التفاسير

< >
عرض

قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلْفَلَقِ
١
مِن شَرِّ مَا خَلَقَ
٢
وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ
٣
وَمِن شَرِّ ٱلنَّفَّاثَاتِ فِي ٱلْعُقَدِ
٤
وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ
٥
-الفلق

فتح القدير

{ ٱلْفَلَقِ } الصبح، يقال: هو أبين من فلق الصبح. وسمي فلقاً، لأنه يفلق عنه الليل. وهو فعل بمعنى مفعول. قال الزجاج: لأن الليل ينفلق عنه الصبح، ويكون بمعنى مفعول. يقال: هو أبين من فلق الصبح، ومن فرق الصبح، وهذا قول جمهور المفسرين، ومنه قول ذي الرّمة:

حتى إذا ما انجلى عن وجهه فلق هادئة في أخريات الليل منتصب

وقول الآخر:

يا ليلة لم أنمها بتّ مرتفقا أرعى النجوم لي أن نوّر الفلق

وقيل: هو سجن في جهنم. وقيل: هو اسم من أسماء جهنم. وقيل: شجرة في النار. وقيل: هو الجبال والصخور، لأنها تفلق بالمياه، أي: تشقق. وقيل: هو التفليق بين الجبال؛ لأنها تنشق من خوف الله. قال النحاس: يقال لكل ما اطمأنّ من الأرض فلق، ومنه قول زهير:

ما زلت أرمقهم حتى إذا هبطت أيدي الركاب بهم من راكس فلقا

والراكس: بطن الوادي، ومثله قول النابغة:

أتاني ودوني راكس فالضواجع

وقيل: هو الرحم تنفلق بالحيوان. وقيل: هو كل ما انفلق عن جميع ما خلق الله من الحيوان والصبح والحبّ والنوى، وكلّ شيء من نبات، وغيره قاله الحسن، والضحاك. قال القرطبي: هذا القول يشهد له الانشقاق، فإن الفلق الشقّ، فلقت الشيء فلقاً: شققته، والتفليق مثله، يقال فلقته، فانفلق وتفلق، فكلّ ما انفلق عن شيء من حيوان، وصبح، وحبّ، ونوى، وماء فهو فلق، قال الله سبحانه: { فَالِقُ ٱلإِصْبَاحِ } [الأنعام: 96] وقال: { فَالِقُ ٱلْحَبّ وَٱلنَّوَىٰ } [الأنعام: 95]. انتهى. والقول الأوّل أولى؛ لأن المعنى، وإن كان أعمّ منه وأوسع مما تضمنه لكنه المتبادر عند الإطلاق. وقد قيل في وجه تخصيص الفلق الإيماء إلى أن القادر على إزالة هذه الظلمات الشديدة عن كلّ هذا العالم يقدر أيضاً أن يدفع عن العائذ كل ما يخافه، ويخشاه. وقيل: طلوع الصبح كالمثال لمجيء الفرح؛ فكما أن الإنسان في الليل يكون منتظراً لطلوع الصباح. كذلك الخائف يكون مترقباً لطلوع صباح النجاح، وقيل: غير هذا مما هو مجرّد بيان مناسبة ليس فيها كثير فائدة تتعلق بالتفسير.

{ مِن شَرّ مَا خَلَقَ } متعلق بـ { أعوذ } أي: من شرّ كلّ ما خلقه سبحانه من جميع مخلوقاته، فيعمّ جميع الشرور. وقيل: هو إبليس وذرّيته. وقيل: جهنم، ولا وجه لهذا التخصيص، كما أنه لا وجه لتخصيص من خصّص هذا العموم بالمضارّ البدنية. وقد حرّف بعض المتعصبين هذه الآية مدافعة عن مذهبه، وتقويماً لباطله، فقرءوا بتنوين: "شرّ" على أن: «ما» نافية. والمعنى: من شرّ لم يخلقه. ومنهم عمرو بن عبيد، وعمرو بن عائذ. { وَمِن شَرّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ } الغاسق الليل. والغسق الظلمة. يقال غسق الليل يغسق إذا أظلم. قال الفراء: يقال غسق الليل، وأغسق إذا أظلم، ومنه قول قيس بن الرقيات:

إن هذا الليل قد غسقا واشتكيت الهمّ والأرقا

وقال الزجاج: قيل لليل غاسق؛ لأنه أبرد من النهار، والغاسق البارد، والغسق البرد، ولأن في الليل تخرج السباع من آجامها، والهوامّ من أماكنها، وينبعث أهل الشرّ على العبث والفساد، كذا قال، وهو: قول بارد، فإن أهل اللغة على خلافه، وكذا جمهور المفسرين ووقوبه: دخول ظلامه، ومنه قول الشاعر:

وقب العذاب عليهم فكأنهم لحقتهم نار السموم فأخمدوا

أي: دخل العذاب عليهم. ويقال وقبت الشمس: إذا غابت. وقيل: الغاسق الثريا. وذلك أنها إذا سقطت كثرت الأسقام والطواعين، وإذا طلعت ارتفع ذلك، وبه قال ابن زيد. وهذا محتاج إلى نقل عن العرب أنهم يصفون الثريا بالغسوق. وقال الزهري: هو الشمس إذا غربت، وكأنه لاحظ معنى الوقوب، ولم يلاحظ معنى الغسوق. وقيل: هو القمر إذا خسف. وقيل: إذا غاب. وبهذا قال قتادة، وغيره. واستدلوا بحديث أخرجه أحمد، والترمذي، وابن جرير، وابن المنذر، وأبو الشيخ في العظمة، والحاكم وصححه، وابن مردويه عن عائشة قالت: نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً إلى القمر لما طلع فقال: "يا عائشة استعيذي بالله من شرّ هذا، فإن هذا هو الغاسق إذا وقب" قال الترمذي: بعد إخراجه حسن صحيح، وهذا لا ينافي قول الجمهور؛ لأن القمر آية الليل، ولا يوجد له سلطان إلاّ فيه، وهكذا يقال في جواب من قال: إنه الثريا. قال ابن الأعرابي في تأويل هذا الحديث: وذلك أن أهل الريب يتحينون وجبة القمر. وقيل الغاسق: الحية إذا لدغت. وقيل الغاسق: كل هاجم يضرّ كائناً ما كان، من قولهم غسقت القرحة: إذا جرى صديدها. وقيل: الغاسق هو السائل، وقد عرّفناك أن الراجح في تفسير هذه الآية هو ما قاله أهل القول الأوّل، ووجه تخصيصه أن الشرّ فيه أكثر، والتحرز من الشرور فيه أصعب، ومنه قولهم: الليل أخفى للويل. { وَمِن شَرّ ٱلنَّفَّـٰثَـٰتِ فِى ٱلْعُقَدِ } النفاثات هنّ السواحر، أي: ومن شر النفوس النفاثات، أو النساء النفاثات، والنفث النفخ، كما يفعل ذلك من يرقي ويسحر. وقيل: مع ريق. وقيل: بدون ريق، والعقد جمع عقدة، وذلك أنهنّ كن ينفثن في عقد الخيوط حين يسحرن بها، ومنه قول عنترة:

فإن يبرأ فلم أنفث عليه وإن يعقد فحقّ له العقود

وقول متمم بن نويرة:

نفث في الخيط شبيه الرقى من خشية الجنة والحاسد

قال أبو عبيدة: النفاثات هيّ: بنات لبيد الأعصم اليهودي، سحرن النبيّ صلى الله عليه وسلم. قرأ الجمهور: { النفاثات } جمع نفاثة على المبالغة. وقرأ يعقوب، وعبد الرحمٰن بن ساباط، وعيسى بن عمر: (النافثات) جمع نافثة. وقرأ الحسن: (النفاثات) بضم النون. وقرأ أبو الربيع: (النفثات) بدون ألف. { وَمِن شَرّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ } الحسد: تمني زوال النعمة التي أنعم الله بها على المحسود. ومعنى { إذا حسد }: إذا أظهر ما في نفسه من الحسد، وعمل بمقتضاه، وحمله الحسد على إيقاع الشرّ بالمحسود. قال عمر بن عبد العزيز: لم أر ظالماً أشبه بالمظلوم من حاسد، وقد نظم الشاعر هذا المعنى فقال:

قل للحسود إذا تنفس طعنة يا ظالماً وكأنه مظلوم

ذكر الله سبحانه في هذه السورة إرشاد رسوله صلى الله عليه وسلم إلى الاستعاذة من شرّ كل مخلوقاته على العموم، ثم ذكر بعض الشرور على الخصوص مع اندراجه تحت العموم لزيادة شرّه، ومزيد ضرّه، وهو الغاسق، والنفاثات، والحاسد، فكأن هؤلاء لما فيهم من مزيد الشرّ حقيقون بإفراد كل واحد منهم بالذكر.

وقد أخرج ابن مردويه عن عمرو بن عبسة قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ: { قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ ٱلْفَلَقِ } فقال: " يا ابن عبسة أتدري ما الفلق؟ " قلت: الله ورسوله أعلم، قال: " بئر في جهنم" وأخرجه ابن أبي حاتم من قول عمرو بن عبسة غير مرفوع. وأخرج ابن مردويه عن عقبة بن عامر قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقرأ: { قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ ٱلْفَلَقِ } هل تدري ما الفلق؟ باب في النار إذا فتحت سعرت جهنم" وأخرج ابن مردويه، والديلمي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله عزّ وجلّ: { قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ ٱلْفَلَقِ } فقال: "هو سجن في جهنم يحبس فيه الجبارون والمتكبرون، وإن جهنم لتتعوّذ بالله منه" وأخرج ابن جرير عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "الفلق جبّ في جهنم"

وهذه الأحاديث لو كانت صحيحة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لكان المصير إليها واجباً، والقول بها متعيناً.

وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: الفلق سجن في جهنم. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال: الفلق الصبح. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس مثله. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه قال: الفلق الخلق. وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، وابن مردويه عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله: { وَمِن شَرّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ } وقال: النجم هو الغاسق، وهو الثريا. وأخرجه ابن جرير، وابن أبي حاتم من وجه آخر عنه غير مرفوع. وقد قدّمنا تأويل هذا، وتأويل ما ورد أن الغاسق القمر.

وأخرج أبو الشيخ عنه أيضاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا ارتفعت النجوم رفعت كل عاهة عن كل بلد" وهذا لو صح لم يكن فيه دليل على أن الغاسق هو النجم أو النجوم. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس: { وَمِن شَرّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ } قال: الليل إذا أقبل. وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس: { وَمِن شَرّ ٱلنَّفَّـٰثَـٰتِ فِى ٱلْعُقَدِ } قال: الساحرات. وأخرج ابن جرير عنه في الآية قال: هو ما خالط السحر من الرقي. وأخرج النسائي، وابن مردويه عن أبي هريرة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر، ومن سحر فقد أشرك، ومن تعلق شيئًا وكل إليه" وأخرج ابن سعد، وابن ماجه، والحاكم، وابن مردويه عن أبي هريرة قال: جاء النبيّ صلى الله عليه وسلم يعودني فقال: "ألا أرقيك برقية رقاني بها جبريل؟" فقلت: بلى بأبي أنت وأمي، قال: "بسم الله أرقيك، والله يشفيك من كل داء فيك مِن شَرّ ٱلنَّفَّـٰثَـٰتِ فِى ٱلْعُقَدِ، وَمِن شَرّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ " فرقى بها ثلاث مرّات. وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله: { وَمِن شَرّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ } قال: نفس ابن آدم وعينه.