التفاسير

< >
عرض

قُل لِّمَنِ ٱلأَرْضُ وَمَن فِيهَآ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
٨٤
سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ
٨٥
قُلْ مَن رَّبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ ٱلسَّبْعِ وَرَبُّ ٱلْعَرْشِ ٱلْعَظِيمِ
٨٦
سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ
٨٧
قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
٨٨
سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّىٰ تُسْحَرُونَ
٨٩
بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِٱلْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ
٩٠
مَا ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَـهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَـٰهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ سُبْحَانَ ٱللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ
٩١
عَالِمِ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ فَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ
٩٢
قُل رَّبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ
٩٣
رَبِّ فَلاَ تَجْعَلْنِي فِي ٱلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ
٩٤
وَإِنَّا عَلَىٰ أَن نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ
٩٥
ٱدْفَعْ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ٱلسَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ
٩٦
وَقُلْ رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ ٱلشَّياطِينِ
٩٧
وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ
٩٨
-المؤمنون

فتح القدير

أمر الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم أن يسأل الكفار عن أمور لا عذر لهم من الاعتراف فيها، ثم أمره أن ينكر عليهم بعد الاعتراف منهم ويوبخهم فقال: { قُل لّمَنِ ٱلأَرْضُ وَمَن فِيهَا } أي قل يا محمد لأهل مكة هذه المقالة، والمراد بمن في الأرض: الخلق جميعاً، وعبر عنهم بمن تغليباً للعقلاء { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } شيئاً من العلم، وجواب الشرط محذوف، أي إن كنتم تعلمون فأخبروني، وفي هذا تلويح بجهلهم وفرط غباوتهم { سَيَقُولُونَ لِلَّهِ } أي لا بدّ لهم أن يقولوا ذلك؛ لأنه معلوم ببديهة العقل. ثم أمره سبحانه أن يقول لهم بعد اعترافهم: { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } ترغيباً لهم في التدبر وإمعان النظر والفكر، فإن ذلك مما يقودهم إلى اتباع الحق وترك الباطل؛ لأن من قدر على ذلك ابتداء قدر على إحياء الموتى.

{ قُلْ مَن رَّبُّ ٱلسَّمَـٰوَاتِ السبعِ وَرَبُّ ٱلْعَرْشِ ٱلْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ } جاء سبحانه باللام نظراً إلى معنى السؤال، فإن قولك: من ربه، ولمن هو في معنى واحد، كقولك: من ربّ هذه الدار؟ فيقال: زيد، ويقال: لزيد. وقرأ أبو عمرو، وأهل العراق: "سيقولون الله" بغير لام نظراً إلى لفظ السؤال، وهذه القراءة أوضح من قراءة الباقين باللام، ولكنه يؤيد قراءة الجمهور أنها مكتوبة في جميع المصاحف باللام بدون ألف، وهكذا قرأ الجمهور في قوله: { قل من بيده ملكوت كلّ شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون * سيقولون لله } باللام نظراً إلى معنى السؤال كما سلف. وقرأ أبو عمرو وأهل العراق بغير لام نظراً إلى لفظ السؤال، ومثل هذا قول الشاعر:

إذا قيل من ربّ المزالف والقرى وربّ الجياد الجرد قيل لخالد

أي لمن المزالف، والملكوت: الملك، وزيادة التاء للمبالغة، نحو جبروت ورهبوت، ومعنى { وَهُوَ يُجْيِرُ }: أنه يغيث غيره إذا شاء ويمنعه { وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ } أي لا يمنع أحد أحداً من عذاب الله ولا يقدر على نصره وإغاثته، يقال: أجرت فلاناً: إذا استغاث بك فحميته، وأجرت عليه: إذا حميت عنه { قُلْ فَأَنَّىٰ تُسْحَرُونَ } قال الفراء والزجاج: أي تصرفون عن الحق وتخدعون، والمعنى: كيف يخيل لكم الحق باطلاً والصحيح فاسداً؟ والخادع لهم: هو الشيطان أو الهوى أو كلاهما.

