التفاسير

< >
عرض

ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِمْ مُّوسَىٰ وَهَـٰرُونَ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلإِيْهِ بِآيَـٰتِنَا فَٱسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ
٧٥
فَلَمَّا جَآءَهُمُ ٱلْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُوۤاْ إِنَّ هَـٰذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ
٧٦
قَالَ مُوسَىٰ أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَكُمْ أَسِحْرٌ هَـٰذَا وَلاَ يُفْلِحُ ٱلسَّاحِرُونَ
٧٧
قَالُوۤاْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا ٱلْكِبْرِيَآءُ فِي ٱلأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ
٧٨
وَقَالَ فِرْعَوْنُ ٱئْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ
٧٩
فَلَمَّا جَآءَ ٱلسَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُّوسَىٰ أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مُّلْقُونَ
٨٠
فَلَمَّآ أَلْقَواْ قَالَ مُوسَىٰ مَا جِئْتُمْ بِهِ ٱلسِّحْرُ إِنَّ ٱللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ ٱلْمُفْسِدِينَ
٨١
وَيُحِقُّ ٱللَّهُ ٱلْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْمُجْرِمُونَ
٨٢
فَمَآ آمَنَ لِمُوسَىٰ إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَىٰ خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي ٱلأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ ٱلْمُسْرِفِينَ
٨٣
وَقَالَ مُوسَىٰ يٰقَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِٱللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوۤاْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ
٨٤
فَقَالُواْ عَلَىٰ ٱللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ
٨٥
وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلْكَافِرِينَ
٨٦
وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰ وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَٱجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ
٨٧
-يونس

فتح القدير

.

قوله: { ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم } معطوف على قوله: { ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً } والضمير في: { من بعدهم }، راجع إلى الرسل المتقدّم ذكرهم، وخصّ موسى وهارون بالذكر مع دخولهما تحت الرسل لمزيد شرفهما، وخطر شأن ما جرى بينهما وبين فرعون، والمراد بالملأ: الأشراف، والمراد بالآيات: المعجزات، وهي التسع المذكورة في الكتاب العزيز { فَٱسْتَكْبَرُواْ } عن قبولها، ولم يتواضعوا لها، ويذعنوا لما اشتملت عليه من المعجزات الموجبة لتصديق ما جاء بها. { وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ } أي: كانوا ذوي إجرام عظام، وآثام كبيرة، فبسبب ذلك اجترءوا على ردّها؛ لأن الذنوب تحول بين صاحبها وبين إدراك الحق، وإبصار الصواب. قيل: وهذه الجملة معترضة مقررة لمضمون ما قبلها.

قوله: { فَلَمَّا جَاءهُمُ ٱلْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُواْ إِنَّ هَـٰذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ } أي: فلما جاء فرعون وملأه الحق من عند الله، وهو: المعجزات، لم يؤمنوا بها بل حملوها على السحر مكابرة منهم، فردّ عليهم موسى قائلاً: { أَتقُولُونَ لِلْحَقّ لَمَّا جَاءكُمْ أَسِحْرٌ هَـٰذَا } قيل: في الكلام حذف، والتقدير: أتقولون للحقّ سحر فلا تقولوا ذلك، ثم استأنف إنكاراً آخر من جهة نفسه فقال: { أَسِحْرٌ هَـٰذَا } فحذف قولهم الأوّل اكتفاء بالثاني، والملجىء إلى هذا أنهم لم يستفهموه عن السحر حتى يحكي ما قالوه بقوله: { أَسِحْرٌ هَـٰذَا } بل هم قاطعون بأنه سحر؛ لأنهم قالوا: { إِنَّ هَـٰذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ } فحينئذ لا يكون قوله: { أَسِحْرٌ هَـٰذَا } من قولهم، وقال الأخفش: هو من قولهم، وفيه نظر لما قدّمنا، وقيل معنى: { أَتَقُولُونَ }: أتعيبون الحقّ وتطعنون فيه، وكان عليكم أن تذعنوا له، ثم قال أسحر هذا، منكراً لما قالوه. وقيل: إن مفعول { أَتَقُولُونَ } محذوف، وهو ما دلّ عليه قولهم: { إِنَّ هَـٰذَا لَسَـٰحِرٌ } والتقدير: أتقولون ما تقولون، يعني: قولهم إن هذا لسحر مبين، ثم قيل: أسحر هذا، وعلى هذا التقدير والتقدير الأوّل فتكون جملة { أَسِحْرٌ هَـٰذَا } مستأنفة من جهة موسى عليه السلام، والاستفهام: للتقريع والتوبيخ، بعد الجملة الأولى المستأنفة الواقعة جواب سؤال مقدّر، كأنه قيل: ماذا قال لهم موسى لما قالوا إن هذا لسحر مبين؟ فقيل: قال: أتقولون للحق لما جاءكم، على طريقة الاستفهام الإنكاري، والمعنى: أتقولون للحق لما جاءكم إنّ هذا لسحر مبين، وهو أبعد شيء من السحر. ثم أنكر عليهم، وقرّعهم، ووبخهم، فقال: { أَسِحْرٌ هَـٰذَا } فجاء موسى عليه السلام بإنكار بعد إنكار، وتوبيخ بعد توبيخ، وتجهيل بعد تجهيل، وجملة: { وَلاَ يُفْلِحُ ٱلسَّـٰحِرُونَ } في محل نصب على الحال: أي أتقولون للحق إنه سحر، والحال: أنه لا يفلح الساحرون، فلا يظفرون بمطلوب، ولا يفوزون بخير، ولا ينجون من مكروه، فكيف يقع في هذا من هو مرسل من عند الله، وقد أيده بالمعجزات والبراهين الواضحة؟

