التفاسير

< >
عرض

أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ قُلْ إِنِ ٱفْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَاْ بَرِيۤءٌ مِّمَّا تُجْرِمُونَ
٣٥
وَأُوحِيَ إِلَىٰ نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ
٣٦
وَٱصْنَعِ ٱلْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ
٣٧
وَيَصْنَعُ ٱلْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ
٣٨
فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ
٣٩
حَتَّىٰ إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ قُلْنَا ٱحْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ ٱثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ ٱلْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَآ آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ
٤٠
وَقَالَ ٱرْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ ٱللَّهِ مَجْريٰهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ
٤١
وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَٱلْجِبَالِ وَنَادَىٰ نُوحٌ ٱبْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يٰبُنَيَّ ٱرْكَبَ مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ ٱلْكَافِرِينَ
٤٢
قَالَ سَآوِيۤ إِلَىٰ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ ٱلْمَآءِ قَالَ لاَ عَاصِمَ ٱلْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا ٱلْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ ٱلْمُغْرَقِينَ
٤٣
وَقِيلَ يٰأَرْضُ ٱبْلَعِي مَآءَكِ وَيٰسَمَآءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ ٱلْمَآءُ وَقُضِيَ ٱلأَمْرُ وَٱسْتَوَتْ عَلَى ٱلْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ
٤٤
-هود

فتح القدير

.

قوله: { أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ } أنكر سبحانه عليهم قولهم: إن ما أوحى إلى نوح مفترى، فقال: { أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ } ثم أمره أن يجيب بكلام متصف، فقال: { قُلْ إِنِ ٱفْتَرَيْتُهُ فَعَلَىَّ إِجْرَامِى } بكسر الهمزة على قراءة الجمهور، مصدر أجرم: أي فعل ما يوجب الإثم، وجرم وأجرم بمعنى قاله النحاس، والمعنى: فعليّ إثمي، أو جزاء كسبي. ومن قرأ بفتح الهمزة، قال: هو جمع جرم ذكره النحاس أيضاً { وَأَنَاْ بَرِىء مّمَّا تُجْرَمُونَ } أي: من إجرامكم بسبب ما تنسبونه إليّ من الافتراء، قيل: وفي الكلام حذف والتقدير: لكن ما افتريته، فالإجرام وعقابه ليس إلا عليكم، وأنا بريء منه. وقد اختلف المفسرون في هذه الآية، فقيل: إنها حكاية عن نوح، وما قاله لقومه، وقيل: هي حكاية عن المحاورة الواقعة بين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وكفار مكة. والأوّل: أولى؛ لأن الكلام قبلها وبعدها مع نوح عليه السلام.

قوله: { وَأُوحِىَ إِلَىٰ نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمن } { أنه لن يؤمن } في محل رفع على أنه نائب الفاعل الذي لم يسمّ. ويجوز أن يكون في موضع نصب بتقدير الباء: أي بأنه، وفي الكلام تأييس له من إيمانهم، وأنهم مستمرّون على كفرهم، مصممون عليه، لا يؤمن أحد منهم إلا من قد سبق إيمانه { فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } البؤس: الحزن، أي فلا تحزن، والبائس: المستكين، فنهاه الله سبحانه عن أن يحزن حزن مستكين؛ لأن الابتئاس حزن في استكانة. ومنه قول الشاعر:

وكم من خليل أو حميم رُزِئته فلم أبتئس والرزءُ فيه جليلُ

ثم إن الله سبحانه لما أخبره أنهم لا يؤمنون ألبتة عرفه وجه إهلاكهم، وألهمه الأمر الذي يكون به خلاصه، وخلاص من آمن معه، فقال: { وَٱصْنَعِ ٱلْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا } أي: اعمل السفينة متلبساً بأعيننا: أي بمرأى منا، والمراد بحراستنا لك وحفظنا لك، وعبر عن ذلك بالأعين لأنها آلهة الرؤية، والرؤية هي: التي تكون بها الحراسة والحفظ في الغالب، وجمع الأعين للتعظيم لا للتكثير. وقيل المعنى: { بِأَعْيُنِنَا } أي: بأعين ملائكتنا الذين جعلناهم عيوناً على حفظك. وقيل: { بِأَعْيُنِنَا } بعلمنا. وقيل: بأمرنا. ومعنى بوحينا: بما أوحينا إليك من كيفية صنعتها { وَلاَ تُخَـٰطِبْنِى فِى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ } أي: لا تطلب إمهالهم، فقد حان وقت الانتقام منهم، وجملة { إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ } للتعليل: أي: لا تطلب منا إمهالهم، فإنه محكوم منا عليهم بالغرق، وقد مضى به القضاء فلا سبيل إلى دفعه ولا تأخيره. وقيل: المعنى: ولا تخاطبني في تعجيل عقابهم، فإنهم مغرقون في الوقت المضروب لذلك، لا يتأخر إغراقهم عنه. وقيل المراد بالذين ظلموا: امرأته وابنه.

