التفاسير

< >
عرض

لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلاَّ ٱبْتِغَآءَ وَجْهِ ٱللَّهِ وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ
٢٧٢
لِلْفُقَرَآءِ ٱلَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي ٱلأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ ٱلْجَاهِلُ أَغْنِيَآءَ مِنَ ٱلتَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ ٱلنَّاسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ
٢٧٣
ٱلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِٱللَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ
٢٧٤
-البقرة

فتح القدير

قوله: { لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ } أي: ليس بواجب عليك أن تجعلهم مهديين قابلين لما أمروا به ونهوا عنه: { وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَاء } هداية توصله إلى المطلوب، وهذه الجملة معترضة، وفيها الالتفات، وسيأتي بيان السبب الذي نزلت لأجله، والمراد بقوله: { مّنْ خَيْرٍ } كل ما يصدق عليه اسم الخير كائناً ما كان، وهو متعلق بمحذوف، أي: أيّ شيء تنفقون كائناً من خير، ثم بين أن النفقة المعتدّ بها المقبولة إنما هي ما كان ابتغاء وجه الله سبحانه، أي: لابتغاء وجه الله. وقوله: { يُوَفَّ إِلَيْكُمْ } أي: أجره، وثوابه على الوجه الذي تقدّم ذكره من التضعيف.

قوله: { لِلْفُقَرَاء } متعلق بقوله: { وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ } أو بمحذوف: أي: اجعلوا ذلك للفقراء، أو خبر مبتدأ محذوف: أي: إنفاقكم للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله بالغزو، أو الجهاد، وقيل: منعوا عن التكسب لما هم فيه من الضعف { ٱلَّذِينَ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِى ٱلأرْضِ } للتكسب بالتجارة، والزراعة، ونحو ذلك بسبب ضعفهم. قيل: هم فقراء الصفة. وقيل: كل من يتصف بالفقر، وما ذكر معه. ثم ذكر سبحانه من أحوال أولئك الفقراء ما يوجب الحُنُوّ عليهم، والشفقة بهم، وهو: كونهم متعففين عن المسئلة، وإظهار المسكنة بحيث يظنهم الجاهل بهم أغنياء. والتعفف تفعل، وهو بناء مبالغة من عف عن الشيء: إذا أمسك عنه، وتنزّه عن طلبه، وفي: «يحسبهم» لغتان: فتح السين، وكسرها. قال أبو عليّ الفارسيّ: والفتح أقيس؛ لأن العين من الماضي مكسورة، فبابها أن تأتي في المضارع مفتوحة. فالقراءة بالكسر على هذا حسنة، وإن كانت شاذة. و«من» في قوله: «من التعفف» لابتداء الغاية، وقيل: لبيان الجنس. قوله: { تَعْرِفُهُم بِسِيمَـٰهُمْ } أي: برثاثة ثيابهم، وضعف أبدانهم، وكل ما يشعر بالفقر، والحاجة. والخطاب إما لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو لكل من يصلح للمخاطبة، والسيما مقصورة: العلامة، وقد تمد. والإلحاف: الإلحاح في المسئلة، وهو مشتق من اللحاف، سمي بذلك؛ لاشتماله على وجوه الطلب في المسئلة، كاشتمال اللحاف على التغطية. ومعنى قوله: { لا يسألون الناس إلحافاً } أنهم لا يسألونهم ألبتة، لا سؤال إلحاح، ولا سؤال غير إلحاح. وبه قال الطبري، والزجاج، وإليه ذهب جمهور المفسرين، ووجهه أن التعَفُّفَّ صفةٌ ثابتة لهم لا تفارقهم، ومجرد السؤال ينافيها. وقيل: المراد أنهم إذا سألوا سألوا بتلطف، ولا يلحفون في سؤالهم، وهذا، وإن كان هو الظاهر من توجه النفي إلى القيد دون المقيد، لكن صفة التعفف تنافيه، وأيضاً كون الجاهل بهم يحسبهم أغنياء لا يكون إلا مع عدم السؤال ألبتة.

وقوله: { بالليل والنهار } يفيد زيادة رغبتهم في الإنفاق، وشدّة حرصهم عليه حتى أنهم لا يتركون ذلك ليلاً، ولا نهاراً، ويفعلونه سرّاً وجهراً عند أن تنزل بهم حاجة المحتاجين، ويظهر لديهم فاقة المفتاقين في جميع الأزمنة على جميع الأحوال. ودخول الفاء في خبر الموصول أعني قوله: { فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ } للدلالة على سببية ما قبلها لما بعدها، وقيل: هي للعطف، والخبر للموصول محذوف، أي: ومنهم الذين ينفقون.