وجملة: { قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءابَاءنَا } مستأنفة جواب سؤال مقدّر، كأنه قيل: فماذا قالوا بعد أن قال لهم موسى ما قال؟ وفي هذا ما يدلّ على أنهم انقطعوا عن الدليل، وعجزوا عن إبراز الحجة، ولم يجحدوا ما يجيبون به عما أورده عليهم، بل لجئوا إلى ما يلجأ إليه أهل الجهل والبلادة، وهو: الاحتجاج بما كان عليه آباؤهم من الكفر، وضموا إلى ذلك ما هو غرضهم وغاية مطلبهم، وسبب مكابرتهم للحق، وجحودهم للآيات البينة، وهو الرياسة الدنيوية التي خافوا عليها، وظنوا أنها ستذهب عنهم إن آمنوا، وكم بقي على الباطل، وهو يعلم أنه باطل بهذه الذريعة من طوائف هذا العالم في سابق الدهر ولاحقه، فمنهم من حبسه ذلك عن الخروج من الكفر، ومنهم من حبسه عن الخروج إلى السنة من البدعة، وإلى الرواية الصحيحة من الرأي البحت، يقال: لفته لفتاً: إذا صرفه عن الشيء ولواه عنه، ومنه قول الشاعر:

تلفت نحو الحيّ حتى رأيتني وجعت من الإصغاء ليتاً وأخدعا

أي: تريد أن تصرفنا عن الشيء الذي وجدنا عليه آباءنا، وهو عبادة الأصنام، والمراد بالكبرياء: الملك، قال الزجاج: سمي الملك كبرياء؛ لأنه أكبر ما يطلب من أمر الدنيا؛ وقيل سمي بذلك؛ لأن الملك يتكبر.

والحاصل: أنهم عللوا عدم قبولهم دعوة موسى بأمرين: التمسك بالتقليد للآباء، والحرص على الرياسة الدنيوية؛ لأنهم إذا أجابوا النبي وصدّقوه صارت مقاليد أمر أمته إليه ولم يبق للملك رئاسة تامة؛ لأن التدبير للناس بالدين يرفع تدبير الملوك هم بالسياسات والعادات، ثم قالوا: { وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ } تصريحاً منهم بالتكذيب، وقطعاً للطمع في إيمانهم، وقد أفرد الخطاب لموسى في قولهم: { أجئتنا لتلفتنا }، ثم جمعوا بينه وبين هارون في الخطاب في قولهم: { وَتَكُونَ لَكُمَا ٱلْكِبْرِيَاء فِي ٱلأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ } ووجه ذلك أنهم أسندوا المجيء والصرف عن طريق آبائهم إلى موسى، لكونه المقصود بالرسالة المبلغ عن الله ما شرعه لهم، وجمعوا بينهما في الضميرين الآخرين؛ لأن الكبرياء شامل لهما في زعمهم، ولكون ترك الإيمان بموسى يستلزم ترك الإيمان بهارون، وقد مرّت القصة في الأعراف.

