التفاسير

< >
عرض

وَٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ
٢٠
أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَآءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ
٢١
إِلٰهُكُمْ إِلٰهٌ وَاحِدٌ فَٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ
٢٢
لاَ جَرَمَ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُسْتَكْبِرِينَ
٢٣
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَّاذَآ أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ
٢٤
لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ ٱلَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ
٢٥
قَدْ مَكَرَ ٱلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى ٱللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِّنَ ٱلْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ ٱلسَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ ٱلْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ
٢٦
-النحل

فتح القدير

شرع سبحانه في تحقيق كون الأصنام التي أشار إليها بقوله: { كَمَن لاَّ يَخْلُقُ } عاجزة على أن يصدر منها خلق شيء فلا تستحق عبادة فقال: { وَٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ } أي: الآلهة الذين يدعوهم الكفار من دون الله سبحانه صفتهم هذه الصفات المذكورة، وهي أنهم { لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا } من المخلوقات أصلاً، لا كبيراً ولا صغيراً، ولا جليلاً ولا حقيراً.

{ وَهُمْ يُخْلَقُونَ } أي: وصفتهم أنهم يخلقون، فكيف يتمكن المخلوق من أن يخلق غيره؟ ففي هذه الآية زيادة بيان، لأنه أثبت لهم صفة النقصان بعد أن سلب عنهم صفة الكمال، بخلاف قوله: { أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ } فإنه اقتصر على مجرد سلب صفة الكمال. وقراءة الجمهور "والذين تدعون" بالمثناة الفوقية على الخطاب مطابقة لما قبله. وروى أبو بكر عن عاصم، وروى هبيرة عن حفص { يدعون } بالتحتية، وهي قراءة يعقوب.

ثم ذكر صفة أخرى من صفاتهم فقال: { أَمْوٰتٌ غَيْرُ أَحْيَاء } يعني: أن هذه الأصنام أجسادها ميتة، لا حياة بها أصلاً، فزيادة { غير أحياء } لبيان أنها ليست كبعض الأجساد التي تموت بعد ثبوت الحياة لها، بل لا حياة لهذه أصلاً، فكيف يعبدونها وهم أفضل منها؟ لأنهم أحياء { وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ } الضمير في { يشعرون } للآلهة، وفي يبعثون للكفار الذين يعبدون الأصنام، والمعنى: ما تشعر هذه الجمادات من الأصنام أيان يبعث عبدتهم من الكفار، ويكون هذا على طريقة التهكم بهم، لأن شعور الجماد مستحيل بما هو من الأمور الظاهرة فضلاً عن الأمور التي لا يعلمها إلاّ الله سبحانه، وقيل: يجوز أن يكون الضمير في { يبعثون } للآلهة، أي: وما تشعر هذه لأصنام أيان تبعث، ويؤيد ذلك ما روي أن الله يبعث الأصنام ويخلق لها أرواحاً معها شياطينها فيؤمر بالكل إلى النار، ويدل على هذا قوله: { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ } [الأنبياء: 98]. وقيل: قد تمّ الكلام عند قوله: { وَهُمْ يُخْلَقُونَ } ثم ابتدأ فوصف المشركين بأنهم أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون، فيكون الضميران على هذا للكفار، وعلى القول بأن الضميرين أو أحدهما للأصنام يكون التعبير عنها مع كونها لا تعقل بما هو للعقلاء جرياً على اعتقاد من يعبدها بأنها تعقل. وقرأ السلمي "إيان" بكسر الهمزة، وهما لغتان، وهو في محل نصب بالفعل الذي قبله.

{ إِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وٰحِدٌ } لما زيف سبحانه طريقة عبدة الأوثان، صرح بما هو الحق في نفس الأمر، وهو وحدانيته سبحانه، ثم ذكر ما لأجله أصرّ الكفار على شركهم فقال: { فَٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ } للوحدانية، لا يؤثر فيها وعظ، ولا ينجع فيها تذكير { وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ } عن قبول الحق، متعظمون عن الإذعان للصواب، مستمرون على الجحد { لاَ جَرَمَ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ } قال الخليل: { لا جرم } كلمة تحقيق، ولا تكون إلاّ جواباً، أي: حقاً أن الله يعلم ما يسرّون من أقوالهم وأفعالهم وما يعلنون من ذلك، وقد مرّ تحقيق الكلام في { لا جرم } { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المستكبرين } أي: لا يحبّ هؤلاء الذين يستكبرون عن توحيد الله والاستجابة لأنبيائه، والجملة تعليل لما تضمنه الكلام المتقدّم.

