التفاسير

< >
عرض

قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلنَّاسِ
١
مَلِكِ ٱلنَّاسِ
٢
إِلَـٰهِ ٱلنَّاسِ
٣
مِن شَرِّ ٱلْوَسْوَاسِ ٱلْخَنَّاسِ
٤
ٱلَّذِى يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ ٱلنَّاسِ
٥
مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ
٦
-الناس

فتح القدير

وقرأ الجمهور: { قُلْ أَعُوذُ } بالهمزة. وقرىء بحذفها، ونقل حركتها إلى اللام. وقرأ الجمهور بترك الإمالة في الناس، وقرأ الكسائي بالإمالة. ومعنى { ربّ الناس }: مالك أمرهم، ومصلح أحوالهم، وإنما قال { ربّ الناس } مع أنه ربّ جميع مخلوقاته للدلالة على شرفهم، ولكون الاستعاذة وقعت من شرّ ما يوسوس في صدورهم. وقوله: { مَلِكِ ٱلنَّاسِ } عطف بيان جيء به لبيان أن ربيته سبحانه ليست كربية سائر الملاك لما تحت أيديهم من مماليكهم، بل بطريق الملك الكامل، والسلطان القاهر. { إِلَـٰهِ ٱلنَّاسِ } هو أيضاً عطف بيان كالذي قبله لبيان أن ربوبيته، وملكه قد انضمّ إليهما المعبودية المؤسسة على الألوهية المقتضية للقدرة التامة على التصرف الكلي بالاتحاد والإعدام، وأيضاً الربّ قد يكون ملكاً، وقد لا يكون ملكاً، كما يقال ربّ الدار، وربّ المتاع، ومنه قوله: { { ٱتَّخَذُواْ أَحْبَـٰرَهُمْ وَرُهْبَـٰنَهُمْ أَرْبَاباً مّن دُونِ ٱللَّهِ } [التوبة: 31] فبين أنه ملك الناس. ثم الملك قد يكون إلٰهاً، وقد لا يكون، فبيّن أنه إلٰه؛ لأن اسم الإلٰه خاصّ به لا يشاركه فيه أحد، وأيضاً بدأ باسم الربّ، وهو اسم لمن قام بتدبيره، وإصلاحه من أوائل عمره إلى أن صار عاقلاً كاملاً، فحينئذ عرف بالدليل أنه عبد مملوك، فذكر أنه ملك الناس. ثم لما علم أن العبادة لازمة له واجبة عليه، وأنه عبد مخلوق، وأن خالقه إلٰه معبود بيّن سبحانه أنه إلٰه الناس، وكرّر لفظ الناس في الثلاثة المواضع؛ لأن عطف البيان يحتاج إلى مزية الإظهار؛ ولأن التكرير يقتضي مزيد شرف الناس.

{ مِن شَرّ ٱلْوَسْوَاسِ } قال الفرّاء: هو: بفتح الواو بمعنى الاسم، أي: الموسوس، وبكسرها المصدر، أي: الوسوسة كالزلزال بمعنى الزلزلة. وقيل: هو بالفتح اسم بمعنى الوسوسة، والوسوسة: هي حديث النفس، يقال: وسوست إليه نفسه وسوسة، أي: حدّثته حديثاً، وأصلها الصوت الخفيّ. ومنه قيل: لأصوات الحلي وسواس، ومنه قول الأعشى:

تسمع للحلى وسواساً إذا انصرفت

قال الزجاج: الوسواس هو الشيطان، أي: ذي الوسواس. ويقال إن الوسواس ابن لإبليس، وقد سبق تحقيق معنى الوسوسة في تفسير قوله: { فَوَسْوَسَ لَهُمَا ٱلشَّيْطَـٰنُ } [الأعراف: 20] ومعنى { ٱلْخَنَّاسِ }: كثير الخنس، وهو التأخر، يقال خنس يخنس: إذا تأخر، ومنه قول العلاء بن الحضرمي يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم:

فإذا دخسوا بالشرّ فاعف تكرّما وإن خنسوا عند الحديث فلا تسل

قال مجاهد: إذا ذكر الله خنس وانقبض. وإذا لم يذكر انبسط على القلب. ووصف بالخناس؛ لأنه كثير الاختفاء، ومنه قوله تعالى: { فَلاَ أُقْسِمُ بِٱلْخُنَّسِ } [التكوير: 15] يعني: النجوم لاختفائها بعد ظهورها، كما تقدّم. وقيل: الخناس اسم لابن إبليس، كما تقدّم في الوسواس. { ٱلَّذِى يُوَسْوِسُ فِى صُدُورِ ٱلنَّاسِ } الموصول يجوز أن يكون في محل جرّ نعتاً للوسواس، ويجوز أن يكون منصوباً على الذم، ويجوز أن يكون مرفوعاً على تقدير مبتدأ. وقد تقدّم معنى الوسوسة. قال قتادة: إن الشيطان له خرطوم كخرطوم الكلب في صدر الإنسان، فإذا غفل ابن آدم عن ذكر الله وسوس له، وإذا ذكر العبد ربه خنس. قال مقاتل: إن الشيطان في صورة خنزير يجري من ابن آدم مجرى الدم في عروقه سلطه الله على ذلك، ووسوسته هي الدعاء إلى طاعته بكلام خفيّ يصل إلى القلب من غير سماع صوت.