قوله: { وَقَالَ فِرْعَوْنُ ٱئْتُونِى بِكُلّ سَـٰحِرٍ عَلِيمٍ } قال هكذا لما رأى اليد البيضاء والعصا، لأنه اعتقد أنهما من السحر، فأمر قومه بأن يأتوه بكل ساحر عليم، هكذا قرأ حمزة والكسائي، وابن وثاب، والأعمش «سحار». وقرأ الباقون: { ساحر } وقد تقدّم الكلام على هذا في الأعراف، والسحار صيغة مبالغة: أي كثير السحر، كثير العلم بعمله وأنواعه { فَلَمَّا جَاء ٱلسَّحَرَةُ } في الكلام حذف، والتقدير هكذا: وقال فرعون ائتوني بكل سحار عليم، فأتوا بهم إليه، فلما جاء السحرة، فتكون الفاء للعطف على المقدّر المحذوف. قوله: { قَالَ لَهُمْ مُّوسَىٰ أَلْقُواْ مَا أَنتُمْ مُّلْقُونَ } أي: قال لهم هذه المقالة بعد أن قالوا له: إما أن تلقي، وإما أن نكون نحن الملقون: أي اطرحوا على الأرض ما معكم من حبالكم وعصيكم { فَلَمَّا أَلْقُوْاْ } ما ألقوه من ذلك { قَالَ } لهم { مُوسَىٰ مَا جِئْتُمْ بِهِ ٱلسِّحْرُ } أي: الذي جئتم به السحر، على أن "ما" موصولة مبتدأ والخبر السحر؛ والمعنى: أنه سحر، لا أنه آية من آيات الله. وأجاز الفراء نصب السحر بـ { جئتم }، وتكون "ما" شرطية، والشرط: "جئتم"، والجزاء: { إِنَّ ٱللَّهَ سَيُبْطِلُهُ } على تقدير الفاء: أي فإن الله سيبطله؛ وقيل: إن السحر منتصب على المصدر: أي ما جئتم به سحراً، ثم دخلت الألف واللام، فلا يحتاج على هذا إلى حذف الفاء، واختاره النحاس. وقال: حذف الفاء في المجازاة لا يجيزه كثير من النحويين إلا في ضرورة الشعر. وقرأ أبو عمرو، وأبو جعفر «آلسحر» على أن الهمزة للاستفهام، والتقدير: أهو السحر، فتكون "ما" على هذه القراءة استفهامية. وقرأ أبيّ «ما أتيتم به سحر إن الله سيبطله» أي: سيمحقه، فيصير باطلاً بما يظهره على يديّ من الآيات المعجزة { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ ٱلْمُفْسِدِينَ } أي: عمل هذا الجنس، فيشمل كل من يصدق عليه أنه مفسد، ويدخل فيه السحر والسحرة دخولاً أوّلياً، والواو في { وَيُحِقُّ ٱللَّهُ ٱلْحَقَّ } للعطف على سيبطله، أي يبينه ويوضحه { بِكَلِمَـٰتِهِ } التي أنزلها في كتبه على أنبيائه، لاشتمالها على الحجج والبراهين { وَلَوْ كَرِهَ ٱلْمُجْرِمُونَ } من آل فرعون، أو المجرمون على العموم، ويدخل تحتهم آل فرعون دخولاً أوّلياً، والإجرام: الآثام.

