التفاسير

< >
عرض

أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلْمَلإِ مِن بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَىۤ إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ٱبْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ ٱلْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِٱلظَّالِمِينَ
٢٤٦
وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوۤاْ أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ ٱلْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِٱلْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ ٱلْمَالِ قَالَ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي ٱلْعِلْمِ وَٱلْجِسْمِ وَٱللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ
٢٤٧
وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ ٱلتَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَىٰ وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ
٢٤٨
فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِٱلْجُنُودِ قَالَ إِنَّ ٱللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّيۤ إِلاَّ مَنِ ٱغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا ٱلْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُواْ ٱللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّابِرِينَ
٢٤٩
وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَٱنْصُرْنَا عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْكَافِرِينَ
٢٥٠
فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ ٱللَّهُ ٱلْمُلْكَ وَٱلْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَآءُ وَلَوْلاَ دَفْعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ ٱلأَرْضُ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلْعَالَمِينَ
٢٥١
تِلْكَ آيَاتُ ٱللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِٱلْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ
٢٥٢
-البقرة

فتح القدير

قوله: { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلْمَلإِ } الكلام فيه كالكلام في قوله: { { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَـٰرِهِمْ } [البقرة: 243] وقد قدمناه. والملأ: الأشراف من الناس، كأنهم ملئوا شرفاً. وقال الزجاج: سموا بذلك؛ لأنهم مَلِئون بما يحتاج إليه منهم، وهو: اسم جمع كالقوم، والرهط. ذكر الله سبحانه في التحريض على القتال قصة أخرى جرت في بني إسرائيل بعد القصة المتقدمة، وقوله: { مِن بَعْدِ مُوسَىٰ } "من" ابتدائية، وعاملها مقدر، أي: كائنين من بعد موسى، أي: بعد وفاته. وقوله: { لِنَبِىّ لَّهُمُ } قيل: هو شمويل بن يار ابن علقمة، ويعرف بابن العجوز، ويقال فيه: شمعون، وهو: من ولد يعقوب، وقيل: من نسل هارون، وقيل: هو يوشع بن نون، وهذا ضعيف جداً؛ لأن يوشع هو فتى موسى، ولم يوجد داود، إلا بعد ذلك بدهر طويل. وقيل: اسمه إسماعيل. وقوله: { ٱبْعَثْ لَنَا مَلِكًا } أي: أميراً نرجع إليه، ونعمل على رأيه. وقوله: { نُّقَـٰتِلْ } بالنون، والجزم على جواب الأمر، وبه قرأ الجمهور. وقرأ الضحاك، وابن أبي عبلة بالياء، ورفع الفعل على أنه صفة للملك. وقرىء بالنون، والرفع على أنه حال، أو كلام مستأنف.

وقوله: { هَلْ عَسَيْتُمْ } بالفتح للسين، وبالكسر لغتان، وبالثانية قرأ نافع، وبالأولى قرأ الباقون. قال في الكشاف: وقراءة الكسر ضعيفة. وقال أبو حاتم: ليس للكسر وجه. انتهى. وقال أبو علي: وجه الكسر قول العرب: هو عَس بذلك، مثل حَرٍ وشَجٍ، وقد جاء فَعَل وفَعِل في نحو نَقَم ونَقِم، فكذلك عسيت وعسيت، وكذا قال مكي. وقد قرأ بالكسر أيضاً الحسن وطلحة فلا وجه لتضعيف ذلك، وهو من أفعال المقاربة، أي: هل قاربتم أن لا تقاتلوا، وإدخال حرف الاستفهام على فعل المقاربة لتقرير ما هو متوقع عنده، والإشعار بأنه كائن، وفصل بين عسى، وخبرها بالشرط للدلالة على الاعتناء به. قال الزجاج: أن لا تقاتلوا في موضع نصب، أي: هل عسيتم مقاتلة. قال الأخفش: «أن» في قوله: { وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَـٰتِلَ } زائدة. وقال الفراء: هو محمول على المعنى، أي: وما منعنا، كما تقول مالك ألا تصلي، وقيل: المعنى: وأي شيء لنا في أن لا نقاتل. قال النحاس: وهذا أجودها. وقوله: { وَقَدْ أُخْرِجْنَا } تعليل، والجملة حالية، وإفراد الأولاد بالذكر؛ لأنهم الذين وقع عليهم السبي، أو لأنهم بمكان فوق مكان سائر القرابة { فَلَمَّا كُتِبَ } أي: فرض، أخبر سبحانه أنهم تولوا لاضطراب نياتهم، وفتور عزائمهم. واختلف في عدد القليل الذين استثناهم الله سبحانه، وهم الذين اكتفوا بالغَرْفةَ.

