التفاسير

< >
عرض

وَقَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ وَلَداً سُبْحَـٰنَهُ بَل لَّهُ مَا فِي ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ
١١٦
بَدِيعُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَإِذَا قَضَىٰ أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ
١١٧
وَقَالَ ٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا ٱللَّهُ أَوْ تَأْتِينَآ آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا ٱلآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ
١١٨
-البقرة

فتح القدير

قوله: { وَقَالُواْ } هم اليهود والنصارى، وقيل اليهود: أي قالوا: { عُزَيْرٌ ٱبْنُ ٱللَّهِ } [التوبة: 30] وقيل النصارى: أي: { قَالُواْ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ ٱللَّهِ } [التوبة: 30] وقيل: هم كفار العرب: أي: قالوا الملائكة بنات الله. وقوله: { سُبْحَـٰنَهُ } قد تقدم تفسيره، والمراد هنا تبرؤ الله تعالى عما نسبوه إليه من اتخاذ الولد. وقوله: { بَل لَّهُ مَا فِي ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأرْضَ } ردّ على القائلين: بأنه اتخذ ولداً، أي بل هو مالك لما في السموات، والأرض، وهؤلاء القائلون داخلون تحت ملكه، والولد من جنسهم لا من جنسه، ولا يكون الولد إلا من جنس الوالد. والقانت: المطيع الخاضع، أي: كل من في السموات والأرض مطيعون له، خاضعون لعظمته، خاشعون لجلاله. والقنوت في أصل اللغة أصله القيام. قال الزجاج: فالخلق قانتون، أي: قائمون بالعبودية، إما إقراراً، وإما أن يكونوا على خلاف ذلك، فأثر الصنعة بين عليهم، وقيل أصله الطاعة، ومنه { { وَٱلْقَـٰنِتِينَ وَٱلْقَـٰنِتَـٰتِ } [الأحزاب: 35] وقيل: السكون، ومنه قوله: { وَقُومُواْ لِلَّهِ قَـٰنِتِينَ } [البقرة: 238] ولهذا قال زيد بن أرقم: كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت { وَقُومُواْ لِلَّهِ قَـٰنِتِينَ } فأمرنا بالسكوت، ونهينا عن الكلام. وقيل القنوت: الصلاة، ومنه قول الشاعر:

قَانِتاً لله يَتْلو كتُبْه وَعَلى عَمدٍ من النَّاسِ اعْتَزَل

والأولى أن القنوت لفظ مشترك بين معان كثيرة، قيل: هي ثلاثة عشر معنى، وهي مبنية، وقد نظمها بعض أهل العلم، كما أوضحت ذلك في شرحي علم المنتقى. وبديع: فعيل للمبالغة، وهو خبر مبتدأ، محذوف، أي: هو بديع سمواته، وأرضه، أبدع الشيء: أنشأه لا عن مثال، وكل من أنشأ ما لم يسبق إليه قيل له مبدع. وقوله: { وَإِذَا قَضَىٰ أَمْرًا } أي: أحكمه، وأتقنه. قال الأزهري: قضى في اللغة على وجوه مرجعها الى انقطاع الشيء، وتمامه، قيل: هو مشترك بين معان، يقال قضى بمعنى: خلق، ومنه: { فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَـٰوَاتٍ } [فصلت: 12] وبمعنى أعلم، ومنه: { وَقَضَيْنَا إِلَىٰ بَنِى إِسْرٰءيلَ فِى ٱلْكِتَـٰبِ } [الإسراء: 4] وبمعنى أمر، ومنه: { وَقَضَىٰ رَبُّكَ ألا لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إيّاه } [الإسراء: 23] وبمعنى ألزم، ومنه: قضى عليه القاضي، وبمعنى أوفاه، ومنه: { { فَلَمَّا قَضَىٰ مُوسَى ٱلأجَلَ } [القصص: 29] وبمعنى أراد ومنه: { { فَإِذَا قَضَىٰ أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فيَكُونُ } [غافر: 68]، والأمر واحد الأمور.

