التفاسير

< >
عرض

تَٱللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَآ إِلَىٰ أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ ٱلْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
٦٣
وَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ ٱلَّذِي ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
٦٤
وَٱللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ ٱلْسَّمَآءِ مَآءً فَأَحْيَا بِهِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَآ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ
٦٥
وَإِنَّ لَكُمْ فِي ٱلأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً سَآئِغاً لِلشَّارِبِينَ
٦٦
وَمِن ثَمَرَاتِ ٱلنَّخِيلِ وَٱلأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ
٦٧
وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَىٰ ٱلنَّحْلِ أَنِ ٱتَّخِذِي مِنَ ٱلْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ ٱلشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ
٦٨
ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ فَٱسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ
٦٩
-النحل

فتح القدير

بيّن سبحانه أن مثل صنيع قريش قد وقع من سائر الأمم، فقال: مسلياً لرسول الله صلى الله عليه وسلم { تَٱللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَآ إِلَىٰ أُمَمٍ مّن قَبْلِكَ } أي: رسلاً { فَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَـِّنُ أَعْمَالَهُمْ } الخبيثة { فَهُوَ وَلِيُّهُمُ ٱلْيَوْمَ } يحتمل أن يكون ليوم عبارة عن زمان الدنيا، فيكون المعنى: فهو قرينهم في الدنيا، ويحتمل أن يكون اليوم عبارة عن يوم القيامة وما بعده، فيكون للحال الآتية، ويكون الوليّ بمعنى الناصر. والمراد: نفي الناصر عنهم على أبلغ الوجوه، لأن الشيطان لا يتصوّر منه النصرة أصلاً في الدار الآخرة، وإذا كان الناصر منحصراً فيه، لزم أن لا نصرة من غيره. ويحتمل أن يراد باليوم بعض زمان الدنيا، وهو على وجهين: الأوّل: أن يراد البعض الذي قد مضى، وهو الذي وقع فيه التزيين من الشيطان للأمم الماضية، فيكون على طريق الحكاية للحال الماضية. الثاني: أن يراد البعض الحاضر، وهو وقت نزول الآية. والمراد: تزيين الشيطان لكفار قريش، فيكون الضمير في { وليهم } لكفار قريش: أي فهو وليّ هؤلاء اليوم. أو على حذف مضاف، أي: فهو وليّ أمثال أولئك الأمم اليوم { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي: في الآخرة، وهو عذاب النار.

ثم ذكر سبحانه أنه ما هلك من هلك إلاّ بعد إقامة الحجة عليهم وإزاحة العلة منهم، فقال: { وَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبَ إِلاَّ لِتُبَيّنَ لَهُمُ ٱلَّذِى ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ } وهذا خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والمراد بالكتاب: القرآن، والاستثناء مفرّغ من أعمّ الأحوال أي: ما أنزلناه عليك لحال من الأحوال، ولا لعلة من العلل إلاّ لعلة التبيين لهم، أي: للناس الذي اختلفوا فيه من التوحيد، وأحوال البعث، وسائر الأحكام الشرعية، وانتصاب { هُدًى وَرَحْمَةً } على أنهما مفعول لهما معطوفان على محل لتبين. ولا حاجة إلى اللام، لأنهما فعلاً فاعل الفعل المعلل، بخلاف التبيين، فإنه فعل المخاطب، لا فعل المنزل { لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } بالله سبحانه، ويصدّقون ما جاءت به الرسل ونزلت به الكتب.

ثم عاد سبحانه إلى تقرير وجوده وتفرّده بالإلهية بذكر آياته العظام فقال: { وَٱللَّهُ أَنزَلَ مِنَ ٱلْسَّمَاء مَآء } أي: من السحاب، أو من جهة العلو كما مرّ، أي: نوعاً من أنواع الماء { فَأَحْيَا بِهِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } أي: أحياها بالنبات بعد أن كانت يابسة لا حياة بها { إِنَّ فِى ذَلِكَ } الإنزال والإحياء { لآيَةً } أي: علامة دالة على وحدانيته، وعلى بعثه للخلق ومجازاتهم { لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ } كلام الله ويفهمون ما يتضمنه من العبر، ويتفكرون في خلق السموات والأرض.