{ وَيَصْنَعُ ٱلْفُلْكَ } أي: وطفق يصنع الفلك، أو وأخذ يصنع الفلك. وقيل: هو حكاية حال ماضية لاستحضار الصورة، وجملة: { وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ } في محل نصب على الحال: أي استهزءوا به لعمله السفينة. قال الأخفش والكسائي: يقال سخرت به ومنه. وفي وجه سخريتهم منه قولان: أحدهما: أنهم كانوا يرونه يعمل السفينة، فيقولون يا نوح صرت بعد النبوّة نجاراً. والثاني: أنهم لما شاهدوه يعمل السفينة، وكانوا لا يعرفونها قبل ذلك، قالوا: يا نوح ما تصنع بها؟ قال: أمشي بها على الماء فعجبوا من قوله، وسخروا به. ثم أجاب عليهم بقوله: { إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ } وهذا الكلام مستأنف على تقدير سؤال كأنه قيل: فماذا قال لهم؟ والمعنى: إن تسخروا منا بسبب عملنا للسفينة اليوم، فإنا نسخر منكم غداً عند الغرق. ومعنى السخرية هنا: الاستجهال، أي: إن تستجهلونا فإنا نستجهلكم كما تستجهلون، واستجهاله لهم باعتبار إظهاره لهم ومشافهتهم، وإلا فهم عنده جهال قبل هذا وبعده، والتشبيه في قوله: { كَمَا تَسْخَرُونَ } لمجرد التحقق والوقوع، أو التجدّد والتكرّر، والمعنى: إنا نسخر منكم سخرية متحققة واقعة كما تسخرون منا كذلك، أو متجدّدة متكرّرة كما تسخرون منا كذلك. وقيل معناه: نسخر منكم في المستقبل سخرية مثل سخريتكم إذا وقع عليكم الغرق، وفيه نظر، فإن حالهم إذ ذاك لا تناسبه السخرية، إذ هم في شغل شاغل عنها.

ثم هدّدهم بقوله: { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ } وهو عذاب الغرق في الدنيا { وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ } وهو عذاب النار الدائم، ومعنى يحلّ: يجعل المؤجل حالاً، مأخوذ من حلول الدين المؤجل، و"من" موصولة في محل نصب، ويجوز أن تكون استفهامية في محل رفع: أي أينا يأتيه عذاب يخزيه. وقيل: في موضع رفع بالابتداء، و{ يأتيه } الخبر، و{ يخزيه } صفة لعذاب. قال الكسائي: إن ناساً من أهل الحجاز يقولون: "سوف تعلمون"؛ قال: ومن قال "ستعلمون" أسقط الواو والفاء جميعاً، وجوّز الكوفيون «سف تعلمون» ومنعه البصريون، والمراد بعذاب الخزي: العذاب الذي يخزي صاحبه، ويحل عليه العار.

