التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ وَٰعَدْنَا مُوسَىٰ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ ٱتَّخَذْتُمُ ٱلْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَٰلِمُونَ
٥١
ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
٥٢
وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَابَ وَٱلْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ
٥٣
وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَٰقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِٱتِّخَاذِكُمُ ٱلْعِجْلَ فَتُوبُوۤاْ إِلَىٰ بَارِئِكُمْ فَٱقْتُلُوۤاْ أَنفُسَكُمْ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ
٥٤
-البقرة

فتح القدير

قرأ أبو عمرو "وعدنا" بغير ألف، ورجحه أبو عبيدة، وأنكر «واعدنا» قال: لأن المواعدة إنما تكون من البشر، فأما من الله فإنما هو التفرّد بالوعد على هذا وجدنا القرآن كقوله: { وَعَدَكُمْ وَعْدَ ٱلْحَقّ } [إبراهيم: 22] وقوله: { وَإِذْ يَعِدُكُمُ ٱللَّهُ إِحْدَى ٱلطَّائِفَتَيْنِ } [الأنفال: 7] ومثله، قال أبو حاتم ومكي: وإنما قالوا هكذا نظراً إلى أصل المفاعلة، أنها تفيد الاشتراك في أصل الفعل، وتكون من كل واحد من المتواعدين، ونحوهما، ولكنها قد تأتي للواحد في كلام العرب كما في قولهم: داويت العليل، وعاقبت اللص، وطارقت النعل، وذلك كثير في كلامهم. وقرأه الجمهور: { واعدنا } قال النحاس: وهي أجود، وأحسن، وليس قوله: { وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ } [المائدة: 9، النور: 55] من هذا في شيء؛ لأن واعدنا موسى إنما هو من باب الموافاة، وليس هو من الوعد والوعيد في شيء، وإنما هو من قولك: موعدك يوم الجمعة، وموعدك موضع كذا؛ والفصيح في هذا أن يقال، واعدته. قال الزجاج: واعدنا بالألف ها هنا جيد؛ لأن الطاعة في القبول بمنزلة المواعدة، فمن الله سبحانه وعد، ومن موسى قبول. قوله: { أَرْبَعِينَ لَيْلَةً } قال الزجاج: التقدير تمام أربعين ليلة، وهي عند أكثر المفسرين ذو القعدة، وعشر من ذي الحجة، وإنما خص الليالي بالذكر دون الأيام؛ لأن الليلة أسبق من اليوم فهي قبله في الرتبة.

ومعنى قوله: { ثُمَّ ٱتَّخَذْتُمُ ٱلْعِجْلَ } أي: جعلتم العجل إلهاً من بعده، أي: من بعد مضي موسى إلى الطور. وقد ذكر بعض المفسرين أنهم عدوا عشرين يوماً، وعشرين ليلة. وقالوا: قد اختلف موعده، فاتخذوا العجل، وهذا غير بعيد منهم، فقد كانوا يسلكون طرائق من التعنت خارجة عن قوانين العقل، مخالفة لما يخاطبون به، بل ويشاهدونه بأبصارهم، فلا يقال: كيف تعدون الأيام، والليالي على تلك الصفة، وقد صرح لهم في الوعد بأنها أربعون ليلة، وإنما سماهم ظالمين؛ لأنهم أشركوا بالله، وخالفوا موعد نبيهم عليهم السلام، والجملة في موضع نصب على الحال.

وقوله: { مِن بَعْدِ ذٰلِكَ } أي: من بعد عبادتكم العجل، وسمي العجل عجلاً، لاستعجالهم عبادته كذا قيل، وليس بشيء؛ لأن العرب تطلق هذا الاسم على ولد البقر. وقد كان جعله لهم السامريّ على صورة العجل. وقوله: { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي لكي تشكروا ما أنعم الله به عليكم، من العفو عن ذنبكم العظيم الذي وقعتم فيه. وأصل الشكر في اللغة: الظهور، من قولهم: دابة شكور إذ ظهر عليها من السمن فوق ما تعطى من العلف. قال الجوهري: الشكر: الثناء على المحسن بما أولاك من المعروف، يقال شكرته وشكرت له، وباللام أفصح، وقد تقدّم معناه، والشكران خلاف الكفران.

والكتاب: التوراة بالإجماع من المفسرين. واختلفوا في الفرقان، وقال الفراء، وقُطرُب: المعنى: آتينا موسى التوراة، ومحمداً الفرقان. وقد قيل: إن هذا غلط، أوقعهما فيه أن الفرقان مختص بالقرآن، وليس كذلك، فقد قال تعالى: { وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَىٰ وَهَـٰرُونَ ٱلْفُرْقَانَ } [الأنبياء: 48] وقال الزجاج: إن الفرقان هو: الكتاب، أعيد ذكره تأكيداً. وحكى نحوه عن الفراء، ومنه قول عنترة:

حييت من طلل تقادم عهده أقوى وأقفر بعد أم الهيثم

وقيل: إن الواو صلة، والمعنى: آتينا موسى، الكتاب الفرقان، والواو قد تزاد في النعوت كقول الشاعر:

