التفاسير

< >
عرض

وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي ٱلْحَيَٰوةِ ٱلدُّنْيَا وَيُشْهِدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ ٱلْخِصَامِ
٢٠٤
وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي ٱلأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ ٱلْحَرْثَ وَٱلنَّسْلَ وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلفَسَادَ
٢٠٥
وَإِذَا قِيلَ لَهُ ٱتَّقِ ٱللَّهَ أَخَذَتْهُ ٱلْعِزَّةُ بِٱلإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ
٢٠٦
وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ٱبْتِغَآءَ مَرْضَاتِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ رَؤُوفٌ بِٱلْعِبَادِ
٢٠٧
-البقرة

فتح القدير

لما ذكر سبحانه طائفتي المسلمين بقوله: { فَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ } عقب ذلك بذكر طائفة المنافقين، وهم الذين يظهرون الإيمان، ويبطنون الكفر. وسبب النزول الأخنس بن شريق كما يأتي بيانه. قال ابن عطية: ما ثبت قط أن الأخنس أسلم، وقيل إنها نزلت في قوم من المنافقين، وقيل: إنها نزلت في كل من أضمر كفرّاً، أو نفاقاً، أو كذباً، وأظهر بلسانه خلافه. ومعنى قوله: { يُعْجِبُكَ } واضح. ومعنى قوله: { وَيُشْهِدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا فِى قَلْبِهِ } أنه يحلف على ذلك فيقول: يشهد الله على ما في قلبي من محبتك، أو من الإسلام، أو يقول: الله يعلم أني أقول حقاً، وأني صادق في قولي لك. وقرأ ابن محيصن: "وَيُشْهِدُ ٱللَّهَ" بفتح حرف المضارعة، ورفع الإسم الشريف على أنه فاعل، والمعنى: ويعلم الله منه خلاف ما قال، ومثله قوله تعالى: { { وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ ٱلْمُنَـٰفِقِينَ لَكَـٰذِبُونَ } [المنافقون: 1] وقراءة الجماعة أبلغ في الذمّ. وقرأ ابن عباس: { والله يشهد على ما في قلبه } وقرأ أبيّ، وابن مسعود: «ويستشهد الله على ما في قلبه». وقوله: { في الحياة الدنيا } متعلق بالقول، أو بـ { يعجبك }، فعلى الأوّل القول صادر في الحياة، وعلى الثاني الإعجاب صادر فيها. والألدّ: الشديد الخصومة. يقال رجل ألدّ، وامرأة لداء، ولددته ألدّه: إذا جادلته، فغلبته، ومنه قول الشاعر:

وألدّ ذي جَنَفٍ عليَّ كَأنَّما نَغْلِى عَداوةٌ صدره في مْرجَل

والخصام مصدر خاصم. قاله الخليل، وقيل: جمع خصم، قاله الزجاج ككلب، وكلاب، وصعب، وصعاب، وضخم، وضخام، والمعنى: أنه أشدّ المخاصمين خصومة، لكثرة جداله، وقوّة مراجعته، وإضافة الألدّ إلى الخصام بمعنى: في، أي: ألدّ في الخصام، أو جعل الخصام ألدّ على المبالغة.

وقوله: { وَإِذَا تَوَلَّىٰ } أي: أدبر، وذهب عنك يا محمد. وقيل: إنه بمعنى ضلّ، وغضب، وقيل: إنه بمعنى الولاية: أي: إذا كان والياً فعل ما يفعله ولاة السوء من الفساد في الأرض. والسعي المذكور يحتمل أن يكون المراد به: السعي بالقدمين إلى ما هو فساد في الأرض، كقطع الطريق، وحرب المسلمين، ويحتمل أن يكون المراد به العمل في الفساد، وإن لم يكن فيه سعي بالقدمين، كالتدبير على المسلمين بما يضرّهم، وأعمال الحيل عليهم، وكل عمل يعمله الإنسان بجوارحه، أو حواسه يقال له سعي، وهذا هو الظاهر من هذه الآية.

