التفاسير

< >
عرض

لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ
١
إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ ٱلشِّتَآءِ وَٱلصَّيْفِ
٢
فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَـٰذَا ٱلْبَيْتِ
٣
ٱلَّذِيۤ أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ
٤
-قريش

فتح القدير

اللام في قوله: { لإِيلَـٰفِ } قيل: هي متعلقة بآخر السورة التي قبلها. كأنه قال سبحانه: أهلكت أصحاب الفيل لأجل تألف قريش. قال الفرّاء: هذه السورة متصلة بالسورة الأولى؛ لأنه ذكر سبحانه أهل مكة بعظيم نعمته عليهم فيما فعل بالحبشة. ثم قال: { لإِيلَـٰفِ قُرَيْشٍ } أي: فعلنا ذلك بأصحاب الفيل نعمة منا على قريش، وذلك أن قريشاً كانت تخرج في تجارتها، فلا يغار عليها في الجاهلية، يقولون: هم أهل بيت الله عزّ وجلّ، حتى جاء صاحب الفيل ليهدم الكعبة، ويأخذ حجارتها فيبني بها بيتاً في اليمن يحجّ الناس إليه، فأهلكهم الله عزّ وجلّ، فذكرهم نعمته، أي: فعل ذلك لإيلاف قريش، أي: ليألفوا الخروج ولا يجترأ عليهم، وذكر نحو هذا ابن قتيبة. قال الزجاج: والمعنى: فجعلهم كعصف مأكول { لإِيلَـٰفِ قُرَيْشٍ } أي: أهلك الله أصحاب الفيل لتبقى قريش، وما قد ألفوا من رحلة الشتاء والصيف. وقال في الكشاف: إن اللام متعلق بقوله: { فَلْيَعْبُدُواْ }. أمرهم أن يعبدوه لأجل إيلافهم الرحلتين، ودخلت الفاء لما في الكلام من معنى الشرط؛ لأن المعنى: أما لا، فليعبدوه. وقد تقدّم صاحب الكشاف إلى هذا القول الخليل بن أحمد، والمعنى: إن لم يعبدوه لسائر نعمه، فليعبدوه لهذه النعمة الجليلة. وقال الكسائي والأخفش: اللام لام التعجب، أي اعجبوا لإيلاف قريش. وقيل: هي بمعنى إلى. قرأ الجمهور: (لإئلاف) بالياء مهموزاً من ألفت أؤلف إئلافاً. يقال: ألفت الشيء ألافاً وألفاً. وألفته إيلافاً بمعنى، ومنه قول الشاعر:

المنعمين إذا النجوم تغيرت والظاعنين لرحلة الإيلاف

وقرأ ابن عامر: (لإلاف) بدون الياء. وقرأ أبو جعفر: (لإلف). وقد جمع بين هاتين القراءتين الشاعر، فقال:

زعمتم أن إخوتكم قريش لهم إلف وليس لكم إلاّف

وقرأ عكرمة: (ليألف قريش) بفتح اللام على أنها لام الأمر، وكذلك هو: في مصحف ابن مسعود، وفتح لام الأمر لغة معروفة. وقرأ بعض أهل مكة: (إلاّف قريش) واستشهد بقول أبي طالب:

تذود الورى من عصبة هاشمية إلاّفهم في الناس خير إلاّف

وقريش هم: بنو النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر، فكل من كان من ولد النضر فهو قرشي، ومن لم يلده النضر فليس بقرشي، وقريش يأتي منصرفاً إن أريد به الحيّ، وغير منصرف إن أريد به القبيلة ومنه قول الشاعر:

وكفى قريش المعضلات وسادها

وقيل إنّ قريشاً بنو فهر بن مالك بن النضر. والأوّل أصح. وقوله: { إِيلَـٰفِهِمْ } بدل من إيلاف قريش. و{ رِحْلَةَ } مفعول به لإيلافهم وأفردها، ولم يقل رحلتي الشتاء والصيف لأمن الإلباس. وقيل: إن إيلافهم تأكيد للأوّل لا بدل، والأوّل أولى. ورجحه أبو البقاء. وقيل: إن رحلة منصوبة بمصدر مقدّر، أي: ارتحالهم رحلة { ٱلشّتَاء وَٱلصَّيْفِ } وقيل: هي منصوبة على الظرفية والرحلة: الارتحال، وكانت إحدى الرحلتين إلى اليمن في الشتاء؛ لأنها بلاد حارّة، والرحلة الأخرى إلى الشام في الصيف؛ لأنها بلاد باردة. وروي أنهم كانوا يشتون بمكة، ويصيفون بالطائف، والأوّل أولى، فإن ارتحال قريش للتجارة معلوم معروف في الجاهلية والإسلام. قال ابن قتيبة: إنما كانت تعيش قريش بالتجارة، وكانت لهم رحلتان في كل سنة: رحلة في الشتاء إلى اليمن، ورحلة في الصيف إلى الشام، ولولا هاتان الرحلتان لم يمكن بها مقام، ولولا الأمن بجوارهم البيت لم يقدروا على التصرّف. { فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَـٰذَا ٱلْبَيْتِ } أمرهم سبحانه بعبادته بعد أن ذكر لهم ما أنعم به عليهم أي: إن لم يعبدوه لسائر نعمه، فليعبدوه لهذه النعمة الخاصة المذكورة، والبيت الكعبة. وعرّفهم سبحانه بأنه ربّ هذا البيت؛ لأنها كانت لهم أوثان يعبدونها، فميز نفسه عنها. وقيل: لأنهم بالبيت تشرفوا على سائر العرب، فذكر لهم ذلك تذكيراً لنعمته. { ٱلَّذِى أَطْعَمَهُم مّن جُوعٍ } أي: أطعمهم بسبب تينك الرحلتين من جوع شديد كانوا فيه قبلهما. وقيل: إن هذا الإطعام هو أنهم لما كذبوا النبيّ صلى الله عليه وسلم دعا عليهم، فقال: اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف، فاشتد القحط، فقالوا: يا محمد ادع الله لنا فإنا مؤمنون، فدعا، فأخصبوا وزال عنهم الجوع، وارتفع القحط. { وآمنهم من خوف } أي: من خوف شديد كانوا فيه. قال ابن زيد: كانت العرب يغير بعضها على بعض ويسبي بعضها بعضاً، فأمنت قريش من ذلك لمكان الحرم. وقال الضحاك، والربيع، وشريك، وسفيان: آمنهم من خوف الحبشة مع الفيل.

وقد أخرج أحمد، وابن أبي حاتم عن أسماء بنت يزيد قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " { لإِيلَـٰفِ قُرَيْشٍ * إِيلَـٰفِهِمْ رِحْلَةَ ٱلشّتَاء وَٱلصَّيْفِ } ويحكم يا قريش، اعبدوا ربّ هذا البيت الذي أطعمكم من جوع، وآمنكم من خوف" وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: { لإِيلَـٰفِ قُرَيْشٍ } قال: نعمتي على قريش. { إِيلَـٰفِهِمْ رِحْلَةَ ٱلشّتَاء وَٱلصَّيْفِ } كانوا يشتون بمكة، ويصيفون بالطائف. { فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَـٰذَا ٱلْبَيْتِ } قال: الكعبة. { ٱلَّذِى أَطْعَمَهُم مّن جُوعٍ وَءامَنَهُم مّنْ خوْفٍ } قال: الجذام. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عنه: { لإِيلَـٰفِ قُرَيْشٍ * إِيلَـٰفِهِمْ } قال: لزومهم. { ٱلَّذِى أَطْعَمَهُم مّن جُوعٍ } يعني قريشاً أهل مكة بدعوة إبراهيم حيث قال: { وَٱرْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ ٱلثَّمَرٰتِ } [البقرة: 126] { وآمنهم من خوف } حيث قال إبراهيم { رَبّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا ٱلْبَلَدَ امِنًا } [البقرة: 35] وأخرج ابن جرير، وابن مردويه عنه أيضاً في قوله: { لإِيلَـٰفِ قُرَيْشٍ... } الآية، قال: نهاهم عن الرحلة، وأمرهم أن يعبدوا ربّ هذا البيت، وكفاهم المؤنة، وكانت رحلتهم في الشتاء والصيف، ولم يكن لهم راحة في شتاء ولا صيف، فأطعمهم الله بعد ذلك من جوع، وآمنهم من خوف، فألفوا الرحلة، وكان ذلك من نعمة الله عليهم. وأخرج ابن جرير عنه أيضاً في الآية قال: أمروا أن يألفوا عبادة ربّ هذا البيت كإلفهم رحلة الشتاء والصيف، وقد وردت أحاديث في فضل قريش، وإن الناس تبع لهم في الخير والشرّ، وإن هذا الأمر يعني الخلافة لا يزال فيهم ما بقي منهم اثنان، وهي في دواوين الإسلام.