ثم بين سبحانه أنه قد بالغ في الاحتجاج عليهم فقال: { بَلْ أَتَيْنَـٰهُمْ بِٱلْحَقّ } أي الأمر الواضح الذي يحقّ اتباعه { وَإِنَّهُمْ لَكَـٰذِبُونَ } فيما ينسبونه إلى الله سبحانه من الولد والشريك، ثم نفاهما عن نفسه فقال: { مَا ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَـهٍ } "من" في الموضعين زائدة لتأكيد النفي. ثم بين سبحانه ما يستلزمه ما يدّعيه الكفار من إثبات الشريك، فقال: { إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَـٰهٍ بِمَا خَلَقَ } وفي الكلام حذف تقديره لو كان مع الله آلهة لانفرد كل إلٰه بخلقه واستبدّ به وامتاز ملكه عن ملك الآخر، ووقع بينهم التطالب والتحارب والتغالب { وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ } أي غلب القويّ على الضعيف وقهره وأخذ ملكه كعادة الملوك من بني آدم، وحينئذٍ فذلك الضعيف المغلوب لا يستحق أن يكون إلٰهاً، وإذا تقرّر عدم إمكان المشاركة في ذلك، وأنه لا يقوم به إلا واحد تعين أن يكون هذا الواحد هو الله سبحانه، وهذا الدليل كما دلّ على نفي الشريك فإنه يدلّ على نفي الولد؛ لأن الولد ينازع أباه في ملكه. ثم نزّه سبحانه نفسه فقال: { سُبْحَـٰنَ ٱللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ } أي: من الشريك والولد وإثبات ذلك لله عزّ وجلّ { عَـٰلِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَـٰدَةِ } أي: هو مختص بعلم الغيب والشهادة، وأما غيره فهو وإن علم الشهادة لا يعلم الغيب. قرأ نافع وأبو بكر وحمزة والكسائي: { عالم } بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي هو عالم، وقرأ الباقون بالجرّ على أنه صفة لله أو بدل منه. وروي عن يعقوب أنه كان يخفض إذا وصل ويرفع إذا ابتدأ { فَتَعَـٰلَى } الله { عَمَّا يُشْرِكُونَ } معطوف على معنى ما تقدّم كأنه قال: علم الغيب فتعالى، كقولك: زيد شجاع فعظمت منزلته، أي شجع فعظمت، أو يكون على إضمار القول، أي أقول: فتعالى الله، والمعنى: أنه سبحانه متعالٍ عن أن يكون له شريك في الملك.

{ قُل رَّبّ إِمَّا تُرِيَنّى مَا يُوعَدُونَ } أي إن كان ولا بدّ أن تريني ما يوعدون من العذاب المستأصل لهم. { رَبّ فَلاَ تَجْعَلْنِي فِي ٱلْقَوْمِ ٱلظَّـٰلِمِينَ } أي قل يا ربّ فلا تجعلني. قال الزجاج: أي إن أنزلت بهم النقمة يا ربّ فاجعلني خارجاً عنهم، ومعنى كلامه هذا: أن النداء معترض، و «ما» في: { إما } زائدة، أي قل ربّ إن تريني، والجواب: { فلا تجعلني } وذكر الربّ مرّتين مرة قبل الشرط، ومرّة بعده مبالغة في التضرع. وأمره الله أن يسأله أن لا يجعله في القوم الظالمين مع أن الأنبياء لا يكونون مع القوم الظالمين أبداً، تعليماً له صلى الله عليه وسلم من ربه كيف يتواضع، وقيل: يهضم نفسه، أو لكون شؤم الكفر قد يلحق من لم يكن من أهله، كقوله: { وَٱتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً } [الأنفال: 25].