{ وَإِنَّ لَكُمْ فِى ٱلأَنْعَـٰمِ لَعِبْرَةً } الأنعام هي: الإبل والبقر والغنم ويدخل في الغنم المعز. والعبرة أصلها: تمثيل الشيء بالشيء ليعرف حقيقته بطريق المشاكلة. ومنه { فَٱعْتَبِرُواْ يٰأُوْلِى ٱلأَبْصَـٰرِ } [الحشر: 2]. وقال أبو بكر الوارق: العبرة في الأنعام: تسخيرها لأربابها وطاعتها لهم، والظاهر أن العبرة هي قوله: { نُّسْقِيكُمْ مّمَّا فِى بُطُونِهِ } فتكون الجملة مستأنفة لبيان العبرة. قرأ أهل المدينة، وابن عامر، وعاصم في رواية أبي بكر "نسقيكم" بفتح النون، من سقى يسقي. وقرأ الباقون وحفص عن عاصم بضم النون من أسقى يسقي، قيل: هما لغتان. قال لبيد:

سقى قومي بني مجد وأسقى نميراً والقبائل من هلال

وقرىء بالتاء الفوقية، على أن الضمير راجع إلى الأنعام. وقرىء بالتحتية على إرجاع الضمير إلى الله سبحانه، وهما ضعيفتان. وجميع القراء على القراءتين الأوليين، والفتح لغة قريش، والضم لغة حمير. وقيل: إن بين سقى وأسقى فرقاً، فإذا كان الشراب من يد الساقي إلى فم المسقى فيقال: سقيته، وإن كان بمجرّد عرضه عليه وتهيئته له، قيل: أسقاه. والضمير في قوله: { مّمَّا فِى بُطُونِهِ } راجع إلى الأنعام. قال سيبويه: العرب تخبر عن الأنعام بخبر الواحد. وقال الزجاج: لما كان لفظ الجمع يذكر ويؤنث، فيقال: هو الأنعام، وهي الأنعام جاز عود الضمير بالتذكير. وقال الكسائي: معناه: مما في بطون ما ذكرنا، فهو على هذا عائد إلى المذكور. قال الفراء: وهو صواب. وقال المبرد: هذا فاش في القرآن كثير، مثل قوله للشمس { { هَـٰذَا رَبّى } [الأنعام: 78] يعني: هذا الشيء الطالع. وكذلك: { { وَإِنّى مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ } [النمل: 35]، ثم قال: { فَلَمَّا جَاء سُلَيْمَانَ } [النمل: 36]، ولم يقل: جاءت؛ لأن المعنى جاء الشيء الذي ذكرنا. انتهى، ومن ذلك قوله: { { كَلاَّ إِنَّه تَذْكِرَةٌ * فَمَن شَاء ذَكَرَهُ } [المدثر: 54، 55] ومثله قول الشاعر:

مثل الفراخ نتفت حواصله

ولم يقل: حواصلها. وقول الآخر:

وطاب ألبان اللقاح وبرد

ولم يقل: وبردت. وحكي عن الكسائي أن المعنى مما في بطون بعضه وهي الإناث؛ لأن الذكور لا ألبان لها، وبه قال أبو عبيدة: وحكي عن الفراء أنه قال: النعم والأنعام واحد، يذكر ويؤنث، ولهذا تقول العرب: هذه نعم وارد، فرجع الضمير إلى لفظ النعم الذي هو بمعنى الأنعام. وهو كقول الزجاج. ورجحه ابن العربي فقال: إنما يرجع التذكير إلى معنى الجمع، والتأنيث إلى معنى الجماعة. فذكره هنا باعتبار لفظ الجمع، وأنثه في سورة المؤمنين باعتبار لفظ الجماعة { مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ } الفرث: الزبل الذي ينزل إلى الكرش، فإذا خرج منه لم يسم فرثاً. يقال: أفرثت الكرش إذا أخرجت ما فيها. والمعنى: أن الشيء الذي تأكله يكون منه ما في الكرش، وهو الفرث، ويكون منه الدم، فيكون أسفله فرثاً، وأعلاه دماً وأوسطه لبنا فيجري الدم في العروق، واللبن في الضروع، ويبقى الفرث كما هو { خَالِصًا } يعني: من حمرة الدم، وقذارة الفرث بعد أن جمعهما وعاء واحد { سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ } أي: لذيذاً هنيئاً، لا يغصّ به من شربه: يقال: ساغ الشراب، يسوغ سوغاً، أي: سهل مدخله في الحلق.

