر عليهم، فأنزل الله في ذلك القرآن { إنَّمَا النَّجْوَى مِن الشَّيْطان لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارّهِمْ شَيئاً }... الآية.
وقال آخرون بما:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قول الله عزّ وجلّ { إنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارّهِمْ شَيئاً إلاَّ بإذْنِ اللَّهِ } قال: كان الرجل يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله الحاجة ليرى الناس أنه قد ناجى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم لا يمنع ذلك من أحد. قال: والأرض يومئذ حرب على أهل هذا البلد، وكان إبليس يأتي القوم فيقول لهم: إنما يتناجون في أمور قد حضرت، وجموع قد جمعت لكم وأشياء، فقال الله: { إنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا }... إلى آخر الآية.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، قال: كان المسلمون إذا رأوا المنافقين خلوا يتناجون، يشقّ عليهم، فنزلت { إنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا }.
وقال آخرون: عُنِي بذلك أحلام النوم التي يراها الإنسان في نومه فتحزنه. ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا يحيى بن داود البلخي، قال: سئل عطية، وأنا أسمع الرؤيا، فقال: الرؤيا على ثلاث منازل، فمنها وسوسة الشيطان، فذلك قوله { إنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ } ومنها ما يحدّث نفسه بالنهار فيراه بالليل ومنها كالأخذ باليد.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: عُنِي به مناجاة المنافقين بعضهم بعضاً بالإثم والعدوان، وذلك أن الله جلّ ثناؤه تقدم بالنهي عنها بقوله
{ { إذَا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بالإثْم والعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ } ثم عما في ذلك من المكروه على أهل الإيمان، وعن سبب نهيه إياهم عنه، فقال: { إنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا } فبين بذلك إذ كان النهي عن رؤية المرء في منامه كان كذلك، وكان عقيب نهيه عن النجوى بصفة أنه من صفة ما نهى عنه. وقوله: { وَلَيْسَ بِضَارّهِمْ شَيْئاً إلاَّ بإذْنِ اللَّهِ } يقول تعالى ذكره: وليس التناجي بضارّ المؤمنين شيئاً إلا بإذن الله، يعني بقضاء الله وقَدَره.
وقوله { وَعَلى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ } يقول تعالى ذكره: وعلى الله فليتوكل في أمورهم أهل الإيمان به، ولا يحزنوا من تناجي المنافقين ومن يكيدهم بذلك، وأن تناجيهم غير ضارّهم إذا حفظهم ربهم.