{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ } أي: وإذا قال لهؤلاء الكفار المنكرين المستكبرين قائل: ماذا أنزل ربكم؟ أي: أيّ شيء أنزل ربكم؟ أو ماذا الذي أنزل؟ قيل: القائل النضر بن الحارث والآية نزلت فيه؛ فيكون هذا القول منه على طريق التهكم؛ وقيل: القائل هو من يفد عليه؛ وقيل: القائل المسلمون، فأجاب المشركون المنكرون المستكبرون فقالوا { أَسَـٰطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ } بالرفع أي: ما تدّعون أيها المسلمون نزوله أساطير الأوّلين، أو أن المشركين أرادوا السخرية بالمسلمين فقالوا: المنزل عليكم أساطير الأوّلين. وعلى هذا فلا يرد ما قيل من أن هذا لا يصلح أن يكون جواباً من المشركين، وإلاّ لكان المعنى الذي أنزله ربنا أساطير الأوّلين والكفار لا يقرّون بالإنزال، ووجه عدم وروده هو ما ذكرناه؛ وقيل: هو كلام مستأنف، أي: ليس ما تدّعون إنزاله أيها المسلمون منزلاً بل هو أساطير الأوّلين؛ وقد جوّز على مقتضى علم النحو نصب "أساطير" وإن لم تقع القراءة به، ولا بدّ في النصب من التأويل الذي ذكرنا، أي: أنزل على دعواكم أساطير الأوّلين، أو يقولون ذلك من أنفسهم على طريق السخرية. والأساطير: الأباطيل والترّهات التي يتحدّث الناس بها عن القرون الأولى. وليس من كلام الله في شيء، ولا مما أنزله الله أصلاً في زعمهم.

{ لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً } أي قالوا: هذه المقالة لكي يحملوا أوزارهم كاملة. لم يكفر منها شيء لعدم إسلامهم الذي هو سبب لتكفير الذنوب. وقيل: إن اللام هي لام العاقبة، لأنهم لم يصفوا القرآن بكونه أساطير لأجل يحملون الأوزار، ولكن لما كان عاقبتهم ذلك حسن التعليل به كقوله: { { لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } [القصص: 8]. وقيل: هي لام الأمر { وَمِنْ أَوْزَارِ ٱلَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ } أي: ويحملون بعض أوزار الذين أضلوهم، لأن من سنّ سنّة سيئة، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها. وقيل: "من" للجنس، لا للتبعيض أي: يحملون كل أوزار الذين يضلونهم، ومحلّ { بِغَيْرِ عِلْمٍ } النصب على الحال من فاعل { يضلونهم } أي: يضلون الناس جاهلين غير عالمين بما يدعونهم إليه. ولا عارفين بما يلزمهم من الآثام. وقيل: إنه حال من المفعول أي: يضلون من لا علم له، ومثل هذه الآية: { { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ } [العنكبوت: 13]. وقد تقدّم في الأنعام الكلام على قوله: { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ } [الأنعام: 164] { أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ } أي: بئس شيئاً يزرونه ذلك.

ثم حكى سبحانه حال أضرابهم من المتقدّمين فقال: { قَدْ مَكَرَ ٱلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } ذهب أكثر المفسرين إلى أن المراد به نمروذ بن كنعان حيث بنى بناءً عظيماً ببابل، ورام الصعود إلى السماء ليقاتل أهلها، فأهبّ الله الريح، فخرّ ذلك البناء عليه وعلى قومه فهلكوا، والأولى أن الآية عامة في جميع المبطلين من المتقدّمين الذين يحاولون إلحاق الضرّ بالمحقين. ومعنى المكر هنا الكيد والتدبير الذي لا يطابق الحق، وفي هذا وعيد للكفار المعاصرين له صلى الله عليه وسلم بأن مكرهم سيعود عليهم كما عاد مكر من قبلهم على أنفسهم { فَأَتَى ٱللَّهُ بُنْيَـٰنَهُمْ } أي: أتى أمر الله، وهو الريح التي أخربت بنيانهم. قال المفسرون: أرسل الله ريحاً، فألقت رأس الصرح في البحر، وخرّ عليهم الباقي { مّنَ ٱلْقَوَاعِدِ } قال الزجاج: من الأساطين، والمعنى: أنه أتاها أمر الله من جهة قواعدها فزعزعها { فَخَرَّ عَلَيْهِمُ ٱلسَّقْفُ مِن فوقهم } قرأ ابن أبي هريرة، وابن محيصن "السقف" بضم السين والقاف جميعاً. وقرأ مجاهد بضم السين وسكون القاف، وقرأ الباقون { السقف } بفتح السين وسكون القاف، والمعنى: أنه سقط عليهم السقف، لأنه بعد سقوط قواعد البناء يسقط جميع ما هو معتمد عليها. قال ابن الأعرابي، وإنما قال { من فوقهم } ليعلمك أنهم كانوا حالين تحته، والعرب تقول خرّ علينا سقف، ووقع علينا حائط إذا كان يملكه وإن لم يكن وقع عليه، فجاء بقوله: { مّن فَوْقِهِمْ } ليخرج هذا الشك الذي في كلام العرب، فقال: { مّن فَوْقِهِمْ } أي: عليهم وقع، وكانوا تحته فهلكوا، وما أفلتوا. وقيل: إن المراد بالسقف: السماء، أي: أتاهم العذاب من السماء التي فوقهم. وقيل: إن هذه الآية تمثيل لهلاكهم؛ والمعنى: أهلكهم فكانوا بمنزلة من سقط بنيانه عليه.