وقوله { وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ } شروع في تفصيل ما جرى بينهم وبين نبيهم من الأقوال والأفعال. وطالوت: اسم أعجمي، وكان سقاء، وقيل: دباغاً، وقيل: مكارياً، ولم يكن من سبط النبوة، وهم بنو لاوى، ولا من سبط الملك، وهم بنو يهوذا، فلذلك: { قَالُواْ أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ ٱلْمُلْكُ عَلَيْنَا } أي: كيف ذلك؟ ولم يكن من بيت الملك، ولا هو ممن أوتي سعة من المال حتى نتبعه لشرفه، أو لماله. وهذه الجملة أعني قوله: { وَنَحْنُ أَحَقُّ } حالية وكذلك الجملة المعطوفة عليها. وقوله: { ٱصْطَفَـٰهُ عَلَيْكُمْ } أي: اختاره، واختيار الله هو الحجة القاطعة. ثم بين لهم مع ذلك وجه الاصطفاء: بأن الله زاده بسطة في العلم، الذي هو ملاك الإنسان، ورأس الفضائل، وأعظم وجوه الترجيح، وزاده بسطة في الجسم الذي يظهر به الأثر في الحروب، ونحوها، فكان قوياً في دينه، وبدنه، وذلك هو المعتبر، لا شرف النسب. فإن فضائل النفس مقدّمة عليه { وَٱللَّهُ يُؤْتِى مُلْكَهُ مَن يَشَاء } فالملك ملكه، والعبيد عبيده، فما لكم والاعتراض على شيء ليس هو لكم، ولا أمره إليكم. وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن قوله: { وَٱللَّهُ يُؤْتِى مُلْكَهُ مَن يَشَاء } من قول نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: هو من قول نبيهم، وهو الظاهر. وقوله: { وٰسِعُ } أي: واسع الفضل، يوسع على من يشاء من عباده { عَلِيمٌ } بمن يستحق الملك، ويصلح له.

والتابوت، فعلوت من التوب، وهو الرجوع؛ لأنهم يرجعون إليه، أي: علامة ملكه إتيان التابوت الذي أخذ منهم، أي: رجوعه إليكم، وهو صندوق التوراة. والسكينة فعيلة مأخوذة من السكون، والوقار، والطمأنينة أي: فيه سبب سكون قلوبكم فيما اختلفتم فيه من أمر طالوت. قال ابن عطية: الصحيح أن التابوت كانت فيه أشياء فاضلة من بقايا الأنبياء، وآثارهم، فكانت النفوس تسكن إلى ذلك، وتأنس به، وتتقوى. وقد اختلف في السكينة على أقوال سيأتي بيان بعضها، وكذلك اختلف في البقية، فقيل: هي عصا موسى، ورُضَاض الألواح، وقيل: غير ذلك. قيل: والمراد بآل موسى، وهارون هما أنفسهما. أي: مما ترك هارون، وموسى، ولفظ "آل" مقحمة، لتفخيم شأنهما، وقيل المراد: الأنبياء من بني يعقوب؛ لأنهما من ذرية يعقوب، فسائر قرابته ومن تناسل منه آل لهما. وفصل معناه: خرج بهم، فَصَلْتُ الشيء، فانفصل أي: قطعته، فانقطع، وأصله مُتَعَدٍّ، يقال فصل نفسه، ثم استعمل استعمال اللازم كانفصل، وقيل: إن فصل يستعمل لازماً، ومتعدياً، يقال: فصل عن البلد فصولاً، وفصل نفسه فصلاً. والابتلاء: الاختبار.

