التفاسير

< >
عرض

مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
١٠٦
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ
١٠٧
-البقرة

فتح القدير

النسخ في كلام العرب على وجهين: أحدهما: النقل، كنقل كتاب من آخر، وعلى هذا يكون القرآن كله منسوخاً، أعنى من اللوح المحفوظ، فلا مدخل لهذا المعنى في هذه الآية، ومنه: { إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [الجاثية: 29] أي نأمر بنسخه. الوجه الثاني: الإبطال، والإزالة. وهو المقصود هنا. وهذا الوجه الثاني ينقسم إلى قسمين عند أهل اللغة. أحدهما: إبطال الشيء، وزواله، وإقامة آخر مقامه، ومنه نسخت الشمس الظل: إذا أذهبته، وحلت محله، وهو: معنى قوله: { مَا نَنسَخْ مِنْ ءايَةٍ } وفي صحيح مسلم: "لم تكن نبوّة قط إلا تناسخت" أي: تحوّلت من حال إلى حال. والثاني إزالة الشيء دون أن يقوم مقامه آخر كقولهم: نسخت الريح الأثر، ومن هذا المعنى { { فَيَنسَخُ ٱللَّهُ مَا يُلْقِى ٱلشَّيْطَـٰنُ } [الحج: 52] أي: يزيله. وروي عن أبي عبيد أن هذا قد كان يقع في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت تنزل عليه السورة، فترفع، فلا تتلى، ولا تكتب. ومنه ما روي عن أُبيّ، وعائشة، أن سورة الأحزاب كانت تعدل سورة البقرة في الطول. قال ابن فارس: النسخ نسخ الكتاب، والنسخ أن تزيل أمراً كان من قبل يعمل به، ثم تنسخه بحادث غيره، كالآية تنزل بأمر، ثم تنسخ بأخرى، وكل شيء خلف شيئاً، فقد انتسخه، يقال نسخت الشمس الظل، والشيب الشباب، وتناسخ الورثة أن يموت ورثة بعد ورثة، وأصل الميراث قائم، وكذا تناسخ الأزمنة والقرون. وقال ابن جرير: { مَا نَنسَخْ } ما ننقل من حكم آية إلى غيره، فنبدله، ونغيره، وذلك أن نحوّل الحلال حراماً، والحرام حلالاً، والمباح محظوراً، والمحظور مباحاً، ولا يكون ذلك إلا في الأمر والنهي، والحظر والإطلاق والمنع، والإباحة، فأما الأخبار، فلا يكون فيها ناسخ ولا منسوخ، وأصل النسخ من نسخ الكتاب، وهو نقله من نسخة أخرى، فكذلك معنى نسخ الحكم إلى غيره إنما هو تحويله إلى غيره وسواء نسخ حكمها، أو خطها، إذ هي في كلتي حالتيها منسوخة. انتهى.

وقد جعل علماء الأصول مباحث النسخ من جملة مقاصد ذلك الفن، فلا نطول بذكره، بل نحيل من أراد الاستشفاء عليه. وقد اتفق أهل الإسلام على ثبوته سلفاً، وخلفاً، ولم يخالف في ذلك أحد إلا من لا يعتدَّ بخلافه ولا يؤبه لقوله. وقد اشتهر عن اليهود، أقمأهم الله إنكاره، وهم محجوجون بما في التوراة أن الله قال لنوح عليه السلام عند خروجه من السفينة: إني قد جعلت كل دابة مأكلاً لك، ولذريتك، وأطلقت ذلك لكم كنبات العشب ما خلا الدم، فلا تأكلوه، ثم وقد حرّم الله ذلك على موسى عليه السلام وعلى بني اسرائيل كثيراً من الحيوان، وثبت في التوراة أن آدم كان يزوّج الأخ من الأخت، وقد حرّم الله ذلك على موسى عليه السلام، وعلى غيره. وثبت فيها أن إبراهيم عليه السلام أمر بذبح ابنه، ثم قال الله له لا تذبحه، وبأن موسى أمر بني إسرائيل أن يقتلوا من عبد منهم العجل، ثم أمرهم برفع السيف عنهم، ونحو هذا كثير في التوراة الموجودة بأيديهم.

وقوله: { أَوْ نُنسِهَا } قرأ أبو عمرو، وابن كثير بفتح النون، والسين، والهمز، وبه قرأ عمر، وابن عباس، وعطاء، ومجاهد وأبيّ بن كعب، وعبيد بن عمير والنخعي، وابن محيصن، ومعنى هذه القراءة نؤخرها عن النسخ، من قولهم: نسأت هذا الأمر: إذا أخرته. قال ابن فارس: ويقولون: نسأ الله في أجلك، وأنسأ الله أجلك. وقد انتسأ القوم: إذا تأخروا، وتباعدوا، ونسأتهم أنا: أخرتهم. وقيل: معناه نؤخر نسخ لفظها؛ أي نتركه في أم الكتاب، فلا يكون. وقيل: نذهبها عنكم حتى لا تقرأ، ولا تذكر، وقرأ الباقون { نُنسِهَا } بضم النون من النسيان الذي بمعنى الترك، أي: نتركها، فلا نبدلها، ولا ننسخها، ومنه قوله تعالى: { نَسُواْ ٱللَّهَ فَنَسِيَهُمْ } [التوبة: 67] أي تركوا عبادته، فتركهم في العذاب. واختار هذه القراءة أبو عبيد، وأبو حاتم، وحكى الأزهري أن معناه: نأمر بتركها يقال: أنسيته الشيء، أي أمرته بتركه، ونسيته تركته، ومنه قول الشاعر:

إن عليّ عُقْبة أقْضِيها لستُ بناسِيها ولا مُنْسِيها

أي: ولا آمر بتركها. وقال الزجاج: إن القراءة بضم النون لا يتوجه فيها معنى الترك، لا يقال: أنسى بمعنى ترك؛ قال: وما روى عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس: { أَوْ نُنسِهَا } قال: نتركها لا نبدلها، فلا يصح، والذي عليه أكثر أهل اللغة، والنظر أن معنى: { أَوْ نُنسِهَا } نبح لكم تركها، من نسي إذا ترك، ثم تعديه. ومعنى: { نَأْتِ بِخَيْرٍ مّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } نأت بما هو: أنفع للناس منها في العاجل والآجل، أو في أحدهما، أو بما هو مماثل لها من غير زيادة، ومرجع ذلك إلى إعمال النظر في المنسوخ والناسخ، فقد يكون الناسخ أخفّ، فيكون أنفع لهم في العاجل، وقد يكون أثقل وثوابه أكثر، فيكون أنفع لهم في الآجل، وقد يستويان، فتحصل المماثلة.

وقوله: { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلّ شَيْء قَدِيرٌ } يفيد أن النسخ من مقدوراته، وأن إنكاره إنكار للقدرة الإلهية، وهكذا قوله: { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأرْضِ } أي: له التصرف في السموات والأرض بالإيجاد، والاختراع، ونفوذ الأمر في جميع مخلوقاته، فهو أعلم بمصالح عباده، وما فيه النفع لهم من أحكامه التي تعبدهم بها، وشرعها لهم. وقد يختلف ذلك باختلاف الأحوال، والأزمنة، والأشخاص، وهذا صنع من لا وليّ لهم غيره، ولا نصير سواه، فعليهم أن يتلقوه بالقبول، والامتثال، والتعظيم، والإجلال.

وقد أخرج ابن أبي حاتم، والحاكم في الكنى، وابن عدي، وابن عساكر، عن ابن عباس، قال: كان مما ينزل على النبيّ صلى الله عليه وسلم الوحي بالليل، وينساه بالنهار، فأنزل الله: { مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } وفي إسناده الحجاج الرَّقِّي ينظر فيه. وأخرج الطبراني، عن ابن عمر، قال: «قرأ رجلان من الأنصار سورة أقرأهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانا يقرآن بها، فقاما يقرآن ذات ليلة يصليان، فلم يقدرا منها على حرف، فأصبحا غاديين على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "إنها مما نسخ، أو نسي، فالهوا عنها" وفي إسناده سليمان بن أرقم، وهو ضعيف. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس، في قوله: "مَا نَنسَخْ مِنْ ءايَةٍ أَوْ ننسأها" يقول: ما نبدل من آية، أو نتركها لا نبدلها: { نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } يقول: خير لكم في المنفعة، وأرفق بكم. وأخرج ابن أبي حاتم، عنه أنه قال: ننسأها نؤخرها. وأخرج أبو داود في ناسخه، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن مسعود في قوله: { مَا نَنسَخْ مِنْ ءايَةٍ } قال: نثبت خطها ونبدل حكمها: "أَوْ ننساها" قال: نؤخرها. وأخرج عبد بن حميد، وأبو داود في ناسخه، وابن جرير، عن قتادة في قوله: { نَأْتِ بِخَيْرٍ مّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } يقول فيها تخفيف فيها رخصة فيها أمر، فيها نهي.

وأخرج أبو داود في ناسخه، وابن المنذر، وابن الأنباري في المصاحف، وأبو ذرّ الهروى في فضائله، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف؛ «أن رجلاً كانت معه سورة، فقام من الليل: فقام بها، فلم يقدر عليها، وقام آخر يقرأ بها، فلم يقدر عليها، وقام آخر، فلم يقدر عليها، فأصبحوا، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجتمعوا عنده، فأخبروه، فقال: "إنها نسخت البارحة" وقد روى نحوه عنه من وجه آخر. وقد ثبت في البخاري، وغيره عن أنس، أن الله أنزل في الذين قتلوا في بئر معونة: «أن بلغوا قومنا أن قد لقينا ربنا فرضى عنا، وأرضانا» ثم نسخ، وهكذا ثبت في مسلم، وغيره عن أبي موسى قال: كنا نقرأ سورة نشبهها في الطول، والشدّة ببراءة، فأنسيتُها، غير أني حفظت منها: «لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى وادياً ثالثاً، ولا يملأ جوفه إلا التراب» وكنا نقرأ سورة نشبهها بإحدى المسبحات، أوّلها { { سَبَّحَ للَّهِ مَا فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ } [الحديد: 1، الحشر: 1، الصف: 1] فأنسيناها، غير أني حفظت منها: «يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألوا عنها يوم القيامة» وقد روى مثل هذا من طريق جماعة من الصحابة، ومنه آية الرجم كما رواه عبد الرزاق، وأحمد، وابن حبان، عن عمر.