التفاسير

< >
عرض

ثُمَّ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ ٱلَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ إِنَّ ٱلْخِزْيَ ٱلْيَوْمَ وَٱلْسُّوۤءَ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ
٢٧
ٱلَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ ٱلْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ ٱلسَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوۤءٍ بَلَىٰ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
٢٨
فَٱدْخُلُوۤاْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى ٱلْمُتَكَبِّرِينَ
٢٩
وَقِيلَ لِلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْراً لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هٰذِهِ ٱلْدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ ٱلآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ ٱلْمُتَّقِينَ
٣٠
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآؤونَ كَذَلِكَ يَجْزِي ٱللَّهُ ٱلْمُتَّقِينَ
٣١
ٱلَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ٱدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
٣٢
-النحل

فتح القدير

قوله: { قَالَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ } قيل: هم العلماء، قالوه لأممهم الذين كانوا يعظونهم، ولا يلتفتون إلى وعظهم، وكان هذا القول منهم على طريق الشماتة. وقيل: هم الأنبياء، وقيل: الملائكة، والظاهر: الأوّل، لأن ذكرهم بوصف العلم يفيد ذلك وإن كان الأنبياء والملائكة هم من أهل العلم، بل هم أعرق فيه لكن لهم وصف يذكرون به هو أشرف من هذا الوصف، وهو كونهم أنبياء أو كونهم ملائكة، ولا يقدح في هذا جواز الإطلاق، لأن المراد الاستدلال على الظهور فقط { إِنَّ ٱلْخِزْىَ ٱلْيَوْمَ } أي: الذلّ والهوان والفضيحة يوم القيامة { وَٱلْسُّوء } أي: العذاب { عَلَى ٱلْكَـٰفِرِينَ } مختص بهم.

{ ٱلَّذِينَ تَتَوَفَّـٰهُمُ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ } قد تقدّم تفسيره. والموصول في محل الجر على أنه نعت للكافرين، أو بدل منه، أو في محل نصب على الاختصاص، أو في محل رفع على تقدير مبتدأ، أي: هم الذين تتوفاهم. وانتصاب { ظالمي أنفسهم } على الحال { فَأَلْقَوُاْ ٱلسَّلَمَ } معطوف على { فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِىَ } وما بينهما اعتراض أي: أقرّوا بالربوبية، وانقادوا عند الموت، ومعناه الاستسلام قاله قطرب، وقيل: معناه المسالمة، أي: سالموا وتركوا المشاقة قاله الأخفش؛ وقيل: معناه الإسلام، أي: أقرّوا بالإسلام وتركوا ما كانوا فيه من الكفر، وجملة { مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوء } يجوز أن تكون تفسيراً للسلم على أن يكون المراد بالسلم الكلام الدال عليه، ويجوز أن يكون المراد بالسوء هنا الشرك، ويكون هذا القول منهم على وجه الجحود والكذب، ومن لم يجوّز الكذب على أهل القيامة حمله على أنهم أرادوا أنهم لم يعملوا سوءاً في اعتقادهم وعلى حسب ظنونهم، ومثله قولهم: { { وَٱللَّهِ رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [الأنعام: 23]فلما قالوا هذا، أجاب عليهم أهل العلم بقولهم: { بَلَىٰ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } أي: بلى كنتم تعملون السوء. إن الله عليم بالذي كنتم تعملونه، فمجازيكم عليه، ولا ينفعكم هذا الكذب شيئاً.

{ فَٱدْخُلُواْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ } أي: يقال لهم ذلك عند الموت. وقد تقدّم ذكر أبواب جهنم، وأن جهنم درجات بعضها فوق بعض، و { خَـٰلِدِينَ فِيهَا } حال مقدرة، لأن خلودهم مستقبل { فَلَبِئْسَ مَثْوَى ٱلْمُتَكَبّرِينَ } المخصوص بالذم محذوف، والتقدير، لبئس مثوى المتكبرين جهنم، والمراد بتكبرهم هنا: هو تكبرهم عن الإيمان والعبادة كما في قوله: { { إِنَّهُمْ كَانُواْ إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ ٱللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ } [الصافات: 35].