والنهر: قيل: هو بين الأردن، وفلسطين، وقرأه الجمهور { بنهر } بفتح الهاء. وقرأ حميد، ومجاهد، والأعرج بسكون الهاء. والمراد بهذا الابتلاء: اختبار طاعتهم، فمن أطاع في ذلك الماء أطاع فيما عداه، ومن عصى في هذا، وغلبته نفسه، فهو بالعصيان في سائر الشدائد أحرى، ورخص لهم في الغرفة؛ ليرتفع عنهم أذى العطش بعض الارتفاع، وليكسروا نزاع النفس في هذه الحال، وفيه أن الغرفة تكف سورة العطش عند الصابرين على شظف العيش الدافعين أنفسهم عن الرفاهية. فالمراد بقوله: { فَمَن شَرِبَ مِنْهُ } أي: كرع، ولم يقتصر على الغرفة، و«من» ابتدائية. ومعنى قوله: { فَلَيْسَ مِنّى } أي: ليس من أصحابي. من قولهم: فلان من فلان، كأنه بعضه لاختلاطهما، وطول صحبتهما، وهذا مَهْيَع في كلام العرب معروف، ومنه قول الشاعر:

إذا حَاولْتَ في أسَدٍ فجُوراً فَإني لستُ مِنْكَ وَلستَ منِّي

وقوله: { وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ } يقال طعمت الشيء أي: ذقته، وأطعمته الماء أي: أذقته، وفيه دليل على أن الماء يقال له طعام. والاغتراف: الأخذ من الشيء باليد، أو بآلة، والغرف مثل الاغتراف، والغَرفة المرة الواحدة. وقد قرىء بفتح الغين، وضمها، فالفتح للمرة، والضم اسم للشيء المغترف، وقيل: بالفتح الغَرفة بالكف الواحدة، وبالضم: الغرفة بالكفين، وقيل: هما لغتان بمعنى واحد، ومنه قول الشاعر:

لا يَدْلفون إلى ماء بآنية إلا اغْتِرافاً من الغُدران بالرَّاح

قوله: { إِلاَّ قَلِيلاً } سيأتي بيان عددهم، وقرىء «إلا قليل» ولا وجه له إلا ما قيل من أنه من هجر اللفظ إلى جانب المعنى أي: لم يعطه إلا قليل، وهو تعسف. قوله: { فَلَمَّا جَاوَزَهُ } أي: جاوز النهر طالوت: { وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ } وهم القليل الذين أطاعوه، ولكنهم اختلفوا في قوّة اليقين، فبعضهم قال: { لاَ طَاقَةَ لَنَا } و { قَالَ ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ } أي: يتيقنون { أَنَّهُم مُلاَقُواْ ٱللَّهِ } والفئة: الجماعة، والقطعة منهم من فأوْتُ رأسه بالسيف أي: قطعته.

وقوله { بَرَزُواْ } أي: صاروا في البراز، وهو المتسع من الأرض. وجالوت أمير العمالقة. قالوا: أي: جميع من معه من المؤمنين، والإفراغ يفيد معنى الكثرة. وقوله: { وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا } هذا عبارة، عن القوّة، وعدم الفشل، يقال: ثبت قدم فلان على كذا إذا استقرّ له، ولم يزل عنه، وثبت قدمه في الحرب إذا كان الغلب له، والنصر معه. قوله: { وَٱنصُرْنَا عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْكَـٰفِرِينَ } هم جالوت، وجنوده. ووضع الظاهر موضع المضمر؛ إظهاراً لما هو العلة الموجبة للنصر عليهم، وهي كفرهم، وذكر النصر بعد سؤال تثبيت الأقدام، لكون الثاني هو غاية الأوّل.