{ وَمِن ثَمَرٰتِ ٱلنَّخِيلِ وَٱلأَعْنَـٰبِ } قال ابن جرير: التقدير: ومن ثمرات النخيل والأعناب ما تتخذون، فحذف "ما" ودلّ على حذفه قوله: { منه }. وقيل: هو معطوف على الأنعام، والتقدير: وإن لكم من ثمرات النخيل والأعناب لعبرة. ويجوز أن يكون معطوفاً على { مما في بطونه } أي: نسقيكم مما في بطونه ومن ثمرات النخيل. ويجوز أن يتعلق بمحذوف دلّ عليه ما قبله، تقديره: ونسقيكم من ثمرات النخيل، ويكون على هذا { تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا } بياناً للإسقاء وكشفاً عن حقيقته، ويجوز أن يتعلق بـ { تتخذون }، تقديره: ومن ثمرات النخيل والأعناب ثمر تتخذون منه سكراً، ويكون تكرير الظرف، وهو قوله منه للتأكيد كقولك زيد في الدار فيها، وإنما ذكر الضمير في { منه } لأنه يعود إلى المذكور، أو إلى المضاف المحذوف، وهو العصير، كأنه قيل: ومن عصير ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه، والسكر: ما يسكر من الخمر، والرزق الحسن: جميع ما يؤكل من هاتين الشجرتين كالثمر والدبس والزبيب والخل. وكان نزول هذه الآية قبل تحريم الخمر. وقيل: إن السكر الخلّ بلغة الحبشة، والرزق الحسن الطعام من الشجرتين. وقيل: السكر: العصير الحلو الحلال، وسمي سكراً؛ لأنه قد يصير مسكراً إذا بقي، فإذا بلغ الإسكار حرم. والقول الأوّل أولى وعليه الجمهور، وقد صرّح أهل اللغة بأن السكر اسم للخمر، ولم يخالف في ذلك إلاّ أبو عبيدة، فإنه قال: السكر: الطعم، ومما يدل على ما قاله جمهور أهل اللغة قول الشاعر:

بئس الصحاب وبئس الشرب شربهم إذا جرى فيهم الهذي والسكر

ومما يدل على ما قاله أبو عبيدة ما أنشده:

جعلت عيب الأكرمين سكرا

أي: جعلت ذمهم طعماً، ورجح هذا ابن جرير فقال: إن السكر ما يطعم من الطعام ويحل شربه من ثمار النخيل والأعناب، وهو الرزق الحسن، فاللفظ مختلف. والمعنى واحد، مثل { { إِنَّمَا أَشْكُو بَثّى وَحُزْنِى إِلَى ٱللَّهِ } [يوسف: 86]. قال الزجاج: قول أبي عبيدة هذا لا يعرف، وأهل التفسير على خلافه. ولا حجة في البيت الذي أنشده لأن معناه عند غيره أنه يصف أنها تتخمر بعيوب الناس، وقد حمل السكر جماعة من الحنفية على ما لا يسكر من الأنبذة وعلى ما ذهب ثلثاه بالطبخ. قالوا: وإنما يمتنّ الله على عباده بما أحله لهم، لا بما حرّمه عليهم، وهذا مردود بالأحاديث الصحيحة المتواترة على فرض تأخره عن آية تحريم الخمر. ا هـ. { إِنَّ فِى ذٰلِكَ لآيَةً لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } أي لدلالة لمن يستعمل العقل، ويعمل بما يقتضيه عند النظر في الآيات التكوينية.

{ وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَىٰ ٱلنَّحْلِ } قد تقدّم الكلام في الوحي، وأنه يكون بمعنى الإلهام، وهو ما يخلقه في القلب ابتداء من غير سبب ظاهر، ومنه قوله سبحانه: { { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } [الشمس: 7 - 8]. ومن ذلك إلهام البهائم لفعل ما ينفعها وترك ما يضرها، وقرأ يحيـى بن وثاب "إلى النحل" بفتح الحاء. قال الزجاج: وسمي نحلاً، لأن الله سبحانه نحله العسل الذي يخرج منه. قال الجوهري: والنحل والنحلة: الدبر، يقع على الذكر والأنثى { أَنِ ٱتَّخِذِى مِنَ ٱلْجِبَالِ بُيُوتًا } أي: بأن اتخذي على أن «أن» هي المصدرية، ويجوز أن تكون تفسيرية؛ لأن في الإيحاء معنى القول، وأنث الضمير في اتخذي لكونه أحد الجائزين كما تقدّم، أو للحمل على المعنى، أو لكون النحل جمعاً. وأهل الحجاز يؤنثون النحل «ومن» في { من الجبال بيوتاً } وكذا في { مّنَ ٱلشَّجَرِ } وكذا في { مّمَّا يَعْرِشُونَ } للتبعيض، أي: مساكن توافقها وتليق بها في كوى الجبال، وتجويف الشجر، وفي العروش التي يعرشها بنو آدم من الأجناح والحيطان وغيرها. وأكثر ما يستعمل فيما يكون من الخشب، يقال: عرش يعرش بكسر الراء وضمها. وبالضم قرأ ابن عامر وشعبة، وقرأ الباقون بالكسر. وقرىء أيضاً "بيوتاً" بكسر الباء وضمها.

{ ثُمَّ كُلِى مِن كُلّ ٱلثَّمَرٰتِ } "من" للتبغيض، لأنها تأكل النور من الأشجار، فإذا أكلتها { فَٱسْلُكِى سُبُلَ رَبّكِ } أي: الطرق التي فهمك الله وعلمك، وأضافها إلى الربّ لأنه خالقها وملهم النحل أن تسلكها، أي: ادخلي طرق ربك لطلب الرزق في الجبال وخلال الشجر، أو اسلكي ما أكلت في سبل ربك، أي: في مسالكه التي يحيل فيها بقدرته النور عسلاً، أو إذا أكلت الثمار في الأمكنة البعيدة، فاسلكي إلى بيوتك راجعة سبل ربك، لا تضلين فيها، وا نتصاب { ذُلُلاً } على الحال من السبل، وهي جمع ذلول، أي: مذللة، غير متوعرة، واختار هذا: الزجاج وابن جرير. وقيل: حال من النحل، يعني: مطيعة للتسخير، وإخراج العسل من بطونها، واختار هذا ابن قتيبة.

وجملة { يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا } مستأنفة عدل به عن خطاب النحل، تعديداً للنعم، وتعجيباً لكل سامع، وتنبيهاً على الغير، وإرشاداً إلى الآيات العظيمة الحاصلة من هذا الحيوان الشبيه بالذباب. والمراد: بالشراب هو العسل، ومعنى { مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ } أن بعضه أبيض، وبعضه أحمر، وبعضه أزرق، وبعضه أصفر باختلاف ذوات النحل وألونها ومأكولاتها. وجمهور المفسرين على أن العسل يخرج من أفواه النحل. وقيل: من أسفلها. وقيل: لا يدري من أين يخرج منها، والضمير في قوله: { فِيهِ شِفَآء لِلنَّاسِ } راجع إلى الشراب الخارج من بطون النحل، وهو العسل، وإلى هذا ذهب الجمهور. وقال الفراء، وابن كيسان، وجماعة من السلف: إن الضمير راجع إلى القرآن، ويكون التقدير: فيما قصصنا عليكم من الآيات والبراهين شفاء للناس، ولا وجه للعدول عن الظاهر ومخالفة المرجع الواضح والسياق البين.