وقد ورد في القرآن على أربعة عشر معنى: الأوّل الدين، ومنه: { حَتَّىٰ جَاء ٱلْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ ٱللَّهِ } [التوبة: 48] الثاني: بمعنى القول، ومنه: { فَإِذَا جَاء أَمْرُنَا } [المؤمنون: 27] الثالث: العذاب، ومنه قوله: { لَمَّا قُضِىَ ٱلأمْرُ } [إبراهيم: 22] الرابع: عيسى، ومنه: { فَإِذَا قَضَىٰ أَمْراً } [مريم: 35] أي: أوجد عيسى عليه السلام. الخامس القتل، ومنه { فَإِذَا جَـاء أَمْرُ ٱللَّهِ } [غافر: 78] السادس: فتح مكة، ومنه: { { فَتَرَبَّصُواْ حَتَّىٰ يَأْتِىَ ٱللَّهُ بِأَمْرِهِ } [التوبة: 24]. السابع: قتل بني قريظة، وإجلاء النضير، ومنه: { فَٱعْفُواْ وَٱصْفَحُواْ حَتَّىٰ يَأْتِىَ ٱللَّهُ بِأَمْرِهِ } [البقرة: 109]، الثامن: القيامة، ومنه: { أَتَىٰ أَمْرُ ٱللَّهِ } [النحل: 1] التاسع: القضاء، ومنه: { يُدَبّرُ ٱلأمْرَ } [يونس: 3]، العاشر الوحي، ومنه: { يَتَنَزَّلُ ٱلأمْرُ بَيْنَهُنَّ } [الطلاق: 12] الحادي عشر: أمر الخلائق، ومنه: { { أَلاَ إِلَى ٱللَّهِ تَصِيرُ ٱلأمُورُ } [الشورى: 53] الثاني عشر: النصر، ومنه: { { هَل لَّنَا مِنَ ٱلأمْرِ مِن شَىْء } [البقرة: 154]. الثالث عشر: الذنب، ومنه: { فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا } [الطلاق: 9] الرابع عشر: الشأن، ومنه: { وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ } [هود: 97] هكذا أورد هذه المعاني بأطول من هذا بعض المفسرين، وليس تحت ذلك كثير فائدة، وإطلاقه على الأمور المختلفة لصدق اسم الأمر عليها. وقوله: { فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } الظاهر في هذا المعنى الحقيقي، وأنه يقول سبحانه هذا اللفظ، وليس في ذلك مانع، ولا جاء ما يوجب تأويله، ومنه قوله تعالى: { { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [يس: 82] وقال تعالى: { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْء إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [النحل: 40] وقال: { وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وٰحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِٱلْبَصَرِ } [القمر: 50] ومنه قول الشاعر:

إذا ما أراد الله أمراً فإنما يقول له كن قوله فيكون

وقد قيل: إن ذلك مجاز، وأنه لا قول، وإنما هو: قضاء يقضيه، فعبر عنه بالقول، ومنه قول الشاعر، وهو عمر بن حممة الدوسي:

فَأصْبَحْتُ مِثْل النَّسْرِ طَارَ فَرِاخُه إذَا رَامَ تَطْيَاراً يُقَالُ لَهُ قَعِ

وقال آخر:

قالت جناحاه لساقيه الحقا ونجيا لحكمكما أن يمزقا

والمراد بقوله: { وَقَالَ ٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } اليهود، وقيل النصارى، ورجّحه ابن جرير؛ لأنهم المذكورون في الآية؛ وقيل مشركو العرب، و "لَوْلاَ" حرف تحضيض، أي: هلا { يُكَلّمُنَا ٱللَّهُ } بنبوّة محمد، فنعلم أنه نبيّ، { أَوْ تَأْتِينَا } بذلك علامة على نبوّته. والمراد بقوله: { قَالَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِم } قيل: هم اليهود، والنصارى، في قول من جعل الذين لا يعلمون كفار العرب، أو الأمم السالفة، في قول من جعل الذين لا يعلمون اليهود، والنصارى، أو اليهود في قول من جعل الذين لا يعلمون النصارى { تَشَـٰبَهَتْ } أي: في التعنت، والاقتراح، وقال الفراء: { تَشَـٰبَهَتْ } في اتفاقهم على الكفر، { قَدْ بَيَّنَّا ٱلآيَـٰتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } أي: يعترفون بالحق، وينصفون في القول، ويذعنون لأوامر الله سبحانه لكونهم مصدقين له سبحانه مؤمنين بآياته متبعين لما شرعه لهم.

وقد أخرج البخاري من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله تعالى: كذبني ابن آدم وشتمني، فأما تكذيبه إياي، فيزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان، وأما شتمه إياي، فقوله لي ولد، فسبحاني أن اتخذ صاحبة، أو ولداً" . وأخرج نحوه أيضاً من حديث أبي هريرة، وفي الباب أحاديث. وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: { سُبْحَـٰنَه } قال: تنزيه الله نفسه عن السوء. وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، والبيهقي في الأسماء والصفات عن موسى بن طلحة عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه سئل عن التسبيح أن يقول الإنسان: سبحان الله، قال: "برأه الله من السوء" . وأخرجه الحاكم وصححه، وابن مردويه والبيهقي من طريق طلحة بن يحيـى بن طلحة عن أبيه عن جدّه طلحة بن عبيد الله، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تفسير سبحان الله، فقال: "تنزيه الله من كل سوء" . وأخرجه ابن مردويه، عنه من طريق أخرى مرفوعاً. وأخرج أحمد، وعبد بن حميد، وأبو يعلى، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن حبان، والطبراني في الأوسط، وأبو نعيم في الحلية، والضياء في المختارة، عن أبي سعيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كل حرف في القرآن يذكر فيه القنوت، فهو الطاعة" وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن ابن عباس في قوله: { كُلٌّ لَّهُ قَـٰنِتُونَ } قال مطيعون.

وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله: { بَدِيعُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأرْضَ } يقول: ابتدع خلقهما، ولم يشركه في خلقهما أحد. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس؛ قال: قال رافع بن حُرَيْملة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا محمد، إن كنت رسولاً من الله كما تقول، فقل لله، فليكلمنا حتى نسمع كلامه، فأنزل الله في ذلك: { وَقَالَ ٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } الآية. وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة؛ أنهم كفار العرب. وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن مجاهد قال: هم النصارى، والذين من قبلهم يهود.