وقد اختلف في هؤلاء الذين خرّ عليهم السقف، فقيل: هو نمروذ كما تقدّم، وقيل: إنه بختنصر وأصحابه، وقيل هم المُقسمون الذين تقدّم ذكرهم في سورة الحجر { وَأَتَـٰهُمُ ٱلْعَذَابُ } أي: الهلاك { مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ } به، بل من حيث أنهم في أمان.

ثم بين سبحانه أن عذابهم غير مقصور على عذاب الدنيا. فقال: { ثُمَّ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ يُخْزِيهِمْ } بإدخالهم النار، ويفضحهم بذلك ويهينهم، وهو معطوف على مقدّر، أي هذا عذابهم في الدنيا، { ثم يوم القيامة يخزيهموَيَقُولُ } لهم مع ذلك توبيخاً وتقريعاً { أَيْنَ شُرَكَائِىَ } كما تزعمون وتدّعون، قرأ ابن كثير من رواية البزي "شركاي" من دون همز، وقرأ الباقون بالهمز، ثم وصف هؤلاء الشركاء بقوله: { ٱلَّذِينَ كُنتُمْ تُشَـٰقُّونَ فِيهِمْ } قرأ نافع بكسر النون على الإضافة، وقرأ الباقون بفتحها، أي: تخاصمون الأنبياء والمؤمنين فيهم، وعلى قراءة نافع تخاصمونني فيهم وتعادونني، ادعوهم فليدفعوا عنكم هذا العذاب النازل بكم.

وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم من طريق عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: { لاَ جَرَمَ } يقول: بلى. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك { لاَ جَرَمَ } قال: يعني الحق. وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك قال: لا كذب. وأخرج مسلم، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه وغيرهم عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرّة من كبر، ولا يدخل النار من كان في قلبه مثقال ذرّة من إيمان" ، فقال رجل: يا رسول الله، الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسناً، فقال: "إن الله جميل يحبّ الجمال، الكبر بطر الحق وغمص الناس" . وفي ذمّ الكبر، ومدح التواضع أحاديث كثيرة، وكذلك في إخراج محبة حسن الثوب وحسن النعل، ونحو ذلك من الكبر أحاديث كثيرة. والحاصل أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بيّن ماهية الكبر أنه بطر الحق وغمص الناس، فهذا هو الكبر المذموم. وقد ساق صاحب الدرّ المنثور عند تفسيره لهذه الآية: أعني قوله سبحانه: { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُسْتَكْبِرِينَ } أحاديث كثيرة ليس هذا مقام إيرادها، بل المقام مقام ذكر ماله علاقة بتفسير الكتاب العزيز.

وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: { قَالُواْ أَسَـٰطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ } أن ناساً من مشركي العرب كانوا يقعدون بطريق من أتى نبيّ الله صلى الله عليه وسلم، فإذا مرّوا سألوهم فأخبروهم بما سمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنما هو أساطير الأوّلين. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: { لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ } الآية يقول يحملون مع ذنوبهم ذنوب الذين يضلونهم بغير علم. وذلك مثل قوله سبحانه: { { وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ } [العنكبوت: 13]. وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد نحوه، وزاد: ولا يخفف ذلك عمن أطاعهم من العذاب شيئاً.

وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: { قَدْ مَكَرَ ٱلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } قال: نمروذ بن كنعان حين بنى الصرح. وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير عن زيد بن أسلم أنه النمروذ أيضاً. وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر عن مجاهد نحوه. وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: { فَأَتَى ٱللَّهُ بُنْيَـٰنَهُمْ مّنَ ٱلْقَوَاعِدِ } قال: أتاها أمر الله من أصلها { فَخَرَّ عَلَيْهِمُ ٱلسَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ } والسقف: أعالي البيوت فائتكفت بهم بيوتهم، فأهلكم الله ودمرهم { وَأَتَـٰهُمُ ٱلْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ }. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم من طريق عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس { تُشَـٰقُّونَ فِيهِمْ } قال: تخالفوني.