قوله: { فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ ٱللَّهِ } الهزم: الكسر، ومنه سقاء مُنَهَزِم أي: انثنى بعضه على بعض مع الجفاف، ومنه ما قيل في زمزم إنها هَزمَة جِبريل أي: هزمها برجله، فخرج الماء، والهزم: ما يكسر من يابس الحطب، وتقدير الكلام: فأنزل الله عليهم النصر { فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ ٱللَّهِ } أي: بأمره وإرادته. قوله: { وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ } هو: داود بن إيشا بكسر الهمزة، ثم تحتية ساكنة بعدها معجمة. ويقال داود بن زكريا بن بشوى من سبط يهوذا بن يعقوب جمع الله له بين النبوّة، والملك بعد أن كان راعياً، وكان أصغر إخوته، اختاره طالوت لمقاتلة جالوت، فقتله. والمراد بالحكمة هنا: النبوّة، وقيل: هي تعليمه صنعة الدروع، ومنطق الطير، وقيل: هي إعطاؤه السلسلة التي كانوا يتحاكمون إليها. قوله: { وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء } قيل: إن المضارع هنا موضوع موضع الماضي، وفاعل هذا الفعل هو الله تعالى، وقيل: داود، وظاهر هذا التركيب أن الله سبحانه علمه مما قضت به مشيئته، وتعلقت به إرادته. وقد قيل: إن من ذلك ما قدّمنا من تعليمه صنعة الدروع، وما بعده.

قوله: { وَلَوْلاَ دَفْعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ } قرأه الجماعة: «ولولا دفع الله» وقرأ نافع: «دفاع» وهما مصدران لدفع، كذا قال سيبويه. وقال أبو حاتم: دافع، ودفع واحد مثل: طرقت نعلي، وطارقته. واختار أبو عبيدة قراءة الجمهور، وأنكر قراءة "دفاع"، قال: لأن الله عزّ وجلّ لا يغالبه أحد، قال مكي: يوهم أبو عبيدة أن هذا من باب المفاعلة، وليس به، وعلى القراءتين، فالمصدر مضاف إلى الفاعل: أي: { وَلَوْلاَ دَفْعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ } وبعضهم بدل من الناس، وهم الذين يباشرون أسباب الشرّ، والفساد ببعض آخر منهم، وهم الذين يكفونهم عن ذلك ويردّونهم عنه { لَفَسَدَتِ ٱلأرْضُ } لتغلب أهل الفساد عليها، وإحداثهم للشرور التي تهلك الحرث، والنسل، وتنكير { فضل } للتعظيم. { وآيات الله } هي: ما اشتملت عليه هذه القصة من الأمور المذكورة. والمراد { بِٱلْحَقّ } هنا: الخبر الصحيح الذي لا ريب فيه عند أهل الكتاب، والمطلعين على أخبار العالم. وقوله: { إِنَّكَ لَمِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ } إخبار من الله سبحانه بأنه من جملة رسل الله سبحانه تقوية لقلبه، وتثبيتاً لجنانه، وتشييداً لأمره.

وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن ابن عباس في قوله: { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلْمَلإِ مِن بَنِى إِسْرءيلَ } قال هذا حين رفعت النبوّة، واستخرج أهل الإيمان، وكانت الجبابرة قد أخرجتهم من ديارهم، وأبنائهم { فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ ٱلْقِتَالُ } وذلك حين أتاهم التابوت، قال: وكان من إسرائيل سبطان: سبط نبوّة، وسبط خلافة، فلا تكون الخلافة إلا في سبط الخلافة، ولا تكون النبوّة إلا في سبط النبوّة؛ فَقَالَ لَهُمُ نَبِيُّهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُواْ أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ ٱلْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِٱلْمُلْكِ مِنْهُ وليس من أحد السبطين لا من سبط النبوّة، ولا من سبط الخلافة { قَالَ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَـٰهُ عَلَيْكُمْ } فأبوا أن يسلموا له الرياسة حتى قال لهم: { إِنَّ ءَايَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ ٱلتَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ من ربكم وبقية } وكان موسى حين ألقى الألواح تكسرت، ورفع منها وجمع ما بقي، فجعله في التابوت، وكانت العمالقة قد سَبَتْ ذلك التابوت، والعمالقة فرقة من عاد كانوا بأريحاء، فجاءت الملائكة بالتابوت تحمله بين السماء، والأرض، وهم ينظرون إليه حتى وضعته عند طالوت، فلما رأوا ذلك قالوا: نعم. فسلموا له، وملَّكُوه، وكانت الأنبياء إذا حضروا قتالاً قدّموا التابوت بين أيديهم، ويقولون: إن آدم نزل بذلك التابوت، وبالركن، وبعصى موسى من الجنة. وبلغني أن التابوت، وعصى موسى في بحيرة طبرية، وأنهما يخرجان قبل يوم القيامة. وقد ورد هذا المعنى مختصراً، ومطولاً عن جماعة من السلف، فلا يأتي التطويل بذكر ذلك بفائدة يعتدّ بها.