وقوله: { وَيُهْلِكَ } عطف على قوله: { لِيُفْسِدَ } وفي قراءة أبيّ: «وليهلك». وقرأه قتادة بالرفع. وروى عن ابن كثير: "وَيُهْلِكَ" بفتح الياء وضم الكاف، ورفع الحرث، والنسل، وهي قراءة الحسن، وابن محيصن. والمراد بالحرث: الزرع والنسل: الأولاد، وقيل الحرث: النساء. قال الزجاج: وذلك، لأن النفاق يؤدي إلى تفريق الكلمة، ووقوع القتال، وفيه هلاك الخلق، وقيل معناه: أن الظالم يفسد في الأرض، فيمسك الله المطر، فيهلك الحرث، والنسل. وأصل الحرث في اللغة: الشق، ومنه المحراث لما يشق به الأرض، والحرث: كسب المال، وجمعه. وأصل النسل في اللغة: الخروج، والسقوط، ومنه نسل الشعر، ومنه أيضاً: { إِلَىٰ رَبّهِمْ يَنسِلُونَ } [يس: 51] { وهم من كل حدب ينسلون } [الأنبياء: 96]، ويقال لما خرج من كل أنثى نسل، لخروجه منها. وقوله: { وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْفَسَادَ } يشمل كل نوع من أنواعه من غير فرق بين ما فيه فساد الدين، وما فيه فساد الدنيا. والعزة: القوّة والغلبة، من عَزَّه يعزّه: إذا غلبه، ومنه: { { وَعَزَّنِى فِى ٱلْخِطَابِ } [ص: 23] وقيل: العزة هنا: الحمية، ومنه قول الشاعر:

أخذَته عزّة من جهْله فَتولىَّ مُغْضَباً فعل الضَّجِر

وقيل: العزة هنا: المنعة وشدّة النفس. ومعنى: { أَخَذَتْهُ ٱلْعِزَّةُ بِٱلإثْمِ } حملته العزة على الإثم، من قولك أخذته بكذا: إذا حملته عليه، وألزمته إياه. وقيل: أخذته العزة بما يؤثمه، أي: ارتكب الكفر للعزة، ومنه: { { بَلِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِى عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ } [ص: 2] وقيل: الباء في قوله: { بِٱلإثْمِ } بمعنى اللام، أي: أخذته العزّة، والحمية عن قبول الوعظ للإثم الذي في قلبه، وهو: النفاق، وقيل: الباء بمعنى: مع، أي: أخذته العزّة مع الإثم.

وقوله: { فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ } أي: كافية معاقبة، وجزاءً، كما تقول للرجل: كفاك ما حلّ بك، وأنت تستعظم عليه ما حلّ به. والمهاد جمع المهد، وهو الموضع المهيأ للنوم، ومنه مهد الصبي، وسميت جهنم مهاداً؛ لأنها مستقرّ الكفار. وقيل المعنى: أنها بدل لهم من المهاد كقوله: { { فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [آل عمران: 21] وقول الشاعر:

تحية بينهم ضرب وجيع

ويشرى بمعنى يبيع، أي: يبيع نفسه في مرضاة الله كالجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ومثله قوله تعالى: { { وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ } [يوسف: 20] وأصله الاستبدال ومنه قوله تعالى: { إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوٰلَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ ٱلّجَنَّةَ } [التوبة: 111]، ومنه قول الشاعر:

وَشَرْيتُ برداً لَيْتَنِي مِنْ بعد بُرْدٍ كُنْتُ هَامَه

ومنه قول الآخر:

يُعْطي بها ثمناً فَيمنعُها وَيَقُولُ صاحبه ألا تَشْرِي

والمرضاة: الرضا، تقول: رضي يرضى، رضا ومرضاة. ووجه ذكر الرأفة هنا أنه أوجب عليهم ما أوجبه ليجازيهم، ويثيبهم عليه، فكان ذلك رأفة بهم، ولطفاً لهم.