إلى المَلكِ القَرْم وابن الهمام وليثِ الكتَيبةِ في المُزَدحمْ

وقيل المعنى: أن ذلك المنزل جامع بين كونه كتاباً وفارقاً بين الحق، والباطل، وهو كقوله: { ثُمَّ ءاتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَـٰبَ تَمَامًا عَلَى ٱلَّذِى أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لّكُلّ شَىْء } [الأنعام: 154] وقيل الفرقان: الفرق بينهم، وبين قوم فرعون، أنجى هؤلاء، وأغرق هؤلاء. وقال ابن زيد: الفرقان: انفراق البحر. وقيل الفرقان: الفرج من الكرب. وقيل: إنه الحجة والبيان بالآيات التي أعطاها الله من العصا، واليد، وغيرهما، وهذا أولى، وأرجح، ويكون العطف على بابه، كأنه قال: آتينا موسى التوراة، والآيات التي أرسلناه بها معجزة له.

قوله: { يَا قَوْمٌ } القوم يطلق تارة على الرجال دون النساء، ومنه قول زهير:

وَمَا أدْرِي وَسَوف إخَالُ أدْرِي أقَومٌ آل حِصْنٍ أَمْ نِسَاء

ومنه قوله تعالى: { { لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مّن قَوْمٍ } [الحجرات: 11]، ثم قال: { وَلاَ نِسَاء مّن نّسَاء } [الحجرات: 11]، ومنه { { وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ } [الأعراف: 80] أراد الرجال، وقد يطلق على الجميع كقوله تعالى: { إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىٰ قَوْمِهِ } [نوح: 1] والمراد هنا بالقوم: عبدةُ العجل. والباريء: الخالق. وقيل إن الباريء: هو: المبدع المحدث، والخالق هو: المقدّر الناقل من حال إلى حال. وفي ذكر البارىء هنا إشارة إلى عظيم جرمهم، أي: فتوبوا إلى الذي خلقكم، وقد عبدتم معه غيره. والفاء في قوله: «فتوبوا» للسببية: أي: لتسبب التوبة عن الظلم، وفي قوله: { فَٱقْتُلُواْ } للتعقيب، أي: اجعلوا القتل متعقباً للتوبة. قال القرطبي: وأجمعوا على أنه لم يؤمر كل واحد من عبدة العجل بأن يقتل نفسه بيده. قيل: قاموا صفين، وقتل بعضهم بعضاً. وقيل: وقف الذين عبدوا العجل، ودخل الذين لم يعبدوه عليهم بالسلاح فقتلوهم. وقوله: { فَتَابَ عَلَيْكُمْ } قيل: في الكلام حذف أي: فقتلتم أنفسكم، { فتاب عليكم } أي: على الباقين منكم. وقيل: هو جواب شرط محذوف، كأنه قال: فإن فعلتم، فقد تاب عليكم. وأما ما قاله صاحب الكشاف من أنه يجوز أن يكون خطاباً من الله لهم على طريقة الالتفات، فيكون التقدير: ففعلتم ما أمركم به موسى فتاب عليكم بارئكم، فهو بعيد جداً كما لا يخفى.

وقد أخرج ابن جرير عن أبي العالية في قوله: { أَرْبَعِينَ لَيْلَةً } قال: ذا القعدة، وعشراً من ذي الحجة. وقد أخرج ابن جرير عنه في قوله: { مِن بَعْدِ ذٰلِكَ } قال: من بعد ما اتخذتم العجل. وأخرج عبد ابن حميد، وابن جرير عن مجاهد في قوله: { وَإِذْ ءاتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَـٰبَ وَٱلْفُرْقَانَ } قال: الكتاب هو: الفرقان، فرق بين الحق والباطل. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس قال: الفرقان جماع اسم التوراة، والإنجيل، والزبور، والقرآن. وأخرج ابن جرير عنه قال: أمر موسى قومه عن أمر ربه أن يقتلوا أنفسهم، واختبأ الذين عكفوا على العجل، فجلسوا، وقام الذين لم يعكفوا على العجل فأخذوا الخناجر بأيديهم، وأصابتهم ظلمة شديدة، فجعل يقتل بعضهم بعضاً، فانجلت الظلمة عنهم عن سبعين ألف قتيل، كل من قتل منهم كانت له توبة، وكل من بقي كانت له توبة. وأخرج ابن أبي حاتم عن عليّ قال: قالوا: لموسى ما توبتنا؟ قال: يقتل بعضكم بعضاً، فأخذوا السكاكين، فجعل الرجل يقتل أخاه، وأباه، وابنه، لا يبالي من قتل حتى قتل منهم سبعون ألفاً، فأوحى الله إلى موسى: مرهم، فليرفعوا أيديهم، وقد غفر لمن قُتل، وتَيب على من بقي. وقد أخرج عبد بن حميد عن قتادة، وأخرج أحمد في الزهد، وابن جرير عن الزهري، نحواً مما سبق. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله: { إِلَىٰ بَارِئِكُمْ } قال: خالقكم.