وقد اختلف أهل العلم هل هذا الشفاء الذي جعله الله في العسل عام لكل داء، أو خاص ببعض الأمراض؟ فقالت طائفة: هو على العموم، وقالت طائفة: إن ذلك خاص ببعض الأمراض. ويدل على هذا أن العسل نكرة في سياق الإثبات فلا يكون عاماً، وتنكيره إن أريد به التعظيم لا يدل إلاّ على أن فيه شفاءً عظيماً لمرض أو أمراض، لا لكل مرض، فإن تنكير التعظيم لا يفيد العموم، والظاهر المستفاد من التجربة ومن قوانين علم الطب، أنه إذا استعمل منفرداً، كان دواء لأمراض خاصة وإن خلط مع غيره كالمعاجين ونحوها، كان مع ما خلط به دواء لكثير من الأمراض. وبالجملة فهو من أعظم الأغذية وأنفع الأدوية، وقليلاً ما يجتمع هذان الأمران في غيره { إِنَّ فِى ذَلِكَ } المذكور من أمر النحل { لآيَةً لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } أي: يعملون أفكارهم عند النظر في صنع الله سبحانه وعجائب مخلوقاته. فإن أمر النحل من أعجبها وأغربها وأدقها وأحكمها.

وقد أخرج عبد الرزاق، والفريابي، وسعيد بن منصور، وأبو داود في ناسخه، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والنحاس، والحاكم وصححه، والبيهقي في سننه، وابن مردويه عن ابن عباس أنه سئل عن قوله: { تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا } قال: السكر ما حرم من ثمرتهما، والرزق الحسن ما حلّ. وأخرج الفريابي، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عنه قال: السكر: الحرام، والرزق الحسن: زبيبه وخله وعنبه ومنافعه. وأخرج أبو داود في ناسخه، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه أيضاً قال: السكر: النبيذ، والرزق الحسن: الزبيب. فنسختها هذه الآية { إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِرُ } [المائدة: 90]. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي عنه أيضاً في الآية قال: فحرّم الله بعد ذلك السكر منع تحريم الخمر لأنه منه، ثم قال: { وَرِزْقًا حَسَنًا } فهو الحلال من الخلّ والزبيب والنبيذ وأشباه ذلك، فأقرّه الله وجعله حلالاً للمسلمين. وأخرج الفريابي، وابن أبي شيبة، وابن أبي حاتم عن ابن عمر أنه سئل عن السكر، فقال: الخمر بعينها. وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر عن ابن مسعود قال: السكر: خمر.

وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس { وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَىٰ ٱلنَّحْلِ } قال: ألهمها. وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد في قوله { فَٱسْلُكِى سُبُلَ رَبّكِ ذُلُلاً } قال: طرقاً لا يتوعر عليها مكان سلكته. وأخرج عبد الرازق، وابن جرير، وابن المنذر وابن أبي حاتم، عن قتادة { ذللاً } قال: مطيعة. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي قال: ذليلة.

وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: { يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ } قال: العسل. وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن مجاهد في الآية قال: هو العسل فيه الشفاء، وفي القرآن. وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير عن ابن مسعود قال: إن العسل شفاء من كل داء. والقرآن شفاء لما في الصدور. وأخرج سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وابن مردويه عن ابن مسعود قال: عليكم بالشفاءين: العسل والقرآن. وأخرج ابن ماجه، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في الشعب، وابن السني، وأبو نعيم، والخطيب عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بالشفاءين: العسل والقرآن" .

وقد وردت أحاديث في كون العسل شفاء: منها ما أخرجه البخاري من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الشفاء في ثلاثة: في شرطة محجم، أو شربة عسل، أو كية بنار، وأنا أنهي أمتي عن الكيّ" . وأخرج البخاري، ومسلم وغيرهما من حديث أبي سعيد: «أن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله: إن أخي استطلق بطنه، فقال: "اسقه عسلاً" فسقاه عسلاً، ثم جاء فقال: سقيته عسلاً، فما زاده إلاّ استطلاقاً، قال "إذهب فاسقه عسلاً" فذهب فسقاه، ثم جاء فقال: ما زاده إلاّ استطلاقاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صدق الله وكذب بطن أخيك، اذهب فاسقه عسلاً" ، فذهب فسقاه عسلاً فبرأ.