التفاسير

< >
عرض

ويْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ
١
ٱلَّذِى جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ
٢
يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ
٣
كَلاَّ لَيُنبَذَنَّ فِي ٱلْحُطَمَةِ
٤
وَمَآ أَدْرَاكَ مَا ٱلْحُطَمَةُ
٥
نَارُ ٱللَّهِ ٱلْمُوقَدَةُ
٦
ٱلَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى ٱلأَفْئِدَةِ
٧
إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ
٨
فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةِ
٩
-الهمزة

فتح القدير

الويل: هو مرتفع على الابتداء، وسوّغ الابتداء به مع كونه نكرة كونه دعاء عليهم، وخبره: { لّكُلّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ } والمعنى: خزي، أو عذاب، أو هلكة أو واد في جهنم لكل همزة لمزة. قال أبو عبيدة، والزجاج: الهمزة اللمزة الذي يغتاب الناس، وعلى هذا هما بمعنى وقال أبو العالية، والحسن، ومجاهد، وعطاء بن أبي رباح: الهمزة الذي يغتاب الرجل في وجهه، واللمزة: الذي يغتابه من خلفه. وقال قتادة عكس هذا. وروي عن قتادة، ومجاهد أيضاً أن الهمزة: الذي يغتاب الناس في أنسابهم. وروي عن مجاهد أيضاً أن الهمزة: الذي يهمز الناس بيده. واللمزة الذي يلمزهم بلسانه. وقال سفيان الثوري: يهمزهم بلسانه، ويلمزهم بعينه. وقال ابن كيسان الهمزة: الذي يؤذي جلساءه بسوء اللفظ، واللمزة: الذي يكسر عينه على جليسه، ويشير بيده وبرأسه وبحاجبه، والأوّل أولى، ومنه قول زياد الأعجم:

تدلي بودّي إذا لاقيتني كذبا وإن أغيب فأنت الهامز اللمزه

وقول الآخر:

إذا لقيتك عن سخط تكاشرني وإن تغيبت كنت الهامز اللمزه

وأصل الهمز: الكسر. يقال: همز رأسه كسره، ومنه قول العجاج:

ومن همزنا رأسه تهشما

وقيل: أصل الهمز واللمز: الضرب والدفع. يقال: همزه يهمزه همزاً، ولمزه يلمزه لمزاً: إذا دفعه وضربه، ومنه قول الشاعر؛

ومن همزنا عزه تبركعا على أسته زوبعة أو زوبعا

البركعة: القيام على أربع. يقال بركعه، فتبركع، أي: صرعه، فوقع على أسته. كذا في الصحاح، وبناء فعلة يدلّ على الكثرة، ففيه دلالة على أنه يفعل ذلك كثيراً، وأنه قد صار ذلك عادة له، ومثله ضحكة ولعنة. قرأ الجمهور: { همزة لمزة } بضم أوّلهما، وفتح الميم فيهما. وقرأ الباقر، والأعرج بسكون الميم فيهما. وقرأ أبو وائل، والنخعي، والأعمش: (ويل للهمزة اللمزة) والآية تعمّ كلّ من كان متصفاً بذلك، ولا ينافيه نزولها عل سبب خاص، فإن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. { ٱلَّذِى جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ } الموصول بدل من كلّ، أو في محل نصب على الذمّ، وهذا أرجح؛ لأن البدل يستلزم أن يكون المبدل منه في حكم الطرح، وإنما وصفه سبحانه بهذا الوصف؛ لأنه يجري مجرى السبب، والعلة في الهمز واللمز، وهو إعجابه بما جمع من المال، وظنه أنه الفضل، فلأجل ذلك يستقصر غيره. قرأ الجمهور: { جمع } مخففاً. وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي بالتشديد. وقرأ الجمهور: { وعدّده } بالتشديد. وقرأ الحسن، والكلبي، ونصر بن عاصم، وأبو العالية بالتخفيف، والتشديد في الكلمتين يدلّ على التكثير وهو جمع الشيء بعد الشيء، وتعديده مرّة بعد أخرى. قال الفراء: معنى: { عدّده } أحصاه. وقال الزجاج: وعدّده لنوائب الدّهور. يقال: أعددت الشيء وعددته: إذا أمسكته. قال السديّ: أحصى عدده. وقال الضحاك: أعدّ ماله لمن يرثه. وقيل: المعنى فاخر بكثرته وعدده، والمقصود ذمه على جمع المال، وإمساكه، وعدم إنفاقه في سبيل الخير. وقيل: المعنى على قراءة التخفيف في "عدّده": أنه جمع عشيرته وأقاربه. قال المهدوي: من خفف "وعدّده"، فهو معطوف على المال، أي: وجمع عدده.