ثم لما كان المشركون ينكرون العذاب، ويسخرون من النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا ذكر لهم ذلك، أكد سبحانه وقوعه بقوله: { وَإِنَّا عَلَىٰ أَن نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَـٰدِرُونَ } أي أن الله سبحانه قادر على أن يري رسوله عذابهم، ولكنه يؤخره لعلمه بأن بعضهم سيؤمن، أو لكون الله سبحانه لا يعذبهم والرسول فيهم. وقيل: قد أراه الله سبحانه ذلك يوم بدر ويوم فتح مكة. ثم أمره سبحانه بالصبر إلى أن ينقضي الأجل المضروب للعذاب فقال: { ٱدْفَعْ بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ ٱلسَّيّئَةَ } أي ادفع بالخصلة التي هي أحسن من غيرها وهي الصفح والإعراض عما يفعله الكافر من الخصلة السيئة وهي الشرك. قيل: وهذه الآية منسوخة بآية السيف. وقيل: هي محكمة في حقّ هذه الأمة فيما بينهم، منسوخة في حقّ الكفار { نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ } أي ما يصفونك به مما أنت على خلافه، أو بما يصفون من الشرك والتكذيب، وفي هذا وعيد لهم بالعقوبة.

ثم علمه سبحانه ما يقوّيه على ما أرشده إليه من العفو والصفح ومقابلة السيئة بالحسنة فقال: { وَقُلْ رَّبّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ ٱلشَّيـٰطِينِ } الهمزات جمع همزة، وهي في اللغة: الدفعة باليد أو بغيرها، وهمزات الشياطين: نزغاتهم ووساوسهم كما قاله المفسرون، يقال: همزه ولمزه ونخسه، أي: دفعه، وقيل: الهمز كلام من وراء القفا، واللمز: المواجهة، وفيه إرشاد لهذه الأمة إلى التعوّذ من الشيطان، ومن همزات الشياطين: سورات الغضب التي لا يملك الإنسان فيها نفسه. { وَأَعُوذُ بِكَ رَبّ أَن يَحْضُرُونِ } أمره سبحانه أن يتعوّذ بالله من حضور الشياطين بعد ما أمره أن يتعوّذ من همزاتهم، والمعنى: وأعوذ بك أن يكونوا معي في حال من الأحوال، فإنهم إذا حضروا الإنسان لم يكن لهم عمل إلا الوسوسة والإغراء على الشرّ والصرف عن الخير. وفي قراءة أبيّ: "وقل ربّ عائذاً بك من همزات الشياطين * وعائذاً بك ربّ أن يحضرون".

وقد أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: { قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلّ شَىْء } قال: خزائن كل شيء. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عنه: { ٱدْفَعْ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ٱلسَّيّئَةَ } يقول: أعرض عن أذاهم إياك. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عطاء: { ٱدْفَعْ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } قال: بالسلام. وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو نعيم في الحلية عن أنس في قوله: { ٱدْفَعْ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ٱلسَّيّئَةَ } قال: قول الرجل لأخيه ما ليس فيه، فيقول: إن كنت كاذباً فأنا أسأل الله أن يغفر لك، وإن كنت صادقاً فأنا أسأل الله أن يغفر لي.

وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وأبو داود، والترمذي وحسنه، والنسائي، والبيهقي في الأسماء والصفات عن عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جدّه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا كلمات نقولهنّ عند النوم من الفزع: "بسم الله أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه وشرّ عباده، ومن همزات الشياطين وأن يحضرون" ، قال: فكان عبد الله بن عمرو يعلمها من بلغ من ولده أن يقولها عند نومه، ومن كان منهم صغيراً لا يعقل أن يحفظها كتبها له فعلقها في عنقه. وفي إسناده محمد بن إسحاق، وفيه مقال معروف. وأخرج أحمد عن الوليد بن الوليد أنه قال: يا رسول الله إني أجد وحشة، قال: " "إذا أخذت مضجعك فقل: أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه وشرّ عباده، ومن همزات الشياطين وأن يحضرون، فإنه لا يحضرك، وبالحريّ لا يضرّك." p>>