ثم بيّن سبحانه الذي يوسوس بأنه ضربان: جني، وإنسي، فقال: { مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ } أما شيطان الجنّ، فيوسوس في صدور الناس، وأما شيطان الإنس، فوسوسته في صدور الناس أنه يرى نفسه كالناصح المشفق، فيوقع في الصدر من كلامه الذي أخرجه مخرج النصيحة ما يوقع الشيطان فيه بوسوسته، كما قال سبحانه: { شَيَـٰطِينَ ٱلإِنْسِ وَٱلْجِنّ } [الأنعام: 112] ويجوز أن يكون متعلقاً بـ { يوسوس } أي: يوسوس في صدورهم من جهة الجنة، ومن جهة الناس، ويجوز أن يكون بياناً للناس. قال الرازي، وقال قوم: من الجنة والناس قسمان مندرجان تحت قوله: { فِى صُدُورِ ٱلنَّاسِ } لأن القدر المشترك بين الجنّ والإنس يسمى إنساناً، والإنسان أيضاً يسمى إنساناً، فيكون لفظ الإنسان واقعاً على الجنس، والنوع بالاشتراك. والدليل على أن لفظ الإنسان يندرج فيه لفظ الإنس والجنّ ما روي أنه جاء نفر من الجنّ. فقيل لهم: من أنتم؟ قالوا: ناس من الجنّ. وأيضاً قد سماهم الله رجالاً في قوله: { { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مّنَ ٱلإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مّنَ ٱلْجِنّ } [الجن: 6]. وقيل: يجوز أن يكون المراد أعوذ بربّ الناس من الوسواس الخنّاس الذي يوسوس في صدور الناس، ومن الجنة والناس، كأنه استعاذ ربّه من ذلك الشيطان الواحد، ثم استعاذ بربّه من جميع الجنة، والناس. وقيل: المراد بالناس الناسي، وسقطت الياء كسقوطها في قوله: { يَوْمَ يَدْعُو ٱلدَّاعِ } [القمر: 6] ثم بيّن بالجنة والناس؛ لأن كل فرد من أفراد الفريقين في الغالب مبتلى بالنسيان، وأحسن من هذا أن يكون قوله: { وَٱلنَّاسِ } معطوفاً على الوسواس، أي: من شرّ الوسواس، ومن شرّ الناس كأنه أمر أن يستعيذ من شرّ الجنّ والإنس. قال الحسن: أما شيطان الجنّ، فيوسوس في صدور الناس، وأما شيطان الإنس، فيأتي علانية. وقال قتادة: إن من الجنّ شياطين، وإن من الإنس شياطين، فنعوذ بالله من شياطين الجنّ والإنس. وقيل: إن إبليس يوسوس في صدور الجنّ، كما يوسوس في صدور الإنس، وواحد الجنة جنيّ كما أن واحد الإنس إنسيّ. والقول الأوّل هو أرجح هذه الأقوال، وإن كان وسوسة الإنس في صدور الناس لا تكون إلاّ بالمعنى الذي قدّمنا، ويكون هذا البيان تذكر الثقلين للإرشاد إلى أن من استعاذ بالله منهما ارتفعت عنه محن الدنيا والآخرة.

وقد أخرج ابن أبي داود عن ابن عباس في قوله: { ٱلْوَسْوَاسِ ٱلْخَنَّاسِ } قال: مثل الشيطان كمثل ابن عرس واضع فمه على فم القلب، فيوسوس إليه، فإن ذكر الله خنس، وإن سكت عاد إليه فهو الوسواس الخنّاس. وأخرج ابن أبي الدنيا في مكايد الشيطان، وأبو يعلى، وابن شاهين، والبيهقي في الشعب عن أنس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "إن الشيطان واضع خطمه على قلب ابن آدم، فإن ذكر الله خنس، وإن نسيه التقم قلبه، فذلك الوسواس الخنّاس" وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: { ٱلْوَسْوَاسِ ٱلْخَنَّاسِ } قال: الشيطان جاث على قلب ابن آدم، فإذا سها وغفل وسوس، وإذا ذكر الله خنس. وأخرج ابن أبي الدنيا، وابن جرير، وابن المنذر، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والضياء في المختارة، والبيهقي عنه قال: ما من مولود يولد إلاّ على قلبه الوسواس، فإذا ذكر الله خنس، وإذا غفل وسوس، فذلك قوله: { ٱلْوَسْوَاسِ ٱلْخَنَّاسِ }. وقد ورد في معنى هذا غيره، وظاهره أن مطلق ذكر الله يطرد الشيطان، وإن لم يكن على طريق الاستعاذة، ولذكر الله سبحانه فوائد جليلة حاصلها الفوز بخيري الدنيا والآخرة.