قوله: { حَتَّىٰ إِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ } "حتى" هي الابتدائية دخلت على الجملة الشرطية، وجعلت غاية لقوله: { واصنع الفلك بأعيننا }. والتنور: اختلف في تفسيرها على أقوال: الأوّل: أنها وجه الأرض، والعرب تسمى وجه الأرض تنوراً، روي ذلك عن ابن عباس، وعكرمة، والزهري، وابن عيينة. الثاني: أنه تنور الخبز الذي يخبزونه فيه، وبه قال مجاهد وعطية والحسن، وروي عن ابن عباس أيضاً. الثالث: أنه موضع اجتماع الماء في السفينة، روي عن الحسن. الرابع: أنه طلوع الفجر، من قولهم تنّور الفجر، روي عن عليّ بن أبي طالب. الخامس: أنه مسجد الكوفة، روي عن عليّ أيضاً ومجاهد. قال مجاهد: كان ناحية التنّور بالكوفة. السادس: أنه أعالي الأرض، والمواضع المرتفعة، قاله قتادة. السابع: أنه العين التي بالجزيرة المسماة عين الوردة، روي ذلك عن عكرمة. الثامن: أنه موضع بالهند. قال ابن عباس: كان تنور آدم بالهند. قال النحاس: وهذه الأقوال ليست بمتناقضة، لأن الله سبحانه قد أخبر بأن الماء قد جاء من السماء والأرض، قال: { { فَفَتَحْنَا أَبْوٰبَ ٱلسَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا ٱلأَرْضَ عُيُوناً } [القمر: 11، 12] فهذه الأقوال تجتمع في أن ذلك كان علامة. هكذا قال، وفيه نظر، فإن القول الرابع ينافي هذا الجمع، ولا يستقيم عليه التفسير بنبع الماء. إلا إذا كان المراد مجرد العلامة، كما ذكره آخراً. وقد ذكر أهل اللغة أن الفور: الغليان، والتنور: اسم عجمي عرّبته العرب. وقيل: معنى فار التنور: التمثيل بحضور العذاب كقولهم: حَمي الوطيس: إذا اشتدّ الحرب، ومنه قول الشاعر:

تركتم قدركم لا شيء فيها وقِدرُ القوم حامية تفورُ

يريد: الحرب.

قوله: { قُلْنَا ٱحْمِلْ فِيهَا مِن كُلّ زَوْجَيْنِ ٱثْنَيْنِ } أي: قلنا: يا نوح، احمل في السفينة من كل زوجين مما في الأرض من الحيوانات اثنين ذكراً وأثنى. وقرأ حفص: { من كلّ } بتنوين كل: أي: من كل شيء زوجين، والزوجان للاثنين اللذين لا يستغنى أحدهما عن الآخر، ويطلق على كل واحد منهما زوج، كما يقال للرجال زوج، وللمرأة زوج، ويطلق الزوج على الاثنين إذا استعمل مقابلاً للفرد، ويطلق الزوج على الضرب والصنف، ومثله قوله تعالى: { { وَأَنبَتَتْ مِن كُلّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } [الحج: 5]، ومثله قول الأعشى:

وكل ضرب من الديباج يلبسه أبو حذافة مخبوّ بذاك معا

أراد كل صنف من الديباج { وَأَهْلَكَ } عطف على { زوجين }، أو على اثنين على قراءة حفص، وعلى محل كل زوجين، فإنه في محلّ نصب بـ { احمل }، أو على { اثنين } على قراءة الجمهور، والمراد: امرأته وبنوه ونساؤهم { إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ ٱلْقَوْلُ } أي: من تقدّم الحكم عليه بأنه من المغرقين، في قوله: { وَلاَ تُخَـٰطِبْنِى فِى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ } على الاختلاف السابق فيهم، فمن جعلهم جميع الكفار من أهله وغيرهم كان هذا الاستثناء من جملة { ٱحْمِلْ فِيهَا مِن كُلّ زَوْجَيْنِ ٱثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ } ومن قال: المراد بهم ولده كنعان وامرأته واعلة أمّ كنعان جعل الاستثناء من أهلك، ويكون متصلاً إن أريد بالأهل ما هو أعمّ من المسلم والكافر منهم، ومنقطعاً إن أريد بالأهل المسلمون منهم فقط، قوله: { وَمَنْ ءامَنَ } معطوف على { أهلك }: أي: واحمل في السفينة من آمن من قومك، وأفرد الأهل منهم لمزيد العناية بهم، أو للاستثناء منهم على القول الآخر. ثم وصف الله سبحانه قلة المؤمنين مع نوح بالنسبة إلى من كفر به، فقال: { وَمَا ءامَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ } قيل: هم ثمانون إنساناً: منهم ثلاثة من بنيه، وهو سام، وحام، ويافث، وزوجاتهم، ولما خرجوا من السفينة بنوا قرية يقال لها قرية الثمانين، وهي موجودة بناحية الموصل. وقيل: كانوا عشرة. وقيل: سبعة، وقيل: كانوا اثنين وسبعين. وقيل: غير ذلك.