وجملة: { يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ } مستأنفة: لتقرير ما قبلها، ويجوز أن تكون في محل نصب على الحال، أي: يعمل عمل من يظنّ أن ماله يتركه حياً مخلداً لا يموت. وقال عكرمة: يحسب أن ماله يزيد في عمره، والإظهار في موضع الإضمار للتقريع والتوبيخ. وقيل: هو تعريض بالعمل الصالح، وأنه الذي يخلد صاحبه في الحياة الأبدية لا المال. وقوله: { كَلاَّ } ردع له عن ذلك الحسبان أي: ليس الأمر على ما يحسبه هذا الذي جمع المال وعدده، واللام في: { لَيُنبَذَنَّ فِى ٱلْحُطَمَةِ } جواب قسم محذوف، أي: ليطرحنّ في النار، وليلقينّ فيها. قرأ الجمهور: { لينبذنّ } وقرأ عليّ، والحسن، ومحمد بن كعب، ونصر بن عاصم، ومجاهد، وحميد، وابن محيصن: (لينبذانّ) بالتثنية، أي: لينبذ هو وماله في النار. وقرأ الحسن أيضاً: { لينبذنّ } أي: لينبذن ماله في النار. { وَمَا أَدْرَاكَ مَا ٱلْحُطَمَةُ }؟ هذا الاستفهام للتهويل والتفظيع حتى كأنها ليست مما تدركه العقول، وتبلغه الأفهام. ثم بيّنها سبحانه فقال: { نَارُ ٱللَّهِ ٱلْمُوقَدَةُ } أي: هي نار الله الموقدة بأمر الله سبحانه، وفي إضافتها إلى الاسم الشريف تعظيم لها وتفخيم، وكذلك في وصفها بالإيقاد. وسميت "حطمة"؛ لأنها تحطم كل ما يلقى فيها وتهشمه، ومنه:

إنا حطمنا بالقضيب مصعبا يوم كسرنا أنفه ليغضبا

قيل: هي الطبقة السادسة من طبقات جهنم. وقيل: الطبقة الثانية منها. وقيل: الطبقة الرابعة { ٱلَّتِى تَطَّلِعُ عَلَى ٱلأفْئِدَةِ } أي: يخلص حرّها إلى القلوب فيعلوها ويغشاها، وخصّ الأفئدة مع كونها تغشى جميع أبدانهم؛ لأنها محلّ العقائد الزائغة، أو لكون الألم إذا وصل إليها مات صاحبها، أي: إنهم في حال من يموت، وهم لا يموتون. وقيل معنى: { تَطَّلِعُ عَلَى ٱلأفْئِدَةِ } أنها تعلم بمقدار ما يستحقه كل واحد منهم من العذاب، وذلك بأمارات عرّفها الله بها. { إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ } أي: مطبقة مغلقة، كما تقدّم بيانه في سورة البلد، يقال أصدت الباب: إذا أغلقته، ومنه قول قيس بن الرقيات:

إن في القصر لو دخلنا غزالا مصفقاً موصداً عليه الحجاب

{ فِى عَمَدٍ مُّمَدَّدَةِ } في محل نصب على الحال من الضمير في { عليهم }، أي: كائنين في عمد ممدّدة موثقين فيها، أو في محلّ رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: هم في عمد، أو صفة لمؤصدة، أي: مؤصدة بعمد ممدّدة. قال مقاتل: أطبقت الأبواب عليهم، ثم شدّت بأوتادٍ من حديد، فلا يفتح عليهم باب، ولا يدخل عليهم روح. ومعنى كون العمد ممدّدة: أنها مطوّلة، وهي: أرسخ من القصيرة. وقيل: العمد أغلال في جهنم، وقيل: القيود. قال قتادة: المعنى: هم في عمد يعذّبون بها، واختار هذا ابن جرير. قرأ الجمهور: { في عمد } بفتح العين، والميم. وقيل: هو اسم جمع لعمود. وقيل: جمع له. قال الفرّاء: هي جمع لعمود كأديم وأدم. وقال أبو عبيدة: هي جمع عماد. وقرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر بضم العين، والميم جمع عمود. قال الفرّاء: هما جمعان صحيحان لعمود. واختار أبو عبيد، وأبو حاتم وقراءة الجمهور. قال الجوهري: العمود عمود البيت، وجمع القلة أعمدة، وجمع الكثرة عمد وعمد، وقرىء بهما. قال أبو عبيدة: العمود كل مستطيل من خشب أو حديد.

وقد أخرج سعيد بن منصور، وابن أبي الدنيا، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه من طرق عن ابن عباس أنه سئل عن قوله: { وَيْلٌ لّكُلّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ } قال: هو المشاء بالنميمة، المفرّق بين الجمع، المغري بين الإخوان. وأخرج ابن جرير عنه: { وَيْلٌ لّكُلّ هُمَزَةٍ } قال: طعان. { لُّمَزَةٍ } قال: مغتاب. وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عنه أيضاً في قوله: { إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ } قال: مطبقة. { فِى عَمَدٍ مُّمَدَّدَةِ } قال: عمد من نار. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال: هي الأدهم. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: الأبواب هي الممدّدة. وأخرج ابن جرير عنه في الآية قال: أدخلهم في عمد، فمدّت عليهم في أعناقهم، فشدّت بها الأبواب.