وأخرج ابن أبي حاتم من طريق السدي، عن أبي مالك عن ابن عباس { وَزَادَهُ بَسْطَةً } يقول: فضيلة { فِي ٱلْعِلْمِ وَٱلْجِسْمِ } يقول: كان عظيماً جسيماً يفضل بني إسرئيل بعنقه. وأخرج أيضاً عن وهب بن منبه { وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي ٱلْعِلْمِ } قال: العلم بالحرب. وأخرج ابن المنذر عنه: أنه سئل: أنبياً كان طالوت؟ قال: لا، لم يأته وحي، وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر عنه: أنه سئل عن تابوت موسى ما سعته؟ قال: نحو من ثلاثة أذرع في ذراعين.

وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال: السكينة الرحمة. وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عنه قال: السكينة الطمأنينة. وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه قال: السكينة: دابة قدر الهرّ لها عينان لهما شعاع، وكان إذا التقى الجمعان أخرجت يديها، ونظرت إليهم، فيهزم الجيش من الرعب. وأخرج الطبراني بسند ضعيف عن عليّ قال: السكينة: ريح خجوج، ولها رأسان. وأخرج عبد الرزاق، وأبو عبيد، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم، وصححه عن عليّ قال: السكينة: لها وجه كوجه الإنسان، ثم هي بعد ريح هفافة. وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الدلائل عن مجاهد قال: السكينة من الله كهيئة الريح، لها وجه كوجه الهِرّ، وجناحان، وذَنَب مثل ذَنب الهِرّ. وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير عن ابن عباس قال: { فِيهِ سَكِينَةٌ مّن رَّبّكُمْ } قال: طست من ذهب من الجنة كان يغسل بها قلوب الأنبياء ألقى الألواح فيها. وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن وهب بن منبه أنه قال: هي روح من الله لا تتكلم، إذا اختلفوا في شيء تكلم، فأخبرهم ببيان ما يريدون. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال: هي شيء تسكن إليه قلوبهم. وأخرج عبد الرزاق عن قتادة قال { فيه سكينة }، أي: وقار.

وأقول: هذه التفاسير المتناقضة لعلها وصلت إلى هؤلاء الأعلام من جهة اليهود أقماهم الله، فجاءوا بهذه الأمور لقصد التلاعب بالمسلمين رضي الله عنهم، والتشكيك عليهم، وانظر إلى جعلهم لها تارة حيواناً، وتارة جماداً، وتارة شيئاً لا يعقل، كقول مجاهد: كهيئة الريح لها وجه كوجه الهرّ، وجناحان، وذنب مثل ذنب الهرّ. وهكذا كل منقول عن بني إسرائيل يتناقض، ويشتمل على ما لا يعقل في الغالب، ولا يصح أن يكون مثل هذه التفاسير المتناقضة مروياً عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا رأياً رآه قائله، فهم أجلّ قدراً من التفسير بالرأي، وبما لا مجال للاجتهاد فيه. إذا تقرّر لك هذا عرفت أن الواجب الرجوع في مثل ذلك إلى معنى السكينة لغة، وهو معروف، ولا حاجة إلى ركوب هذه الأمور المتعسفة المتناقضة، فقد جعل الله عنها سعة، ولو ثبت لنا في السكينة تفسير، عن النبي صلى الله عليه وسلم لوجب علينا المصير إليه، والقول به، ولكنه لم يثبت من وجه صحيح بل ثبت أنها تنزلت على بعض الصحابة عند تلاوته للقرآن، كما في صحيح مسلم، عن البراء قال: كان رجل يقرأ سورة الكهف، وعنده فرس مربوط، فتغشته سحابة، فجعلت تدور وتدنو، وجعل فرسه ينفر منها، فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له، فقال: "تلك السكينة نزلت للقرآن" . وليس في هذا إلا أن هذه التي سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم سكينة: سحابة دارت على ذلك القاريء، فالله أعلم.

وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: { وَبَقِيَّةٌ مّمَّا تَرَكَ ءَالُ مُوسَىٰ } قال: عصاه، ورُضاض الألواح. وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم، عن أبي صالح قال: كان في التابوت عصى موسى، وعصى هارون، وثياب موسى، وثياب هارون، ولوحان من التوراة، والمنّ وكلمة الفرج: «لا إله إلا الله الحليم الكريم وسبحان الله ربّ السموات السبع، ورب العرش العظيم، والحمد لله رب العالمين». وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، عن قتادة في قوله: { تَحْمِلُهُ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ } قال: أقبلت به الملائكة تحمله حتى وضعته في بيت طالوت، فأصبح في داره. وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس: { إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً } قال: علامة.

وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس: { إِنَّ ٱللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ } يقول: بالعطش، فلما انتهى إلى النهر، وهو نهر الأردن كرع فيه عامة الناس، فشربوا منه، فلم يزد من شرب منه إلا عطشاً، وأجزأ من اغترف غرفة بيده، وانقطع الظمأ عنه. وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير: { فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مّنْهُمْ } قال: القليل ثلثمائة وبضعة عشر عدة أهل بدر. وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، والبخاري، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي عن البراء قال: كنا أصحاب محمد نتحدّث أن أصحاب بدر على عدّة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر، ولم يجاوز معه إلا مؤمن بضعة عشر وثلاثمائة. وقد أخرج ابن جرير عن قتادة قال: ذكر لنا أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوم بدر: "أنتم بعدّة أصحاب طالوت يوم لقي جالوت" . وأخرج ابن عساكر من طريق جويبر، عن الضحاك عن ابن عباس قال: كانوا ثلاثمائة ألف وثلاثة الآف وثلاثمائة وثلاثة عشر، فشربوا منه كلهم إلا ثلثمائة وثلاثة عشر رجلاً عدّة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر، فردّهم طالوت، ومضى ثلثمائة وثلاثة عشر. وأخرج ابن أبي حاتم، عن السديّ في قوله: { ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ } قال: الذين يستيقنون.

وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: كان طالوت أميراً على الجيش، فبعث أبو داود مع داود بشيء إلى إخوته، فقال داود لطالوت: ماذا لي، وأقتل جالوت؟ فقال: لك ثلث ملكي، وأنكحك ابنتي، فأخذ مخلاة، فجعل فيها ثلاث مَرْوَات، ثم سمي إبراهيم، وإسحاق ويعقوب، ثم أدخل يده، فقاال: بسم الله إلهي، وإله آبائي إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، فخرج على إبراهيم، فجعله في مرحمته، فرمى بها جالوت، فخرق ثلاثة وثلاثين بيضة عن رأسه، وقتلت ما وراءه ثلاثين ألفاً. وقد ذكر المفسرون أقاصيص كثيرة من هذا الجنس، والله أعلم. وأخرج ابن أبي حاتم، والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس في قوله: { وَلَوْلاَ دَفْعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ } قال: يدفع الله بمن يصلي عمن لا يصلي، وبمن يحج عمن لا يحج، وبمن يزكي عمن لا يزكي. وأخرج ابن عدي، وابن جرير بسند ضعيف عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله ليدفع بالمسلم الصالح عن مائة أهل بيت من جيرانه البلاء" ثم قرأ ابن عمر: { وَلَوْلاَ دَفْعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ } الآية. وفي إسناده يحيـى بن سعيد العطار الحمصي، وهو ضعيف جداً.