وقد أخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال: لما أصيبت السرية التي فيها عاصم، ومرثد، قال رجال من المنافقين: يا ويح هؤلاء المقتولين الذين هلكوا هكذا، لا هم قعدوا في أهلهم، ولا هم أدّوا رسالة صاحبهم؟ فأنزل الله: { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا } أي: ما يظهر من الإسلام بلسانه: { وَيُشْهِدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا فِى قَلْبِهِ } أنه مخالف لما يقوله بلسانه: { وَهُوَ أَلَدُّ ٱلْخِصَامِ } أي: ذو جدال إذا كلمك وراجعك: { وَإِذَا تَوَلَّىٰ } خرج من عندك: { سَعَىٰ فِى ٱلأرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ ٱلْحَرْثَ وَٱلنَّسْلَ وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْفَسَادَ } أي: لا يحبّ عمله، ولا يرضى به: { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشْرِى نَفْسَهُ } الذين يشرون أنفسهم من الله بالجهاد في سبيله، والقيام بحقه، حتى هلكوا على ذلك. يعني: هذه السرية.

وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن السدي في قوله: { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قوله } الآية، قال: نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي حليف بني زهرة، أقبل إلى النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وقال جئت أريد الإسلام، ويعلم الله أني لصادق، فأعجب النبي صلى الله عليه وسلم ذلك منه، فذلك قوله: { وَيُشْهِدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا فِى قَلْبِهِ }. ثم خرج من عند النبي صلى الله عليه وسلم، فمرّ بزرع لقوم من المسلمين، وحمر، فأحرق الزرع، وعقر الحمر، فأنزل الله: { وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِى ٱلأرْضِ } الآية. وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: { وَهُوَ أَلَدُّ ٱلْخِصَامِ } قال هو: شديد الخصومة. وأخرج عبد بن حميد، عن مجاهد في قوله: { وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِى ٱلأرْضِ } قال عمل في الأرض: { وَيُهْلِكَ ٱلْحَرْثَ } قال: نبات الأرض: { وَٱلنَّسْلَ } نسل كل شيء من الحيوان الناس، والدواب.

وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن مجاهد أيضاً أنه سئل، عن قوله: { وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِى ٱلأرْضِ } قال: يلي في الأرض، فيعمل فيها بالعدوان، والظلم، فيحبس الله بذلك القطر من السماء، فتهلك بحبس القطر الحرث، والنسل، { والله لا يحبّ الفساد }. ثم قرأ مجاهد: { ظَهَرَ ٱلْفَسَادُ فِى ٱلْبَرّ وَٱلْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى ٱلنَّاسِ } الآية [الروم: 41]. وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس أنه سئل عن قوله: { وَيُهْلِكَ ٱلْحَرْثَ وَٱلنَّسْلَ } قال: الحرث: الزرع، والنسل: نسل كل دابة. وأخرج ابن المنذر، والطبراني والبيهقي في الشعب، عن ابن مسعود؛ قال: «إن من أكبر الذنوب عند الله أن يقول الرجل لأخيه: اتق الله، فيقول عليك بنفسك أنت تأمرني». وأخرج ابن المنذر، والبيهقي في الشعب، عن سفيان قال: قال رجل لمالك بن مغْوَل: اتق الله، فسقط، فوضع خدّه على الأرض تواضعاً لله.

وأخرج ابن أبي حاتم، وابن المنذر، عن ابن عباس في قوله: { وَلَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ } قال: بئس المنزل. وأخرجا عن مجاهد قال: بئس ما شهدوا لأنفسهم. وأخرج ابن مردويه، عن صهيب قال: لما أردت الهجرة من مكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم قالت لي قريش: يا صهيب قدمت إلينا، ولا مال لك، وتخرج أنت، ومالك، والله لا يكون ذلك أبداً، فقلت لهم: أرأيتم إن دفعت إليكم مالي تخلون عني؟ قالوا: نعم، فدفعت إليهم مالي، فخلوا عني، فخرجت حتى قدمت المدينة، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ربح البيع صهيب مرتين" . وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو نعيم في الحلية، وابن عساكر، عن سعيد بن المسيب، نحوه. وأخرج الطبراني، والحاكم، والبيهقي في الدلائل، عن صهيب، نحوه. وأخرج ابن المنذر، والحاكم وصححه، عن أنس قال: نزلت في خروج صهيب إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرج ابن جرير، عن قتادة قال: هم المهاجرون والأنصار.