ثم أتبع أوصاف الأشقياء بأوصاف السعداء، فقال: { وَقِيلَ لِلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ } وهم المؤمنون { مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْرًا } أي: أنزل خيراً. قال الثعلبي: فإن قيل: لم ارتفع الجواب في قوله: { أساطير الأوّلين } وانتصب في قوله: { خيراً }؟ فالجواب أن المشركين لم يؤمنوا بالتنزيل، فكأنهم قالوا: الذي يقوله محمد هو أساطير الأوّلين، والمؤمنون آمنوا بالنزول. فقال: أنزل خيراً { لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِى هٰذِهِ ٱلْدُّنْيَا حَسَنَةٌ } قيل: هذا من كلام الله عزّ وجلّ، وقيل: هو حكاية لكلام الذين اتقوا، فيكون على هذا بدلاً من { خيراً }، وعلى الأوّل يكون كلاماً مستأنفاً مسوقاً للمدح للمتقين، والمعنى: للذين أحسنوا أعمالهم في الدنيا حسنة أي: مثوبة حسنة { وَلَدَارُ ٱلآخِرَةِ } أي: مثوبتها { خَيْرٌ } مما أوتوا في الدنيا { وَلَنِعْمَ دَارُ ٱلْمُتَّقِينَ } دار الآخرة، فحذف المخصوص بالمدح لدلالة ما قبله عليه.

وارتفاع { جَنَّـٰتِ عَدْنٍ } على أنها مبتدأ خبرها ما بعدها، أو خبر مبتدأ محذوف، وقيل: يجوز أن تكون هي المخصوص بالمدح { يَدْخُلُونَهَا } هو إما خبر المبتدأ، أو خبر بعد خبر، وعلى تقدير تنكير { عدن } تكون صفة لجنات، وكذلك { تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلأنْهَـٰرُ } وقيل: يجوز أن تكون الجملتان في محل نصب على الحال على تقدير أن لفظ { عدن } علم، وقد تقدّم معنى جري الأنهار من تحت الجنات { لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءونَ } أي: لهم في الجنات ما تقع عليه مشيئتهم صفوا عفوا يحصل لهم بمجرّد ذلك { كَذَلِكَ يَجْزِى ٱللَّهُ ٱلْمُتَّقِينَ } أي: مثل ذلك الجزاء يجزيهم، والمراد بالمتقين. كل من يتقي الشرك وما يوجب النار من المعاصي.

والموصول في قوله: { ٱلَّذِينَ تَتَوَفَّـٰهُمُ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ طَيّبِينَ } في محل نصب نعت للمتقين المذكور قبله، قرأ الأعمش وحمزة { تتوفاهم } في هذا الموضع، وفي الموضع الأوّل بالياء التحتية، وقرأ الباقون بالمثناة الفوقية. واختار القراءة الأولى أبو عبيد مستدلاً بما روي عن ابن مسعود أنه قال: إن قريشاً زعموا أن الملائكة إناث فذكروهم أنتم. و{ طيبين } فيه أقوال: طاهرين من الشرك، أو الصالحين، أو زاكية أفعالهم وأقوالهم، أو طيبي الأنفس ثقة بما يلقونه من ثواب الله، أو طيبة نفوسهم بالرجوع إلى الله، أو طيبين الوفاة، أي: هي عليهم سهلة، لا صعوبة فيها، وجملة { يَقُولُونَ سَلَـٰمٌ عَلَيْكُمُ } في محل نصب على الحال من الملائكة أي: قائلين سلام عليكم. ومعناه يحتمل وجهين: أحدهما أن يكون السلام إنذاراً لهم بالوفاة. الثاني أن يكون تبشيراً لهم بالجنة لأن السلام أمان. وقيل: إن الملائكة يقولون: السلام عليك وليّ الله إن الله يقرأ عليك السلام { ٱدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } أي: بسبب عملكم. قيل: يحتمل هذا وجهين: الأوّل أن يكون تبشيراً بدخول الجنة عند الموت. الثاني: أن يقولوا ذلك لهم في الآخرة. ولا ينافي هذا دخول الجنة بالتفضل كما في الحديث الصحيح: "سدّدوا وقاربوا، واعلموا أنه لن يدخل أحد الجنة بعمله" . قيل: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: "ولا أنا إلاّ أن يتغمدني الله برحمته" وقد قدّمنا البحث عن هذا.

وقد أخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: { وَقِيلَ لِلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ } قال: هؤلاء المؤمنون، يقال لهم: { مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ } فيقولون: { خَيْرًا } { لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ } أي: آمنوا بالله وكتبه، وأمروا بطاعته، وحثوا عباد الله على الخير، ودعوهم إليه. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: { ٱلَّذِينَ تَتَوَفَّـٰهُمُ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ طَيّبِينَ } قال: أحياء وأمواتاً قدّر الله لهم ذلك.