التفاسير

< >
عرض

أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَىٰ مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ ٱلْكُفْرَ بِٱلإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ
١٠٨
وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلْحَقُّ فَٱعْفُواْ وَٱصْفَحُواْ حَتَّىٰ يَأْتِيَ ٱللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
١٠٩
وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَٰوةَ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
١١٠
-البقرة

فتح القدير

{ أَمْ } هذه هي المنقطعة التي بمعنى بل، أي: بل تريدون، وفي هذا توبيخ، وتقريع، والكاف في قوله: { كَمَا سُئِلَ } في موضع نصب نعت لمصدر محذوف، أي: سؤالاً مثل ما سئل موسى من قبل، حيث سألوه أن يريهم الله جهرة، وسألوا محمداً صلى الله عليه وسلم: أن يأتي بالله، والملائكة قبيلاً. وقوله: { سَوَآء } هو الوسط من كل شيء قاله أبو عبيدة، ومنه قوله تعالى: { فِى سَوَاء ٱلْجَحِيمِ } [الصافات: 55] ومنه قول حسان يرثي النبيّ صلى الله عليه وسلم:

يَا وَيْحَ أصْحابِ النَّبيّ وَرهْطِه بَعْد المُغَيَّبِ فِي سَوَاءِ المُلْحَدِ

وقال الفراء: السواء: القصد، أي: ذهب عن قصد الطريق، وسمته أي: طريق طاعة الله. وقوله تعالى: { وَدَّ كَثِيرٌ مّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ } فيه إخبار المسلمين بحرص اليهود على فتنتهم، وردّهم عن الإسلام، والتشكيك عليهم في دينهم. وقوله: { لَوْ يَرُدُّونَكُم } في محل نصب على أنه مفعول للفعل المذكور. وقوله:{ مّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ } يحتمل أن يتعلق بقوله { ودّ } أي: ودّوا ذلك من عند أنفسهم، ويحتمل أن يتعلق بقوله: { حَسَدًا } أي: حسداً ناشئاً من عند أنفسهم، وهو: علة لقوله: { ودّ }. والعفو: ترك المؤاخذة بالذنب. والصفح: إزالة أثره من النفس، صفحت عن فلان: إذا أعرضت عن ذنبه، وقد ضربت عنه صفحاً: إذا أعرضت عنه، وفيه الترغيب في ذلك، والإرشاد إليه، وقد نسخ ذلك بالأمر بالقتال، قاله أبو عبيدة.

وقوله: { حَتَّىٰ يَأْتِىَ ٱللَّهُ بِأَمْرِهِ } هو غاية ما أمر الله سبحانه به من العفو والصفح أي: افعلوا ذلك إلى أن يأتي إليكم الأمر من الله سبحانه في شأنهم بما يختاره ويشاؤه، وما قد قضى به في سابق علمه، وهو: قتل من قتل منهم، وإجلاء من أجلى، وضرب الجزية على من ضربت عليه، وإسلام من أسلم. وقوله: { وأقيموا الصلاة } حثّ من الله سبحانه لهم على الاشتغال بما ينفعهم ويعود عليهم بالمصلحة، من إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة. وتقديم الخير الذي يثابون عليه حتى يمكن الله لهم، وينصرهم على المخالفين لهم.

وقد أخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس، أنه قال: قال رافع بن حُريَمْلة، ووهب بن زيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا محمد ائتنا بكتاب يَنزَّل علينا من السماء نقرؤه، أو فجِّر لنا أنهاراً نتَّبعك، ونصدقك، فأنزل الله في ذلك: { أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْـئَلُواْ رَسُولَكُمْ } الى قوله { سَوَاء ٱلسَّبِيلِ } وكان حيي بن أخطب [وأبو ياسر بن أخطب] من أشدّ اليهود حسداً للعرب، إذ خصهم الله برسوله، وكانا جاهديْن في ردّ الناس عن الإسلام ما استطاعا، فأنزل الله فيهما: { وَدَّ كَثِيرٌ مّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ } الآية. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن السدي؛ قال: سألت العرب محمداً صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بالله فيروه جهرةً، فنزلت هذه الآية. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي العالية قال: قال رجل: لو كانت كفَّاراتنا كفَّارات بني إسرائيل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أعطاكم الله خيرٌ، كانت بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم الخطيئة وجدها مكتوبة على بابه، وكفَّارتَها، فإن كفَّرها كانت له خزاياً في الدنيا، وإن لم يكفرها كانت له خزياً في الآخرة. وقد أعطاكم الله خيراً من ذلك قال { وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ } [النساء: 10] الآية، والصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة كفارات لما بينهن، فأنزل الله: { أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْـئَلُواْ رَسُولَكُمْ }" الآية. وأخرج ابن جرير، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد قال: سألت قريش محمداً صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهباً، فقال: " نعم، وهو: لكم كالمائدة لبني إسرائيل إن كفرتم" ، فأبوا ورجعوا، فأنزل الله: { أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْـئَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَىٰ مِن قَبْلُ } أن يريهم الله جهرة. وأخرج ابن جرير، عن أبي العالية في قوله: { وَمَن يَتَبَدَّلِ ٱلْكُفْرَ بِٱلإِيمَـٰنِ } قال: يتبدل الشدّة بالرخاء. وأخرج ابن أبـي حاتم عن السدي في قوله: { فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء ٱلسَّبِيلِ } قال: عدل عن السبيل.

وأخرج أبو داود، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الدلائل عن كعب بن مالك، قال: كان اليهود، والمشركون من أهل المدينة يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه أشدّ الأذى، فأمر الله بالصبر على ذلك، والعفو عنهم، وأنزل الله: { وَدَّ كَثِيرٌ مّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ } وفي الصحيحين، وغيرهما عن أسامة بن زيد، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه يعفون عن المشركين، وأهل الكتاب كما أمرهم الله، ويصبرون على الأذى، قال الله تعالى: { وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذىً كَثِيراً } [آل عمران: 186] وقال: { وَدَّ كَثِيرٌ مّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ لَوْ يَرُدُّونَكُم } الآية، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتأوّل في العفو ما أمره الله به حتى أذن الله فيهم بقتل، فقتل الله به من قتل من صناديد قريش. وأخرج ابن جرير، عن الربيع بن أنس في قوله: { مّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ } قال: من قبل أنفسهم: { مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلْحَقُّ } يقول: إن محمداً رسول الله. وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة، نحوه وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس في قوله: { فَٱعْفُواْ وَٱصْفَحُواْ } وقوله { وَأَعْرِضْ عَنِ ٱلْمُشْرِكِينَ } [الأنعام: 106] ونحو هذا في العفو عن المشركين قال: نسخ ذلك كله بقوله { { قَـٰتِلُواْ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ } [التوبة: 29] الآية، وقوله { { ٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } [التوبة: 5]. وأخرج ابن جرير، عن السدي نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير في قوله: { وَمَا تُقَدّمُواْ لأنْفُسِكُم مّنْ خَيْرٍ } يعنى من الأعمال من الخير في الدنيا. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن أبي العالية في قوله: { تَجِدُوهُ عِندَ ٱللَّهِ } قال: تجدوا ثوابه.