قوله: { فَمَا ءامَنَ لِمُوسَىٰ إِلاَّ ذُرّيَّةٌ مّن قَوْمِهِ } الضمير يرجع إلى موسى: أي من قوم موسى، وهم طائفة من ذراري بني إسرائيل. وقيل: المراد: طائفة من ذراري فرعون، فيكون الضمير عائداً على فرعون. قيل: ومنهم مؤمن آل فرعون وامرأته، وماشطة ابنته، وامرأة خازنه. وقيل: هم قوم آباؤهم من القبط وأمهاتهم من بني إسرائيل، روي هذا عن الفراء { عَلَىٰ خَوْفٍ مّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِم } الضمير لفرعون، وجمع لأنه لما كان جباراً جمعوا ضميره تعظيماً له. وقيل: إن قوم فرعون سموا بفرعون مثل ثمود، فرجع الضمير إليهم بهذا الاعتبار. وقيل: إنه عائد على مضاف محذوف، والتقدير: على خوف من آل فرعون، وروي هذا عن الفراء. ومنع ذلك الخليل، وسيبويه، فلا يجوز عندهما: قامت هند وأنت تريد غلامها. وروي عن الأخفش أن الضمير يعود على الذرية، وقوّاه النحاس: { أَن يَفْتِنَهُمْ } أي: يصرفهم عن دينهم بالعذاب الذي كان ينزله بهم، وهو بدل اشتمال. ويجوز أن يكون في موضع نصب بالمصدر { وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي ٱلأَرْضِ } أي: عات متكبر، متغلب على أرض مصر { وَإِنَّهُ لَمِنَ ٱلْمُسْرِفِينَ } المجاوزين للحد في الكفر، وما يفعله من القتل والصلب، وتنويع العقوبات.

قوله: { وَقَالَ مُوسَىٰ يا قَوْمٍ إِن كُنتُمْ ءامَنْتُمْ بِٱللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنْتُم مُّسْلِمِينَ } قيل: إن هذا من باب التكرير للشرط، فشرط في التوكل على الله الإيمان به والإسلام: أي الاستسلام لقضائه وقدره. وقيل: إن هذا ليس من تعليق الحكم بشرطين بل المعلق بالإيمان هو وجوب التوكل، والمشروط بالإسلام وجوده، والمعنى: أن يسلموا أنفسهم لله: أي يجعلوها له سالمة خالصة لا حظّ للشيطان فيها؛ لأن التوكل لا يكون مع التخليط. قال في الكشاف: ونظيره في الكلام: إن ضربك زيد فاضربه، إن كانت لك به قوّة { فَقَالُواْ } أي: قوم موسى مجيبين له { عَلَى ٱللَّهِ تَوَكَّلْنَا } ثم دعوا الله مخلصين، فقالوا: { رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً } أي: موضع فتنة { لّلْقَوْمِ ٱلظَّـٰلِمِينَ } والمعنى: لا تسلطهم علينا، فيعذبونا حتى يفتنونا عن ديننا، ولا تجعلنا فتنة لهم، يفتنون بنا غيرنا، فيقولون لهم: لو كان هؤلاء على حق لما سلطنا عليهم وعذبناهم، وعلى المعنى الأوّل: تكون الفتنة بمعنى المفتون. ولما قدّموا التضرّع إلى الله سبحانه في أن يصون دينهم عن الفساد، أتبعوه بسؤال عصمة أنفسهم، فقالوا: { وَنَجّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلْكَـٰفِرِينَ } وفي هذا دليل على أنه كان لهم اهتمام بأمر الدين فوق اهتمامهم بسلامة أنفسهم.

قوله: { وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا } "أن" هي المفسرة لأن في الإيحاء معنى القول أن تبوّآ: أي: اتخذوا لقومكما بمصر بيوتاً؛ يقال: بوّأت زيداً مكاناً، وبوّأت لزيد مكاناً، والمبوأ: المنزل الملزوم، ومنه بوّأه الله منزلاً: أي ألزمه إياه، وأسكنه فيه، ومنه الحديث: "من كذب عليّ متعمداً فليتبوّأ مقعده من النار" . ومنه قول الراجز:

نحن بنو عدنان ليس شك تبوّأ المجد بنـا والملك

قيل: ومصر في هذه الآية هي الإسكندرية، وقيل: هي مصر المعروفة، لا الإسكندرية { وَٱجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً } أي: متوجهة إلى جهة القبلة، قيل: والمراد بالبيوت هنا: المساجد، وإليه ذهب جماعة من السلف. وقيل المراد بالبيوت: التي يسكنون فيها، أمروا بأن يجعلوها منا قبلة، والمراد بالقبلة على القول الأوّل: هي جهة بيت المقدس، وهو: قبلة اليهود إلى اليوم. وقيل: جهة الكعبة، وأنها كانت قبلة موسى ومن معه؛ وقيل: المراد أنهم يجعلون بيتهم مستقبلة للقبلة، ليصلوا فيها سرّاً لئلا يصيبهم من الكفار معرّة بسبب الصلاة، ومما يؤيد هذا قوله: { وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَة } أي: التي أمركم الله بإقامتها، فإنه يفيد أن القبلة هي قبلة الصلاة، إما في المساجد أو في البيوت، لا جعل البيوت متقابلة، وإنما جعل الخطاب في أوّل الكلام مع موسى وهارون، ثم جعله لهما ولقومهما في قوله: { وَٱجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ } ثم أفرد موسى بالخطاب بعد ذلك، فقال: { وَبَشّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } لأن اختيار المكان مفوّض إلى الأنبياء، ثم جعل عاماً في استقبال القبلة وإقامة الصلاة، لأن ذلك واجب على الجميع لا يختص بالأنبياء، ثم جعل خاصاً بموسى؛ لأنه الأصل في الرسالة، وهارون تابع له، فكان ذلك تعظيماً للبشارة وللمبشر بها. وقيل: إن الخطاب في { وبشّر المؤمنين } لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، على طريقة الالتفات والاعتراض، والأوّل: أولى.

وقد أخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن قتادة، في قوله: { لِتَلْفِتَنَا } قال: لتلوينا. وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن السديّ، قال: لتصدّنا عن آلهتنا، وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، عن مجاهد، في قوله: { وَتَكُونَ لَكُمَا ٱلْكِبْرِيَاء فِى ٱلأَرْضِ } قال: العظمة والملك والسلطان. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس، في قوله: { فَمَا ءامَنَ لِمُوسَىٰ إِلاَّ ذُرّيَّةٌ } قال: الذرية: القليل. وأخرج هؤلاء، عنه، في قوله: { ذُرّيَّةٌ مّن قَوْمِهِ } قال: من بني إسرائيل. وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وأبو الشيخ، عن مجاهد، قال: هم أولاد الذين أرسل إليهم موسى من طول الزمان ومات آباؤهم. وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس، قال: كانت الذرية التي آمنت لموسى من أناس غير بني إسرائيل من قوم فرعون منهم: امرأة فرعون، ومؤمن آل فرعون، وخازن فرعون، وامرأة خازنه.

وأخرج عبد الرزاق، وسعيد بن منصور، ونعيم بن حماد في الفتن، وأبو الشيخ، عن مجاهد، في قوله: { رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لّلْقَوْمِ ٱلظَّـٰلِمِينَ } قال: لا تسلطهم علينا فيفتنونا. وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عنه، قال في تفسير الآية: لا تعذبنا بأيدي قوم فرعون، ولا بعذاب من عندك، فيقول قوم فرعون: لو كانوا على الحق ما عذبوا ولا سلطنا عليهم فيفتنون بنا. وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وأبو الشيخ، عن أبي قلابة، في الآية قال: سأل ربه ألا يظهر علينا عدوّنا، فيحسبون أنهم أولى بالعدل فيفتنون بذلك. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن أبي مجلز، نحوه.

وأخرج أبو الشيخ، عن قتادة، في قوله: { وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ وَأَخِيهِ } الآية. قال ذلك حين منعهم فرعون الصلاة، فأمروا أن يجعلوا مساجدهم في بيوتهم، وأن يوجهوها نحو القبلة. وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد، في قوله: { أَن تَبَوَّءا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ } قال: مصر: الإسكندرية. وأخرج سعيد بن منصور، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد، في الآية قال: كانوا لا يصلون إلا في البيع حتى خافوا من آل فرعون، فأمروا أن يصلوا في بيوتهم. وأخرج الفريابي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه، عن ابن عباس، في الآية قال: أمروا أن يتخذوا في بيوتهم مساجد. وأخرج أبو الشيخ، عن أبي سنان، قال: القبلة: الكعبة، وذكر أن آدم فمن بعده كانوا يصلون قبل الكعبة. وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس، في قوله: { وَٱجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً } قال: يقابل بعضها بعضاً.