قوله: { وَقَالَ ٱرْكَبُواْ فِيهَا } القائل: نوح، وقيل: الله سبحانه. والأوّل: أولى، لقوله: { إِنَّ رَبّى لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } والركوب: العلوّ على ظهر الشيء حقيقة نحو ركب الدابة، أو مجازاً نحو ركبه الدين، وفي الكلام حذف: أي: اركبوا الماء في السفينة، فلا يرد أن ركب يتعدّى بنفسه؛ وقيل إن الفائدة في زيادة "في" أنه أمرهم بأن يكونوا في جوف السفينة لا على ظهرها. وقيل: إنها زيدت لرعاية جانب المحلية في السفينة كما في قوله: { { فَإِذَا رَكِبُواْ فِى ٱلْفُلْكِ } [العنكبوت: 65]، وقوله: { { حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِى ٱلسَّفِينَةِ } [الكهف: 71] قيل: ولعلّ نوحاً قال هذه المقالة بعد إدخال ما أمر بحمله من الأزواج، كأنه قيل: فحمل الأزواج وأدخلها في الفلك، وقال للمؤمنين، ويمكن أن يقال إنه أمر بالركوب كل من أمر بحمله من الأزواج والأهل والمؤمنين، ولا يمتنع أن يفهم خطابه من لا يعقل من الحيوانات، أو يكون هذا على طريقة التغليب. قوله: { بِسْمِ اللَّهِ } متعلق بـ { اركبوا }، أو حال من فاعله: أي مسمين الله، أو قائلين: { بِسْمِ ٱللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا } قرأ أهل الحرمين وأهل البصرة بضمّ الميم فيهما إلا من شدّ منهم على أنهما اسما زمان، وهما: في موضع نصب على الظرفية: أي وقت مجراها ومرساها، ويجوز أن يكونا مصدرين: أي: وقت إجرائها وإرسائها. وقرأ الأعمش، وحمزة، والكسائي، وحفص { مجراها } بفتح الميم، و{ مرساها } بضمها، وقرأ يحيى بن وثاب بفتحها فيهما. وقرأ مجاهد، وسليمان بن جندب، وعاصم الجحدري، وأبو رجاء العطاردي { مجريها ومرسيها } على أنهما وصفان لله، ويجوز أن يكونا في موضع رفع باضمار مبتدأ: أي هو مجريها ومرسيها { إِنَّ رَبّى لَغَفُورٌ } للذنوب { رَّحِيمٌ } بعباده، ومن رحمته إنجاء هذه الطائفة تفضلاً منه لبقاء هذا الجنس الحيواني، وعدم استئصاله بالغرق.

قوله: { وَهِىَ تَجْرِى بِهِمْ فِى مَوْجٍ كَٱلْجِبَالِ } هذه الجملة متصلة بجملة محذوفة دلّ عليها الأمر بالركوب، والتقدير: فركبوا مسمين، وهي تجرى بهم، والموج: جمع موجة، وهي: ما ارتفع عن جملة الماء الكثير عند اشتداد الريح، وشبهها بالجبال المرتفعة على الأرض. قوله: { وَنَادَىٰ نُوحٌ ٱبْنَهُ } هو: كنعان، قيل: وكان كافراً، واستبعد كون نوح ينادي من كان كافراً مع قوله: { { رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى ٱلأَرْضِ مِنَ ٱلْكَـٰفِرِينَ دَيَّاراً } [نوح: 26]، وأجيب بأنه كان منافقاً، فظن نوح أنه مؤمن. وقيل: حملته شفقة الأبوّة على ذلك. وقيل: إنه كان ابن امرأته، ولم يكن بابنه، ويؤيده ما روي أن علياً قرأ "ونادى نوح ابنها". وقيل: إنه كان لغير رشدة، وولد على فراش نوح. وردّ بأن قوله: { وَنَادَىٰ نُوحٌ ٱبْنَهُ }، وقوله: { إِنَّ ٱبُنِى مِنْ أَهْلِى } يدفع ذلك على ما فيه من عدم صيانة منصب النبوّة { وَكَانَ فِى مَعْزِلٍ } أي: في مكان عزل فيه نفسه عن قومه، وقرابته بحيث لم يبلغه قول نوح: اركبوا فيها، وقيل: في معزل من دين أبيه، وقيل: من السفينة. قيل: وكان هذا النداء قبل أن يستيقن الناس الغرق، بل كان في أوّل فور التنور.