وقد أخرج عبد بن حميد، والنسائي، والبزار، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم وصححه، والبيهقي في سننه، والضياء في المختارة، عن ابن عباس، قال: كانوا يكرهون أن يرضخوا لأنسابهم من المشركين، فنزلت هذه الآية: { لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ } إلى قوله: { وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ } فرخص لهم. وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه، والضياء عنه قال إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمرنا أن لا نتصدّق إلا على أهل الإسلام حتى نزلت هذه الآية، فأمر بالصدقة بعدها على كل من سألك من كل دين. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن سعيد بن جبير، نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة، عن ابن الحنفية، نحوه. وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس قال: كان أناس من الأنصار لهم نسب، وقرابة من قريظة، والنضير، وكان يتقون أن لا يتصدّقوا عليهم، ويريدونهم أن يسلموا، فنزلت: { لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ } الآية. وأخرج ابن المنذر، عن عمرو الهلالي قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم أنتصدّق على فقراء أهل الكتاب؟ فأنزل الله: { لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ } الآية. وأخرج ابن أبي حاتم، عن عطاء الخراساني قال في قوله: { وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ٱبْتِغَاء وَجْهِ ٱللَّهِ } قال: إذا أعطيت لوجه الله، فلا عليك ما كان عمله.

وأخرج ابن المنذر من طريق الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس في قوله: { لِلْفُقَرَاء ٱلَّذِينَ أُحصِرُواْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ } قال: هم أصحاب الصفة. وأخرج ابن سعد، عن محمد بن كعب القرظي، نحوه. وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد قال: هم مهاجرو قريش بالمدينة مع النبي صلى الله عليه وسلم أمروا بالصدقة عليهم. وأخرج ابن جرير، عن الربيع في قوله: { ٱلَّذِينَ أُحصِرُواْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ } قال: حصروا أنفسهم في سبيل الله للغزو فلا يستطيعون تجارة. وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير قال: هم قوم أصابتهم، الجراحات في سبيل الله، فصاروا زمني، فجعل لهم في أموال المسلمين حقاً. وأخرج ابن أبي حاتم، عن رجاء بن حيوة في قوله: { لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِى ٱلاْرْضِ } قال: لا يستطيعون تجارة. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن السديّ، نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم، عن الحسن في قوله: { يَحْسَبُهُمُ ٱلْجَاهِلُ أَغْنِيَاء } قال: دلّ الله المؤمنين عليهم، وجعل نفقاتهم لهم، وأمرهم أن يضعوا نفقاتهم فيهم، ورضي عنهم. وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن مجاهد في قوله: { تَعْرِفُهُم بِسِيمَـٰهُمْ } قال: التخشع. وأخرجه ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن الربيع أن معناه تعرف في وجوههم الجهد من الحاجة. وأخرج ابن جرير، عن ابن زيد: { تَعْرِفُهُم بِسِيمَـٰهُمْ } قال: رثاثة ثيابهم، وثبت في الصحيحين، وغيرهما من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس المسكين الذي تردّه التمرة، والتمرتان، واللقمة، واللقمتان، إنما المسكين الذي يتعفف، واقرءوا إن شئتم: { لا يسألون الناس إلحافاً }" وقد ورد في تحريم المسئلة أحاديث كثيرة إلا لذي سلطان، أو في الأمر لا يجد منه بدّاً.

وأخرج ابن سعد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن عديّ، والطبراني، وأبو الشيخ، عن يزيد بن عبد الله بن عَرِيب المليكي، عن أبيه، عن جدّه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "أنزلت هذه الآية { ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوٰلَهُمْ بِٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ } في أصحاب الخيل" . وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن عساكر، عن أبي أمامة الباهلي نحوه قال: فيمن لا يربطها خيلاء، ولا رياء، ولا سمعة. وأخرج ابن جرير، عن أبي الدرداء نحوه. وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن حنش الصنعاني أنه سمع ابن عباس يقول في هذه الآية: هم الذين يعلفون الخيل في سبيل الله. وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وابن عساكر من طريق عبد الوهاب بن مجاهد، عن أبيه عن ابن عباس في هذه الآية؛ قال: نزلت في عليّ بن أبي طالب كانت له أربعة دراهم، فأنفق بالليل درهماً، وبالنهار درهماً، ودرهماً سرّاً، ودرهماً علانية. وعبد الوهاب ضعيف، ولكن قد رواه ابن مردويه من وجه آخر، عن ابن عباس. وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، عن قتادة في هذه الآية قال: هؤلاء قوم أنفقوا في سبيل الله الذي افترض عليهم في غير سَرَفٍ، ولا إِمْلاقٍ، ولا تبذير، ولا فساد. وأخرج ابن المنذر، عن سعيد بن المسيب قال: نزلت في عبد الرحمن بن عوف، وعثمان بن عفان في نفقتهم في جيش العسرة.