قوله: { مَعْزِلٍ يٰبُنَىَّ ٱرْكَبَ مَّعَنَا } قرأ عاصم بفتح الياء، والباقون بكسرها، فأما الكسر فلجعله بدلاً من ياء الإضافة، لأن الأصل يا بنيّ، وأما الفتح فلقلب ياء الإضافة ألفاً لخفة الألف، ثم حذف الألف وبقيت الفتحة لتدلّ عليه. قال النحاس: وقراءة عاصم مشكلة. وقال أبو حاتم: أصله يا بنياه ثم تحذف، وقد جعل الزجاج للفتح وجهين، وللكسر وجهين. أما الفتح بالوجه الأوّل ما ذكرناه، والوجه الثاني: أن تحذف الألف لالتقاء الساكنين. وأما الكسر، فالوجه الأوّل ما ذكرناه، والثاني: أن تحذف لالتقاء الساكنين، كذا حكى عنه النحاس. وقرأ أبو عمرو، والكسائي، وحفص { ٱرْكَبَ مَّعَنَا } بادغام الباء في الميم لتقاربهما في المخرج. وقرأ الباقون بعدم الإدغام { وَلاَ تَكُن مَّعَ ٱلْكَـٰفِرِينَ } نهاه عن الكون مع الكافرين: أي خارج السفينة، ويمكن أن يراد بالكون معهم الكون على دينهم.

ثم حكى الله سبحانه ما أجاب به ابن نوح على أبيه، فقال: { قَالَ سَآوِى إِلَىٰ جَبَلٍ يَعْصِمُنِى مِنَ ٱلْمَاء } أي: يمنعني بارتفاعه من وصول الماء إليّ، فأجاب عنه نوح بقوله: { لاَ عَاصِمَ ٱلْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ } أي: لا مانع، فإنه يوم قد حقّ فيه العذاب وجفّ القلم بما هو كائن فيه، نفى جنس العاصم فيندرج تحته العاصم من الغرق في ذلك اليوم اندراجاً أوّلياً، وعبر عن الماء أو عن الغرق بأمر الله سبحانه تفخيماً لشأنه، وتهويلاً لأمره. والاستثناء قال الزجاج: هو منقطع: أي: لكن منرحمه الله فهو يعصمه، فيكون: { مَن رَّحِمَ } في موضع نصب، ويجوز أن يكون الاستثناء متصلاً على أن يكون عاصم بمعنى معصوم: أي: لا معصوم اليوم من أمر الله إلا منرحمه الله : مثل: { { مَّاء دَافِقٍ } [الطارق: 6] { عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ } [الحاقة: 21] ومنه قول الشاعر:

دع المكارم لا تنهض لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي

أي: المطعم المكسوّ، واختار هذا الوجه ابن جرير؛ وقيل: العاصم بمعنى ذي العصمة، كلابن وتامر، والتقدير: لا عاصم قط إلا مكان من رحم الله، وهو السفينة، وحينئذ فلا يرد ما يقال: إن معنى من رحم منرحمه الله ، ومنرحمه الله هو معصوم، فكيف يصحّ استثناؤه عن العاصم؟ لأن في كل وجه من هذه الوجوه دفعاً للإشكال. وقرىء "إلا من رحم" على البناء للمفعول { وَحَالَ بَيْنَهُمَا ٱلْمَوْجُ } أي: حال بين نوح وابنه فتعذر خلاصه من الغرق. وقيل: بين ابن نوح، وبين الجبل، والأوّل: أولى، لأن تفرّع { فَكَانَ مِنَ ٱلْمُغْرَقِينَ } عليه يدل على الأوّل لا على الثاني، لأن الجبل ليس بعاصم.

قوله: { وَقِيلَ يٰأَرْضُ ٱبْلَعِى مَاءكِ } يقال: بلع الماء يبلعه مثل منع يمنع، وبلع يبلع، مثل حمد يحمد لغتان حكاهما الكسائي والفراء: والبلع: الشرب، ومنه البالوعة، وهي: الموضع الذي يشرب الماء، والازدراد، يقال: بلع ما في فمه من الطعام إذا ازدرده، واستعير البلع الذي هو من فعل الحيوان للنشف دلالة على أن ذلك ليس كالنشف المعتاد الكائن على سبيل التدريج { وَيٰسَمَاء أَقْلِعِى } الإقلاع: الإمساك، يقال: أقلع المطر: إذا انقطع. والمعنى: أمر السماء بامساك الماء عن الإرسال، وقدّم نداء الأرض على السماء لكون ابتداء الطوفان منها { وَغِيضَ ٱلْمَاء } أي: نقص، يقال: غاض الماء وغضته أنا { وَقُضِىَ ٱلأَمْرُ } أي: أحكم وفرغ منه: يعني: أهلك الله قوم نوح على تمام وإحكام { وَٱسْتَوَتْ عَلَى ٱلْجُودِىّ } أي: استقرّت السفينة على الجبل المعروف بالجودي، وهو جبل بقرب الموصل؛ وقيل: إن الجودي: اسم لكل جبل، ومنه قول زيد بن عمرو بن نفيل:

سبحانه ثم سبحانا نعوذ به وقبلنا سبح الجوديّ والجمد

ويقال: إنه من جبال الجنة، فلذا استوت عليه { وَقِيلَ بُعْدًا لّلْقَوْمِ ٱلظَّـٰلِمِينَ } القائل: هو الله سبحانه، ليناسب صدر الآية. وقيل: هو نوح وأصحابه. والمعنى: وقيل هلاكاً للقوم الظالمين، وهو من الكلمات التي تختص بدعاء السوء ووصفهم بالظلم للإشعار بأنه علة الهلاك، وللإيماء إلى قوله: { وَلاَ تُخَـٰطِبْنِى فِى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ }. وقد أطبق علماء البلاغة على أن هذه الآية الشريفة بالغة من الفصاحة والبلاغة إلى محل يتقاصر عنه الوصف، وتضعف عن الإتيان بما يقاربه قدرة القادرين على فنون البلاغة، الثابتين الأقدام في علم البيان، الراسخين في علم اللغة، المطلعين على ما هو مدوّن من خطب مصاقع خطباء العرب، وأشعار بواقع شعرائهم، المرتاضين بدقائق علوم العربية وأسرارها. وقد تعرّض لبيان بعض ما اشتملت عليه من ذلك جماعة منهم، فأطالوا وأطابوا، رحمنا الله وإياهم برحمته الواسعة.

وقد أخرج ابن أبي حاتم، عن قتادة، في قوله: { فَعَلَىَّ إِجْرَامِى } قال عملي { وَأَنَاْ بَرِىء مّمَّا تُجْرَمُونَ } أي: مما تعملون. وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن قتادة، في قوله: { وَأُوحِىَ إِلَىٰ نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ ءامَنَ } وذلك حين دعا عليهم نوح قال: "لا تَذَكَّرَ عَلَى ٱلأَرْضِ مِنَ ٱلْكَـٰفِرِينَ دَيَّاراً " [نوح: 26]. وأخرج أحمد في الزهد، وابن المنذر، وأبو الشيخ، عن الحسن، قال: إن نوحاً لم يدع على قومه حتى نزلت الآية هذه، فانقطع عند ذلك رجاؤه منهم، فدعا عليهم. وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس، في قوله: { فَلاَ تَبْتَئِسْ } قال: فلا تحزن.

وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والبيهقي، عنه، في قوله: { وَٱصْنَعِ ٱلْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا } قال: بعين الله ووحيه. وأخرج ابن أبي حاتم، عنه، أيضاً قال: لم يعلم نوح كيف يصنع الفلك، فأوحى الله إليه أن يصنعها مثل جؤجؤ الطائر. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والحاكم، وابن مردويه، عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كان نوح مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم، حتى كان آخر زمانه غرس شجرة فعظمت وذهبت كل مذهب، ثم قطعها، ثم جعل يعملها سفينة، ويمرّون فيسألونه، فيقول: أعملها سفينة، فيسخرون منه، ويقولون: يعمل سفينة في البرّ، وكيف تجري؟ قال: سوف تعلمون، فلما فرغ منها وفار التنور، وكثر الماء في السكك خشيته أمّ الصبي عليه، وكانت تحبه حباً شديداً، فخرجت إلى الجبل حتى بلغت ثلثه، فلما بلغها الماء خرجت حتى استوت على الجبل، فلما بلغ الماء رقبته رفعته بين يديها حتى ذهب بها الماء، فلو رحم الله منهم أحداً لرحم أمّ الصبيّ" . وقد ضعفه الذهبي في مستدركه على مستدرك الحاكم. وقد روي في صفة السفينة وقدرها أحاديث، وآثار ليس في ذكرها هنا كثير فائدة.

وأخرج ابن المنذر، عن ابن عباس، في قوله: { مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ } قال: هو: الغرق { وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ } قال: هو الخلود في النار. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والحاكم وصححه، عنه، قال: كان بين دعوة نوح وبين هلاك قومه ثلثمائة سنة، وكان فار التنور بالهند، وطافت سفينة نوح بالبيت أسبوعاً. وأخرج ابن أبي حاتم، عنه أيضاً قال: التنور: العين التي بالجزيرة عين الوردة. وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن عليّ بن أبي طالب، قال: فار التنور من مسجد الكوفة من قبل أبواب كندة. وقد روي عنه نحو هذا من طرق. وأخرج سعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس قال: التنور: وجه الأرض، قيل له: إذا رأيت الماء على وجه الأرض، فاركب أنت ومن معك. والعرب تسمى وجه الأرض تنور الأرض. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن عليّ { وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ } قال: طلع الفجر، قيل له: إذا طلع الفجر فاركب أنت وأصحابك. وقد روي في تفسير التنور غير هذا، وقد قدّمنا الإشارة إلى ذلك. وروي في صفة القصة، وما حمله نوح في السفينة، وكيف كان الغرق، وكم بقيت السفينة على ظهر الماء روايات كثيرة، لا مدخل لها في تفسير كلام الله سبحانه.

وأخرج ابن جرير، عن مجاهد، في قوله: { بِسْمِ ٱللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا } قال حين يركبون ويجرون ويرسون. وأخرج ابن جرير، عن الضحاك قال: كان إذا أراد أن ترسي قال: بسم الله، فأرست، وإذا أراد أن تجري قال: بسم الله، فجرت. وأخرج أبو يعلى، والطبراني، وابن السني، وابن عديّ، وأبو الشيخ، وابن مردويه، عن الحسن بن عليّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمان لأمتي من الغرق إذا ركبوا الفلك أن يقولوا: بسم الله الملك الرحمن، بسم الله مجراها ومرساها، إن ربي لغفور رحيم، { وما قدروا الله حق قدره } إلى آخر الآية [الزمر: 67]" .وأخرجه ابن أبي حاتم، والطبراني، وابن مردويه، عن ابن عباس، عن النبيّ. وأخرجه أيضاً أبو الشيخ، عنه، مرفوعاً من طريق أخرى. وأخرج ابن أبي حاتم، عن قتادة، قال: كان اسم ابن نوح الذي غرق كنعان. وأخرج عبد الرزاق، وسعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس قال: هو ابنه غير أنه خالفه في النية والعمل.

وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن عكرمة، في قوله: { لاَ عَاصِمَ ٱلْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ إلا مَن رَّحِمَ } قال: لا ناج إلا أهل السفينة. وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن القاسم بن أبي برّة، في قوله: { وَحَالَ بَيْنَهُمَا ٱلْمَوْجُ } قال: بين ابن نوح والجبل. وأخرج ابن المنذر، وعن عكرمة في قوله: { يٰأَرْضُ ٱبْلَعِى } قال: هو بالحبشية. وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن وهب بن منبه، في { ابلعي } قال بالحبشية: أي ازدرديه. وأخرج أبو الشيخ، عن جعفر بن محمد، عن أبيه قال: معناه: اشربي، بلغة الهند. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس مثله. أقول: وثبوت لفظ البلع وما يشتق منه في لغة العرب: ظاهر مكشوف، فما لنا وللحبشة والهند.