التفاسير

< >
عرض

وَٱلَّذِينَ يَرْمُونَ ٱلْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فَٱجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَاسِقُونَ
٤
إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذٰلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٥
وَٱلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَآءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِٱللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ ٱلصَّادِقِينَ
٦
وَٱلْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ ٱللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ ٱلْكَاذِبِينَ
٧
وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا ٱلْعَذَابَ أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِٱللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ ٱلْكَاذِبِينَ
٨
وَٱلْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ ٱللَّهِ عَلَيْهَآ إِن كَانَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ
٩
وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ ٱللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ
١٠
-النور

فتح القدير

قوله { وَٱلَّذِينَ يَرْمُونَ } استعار الرمي للشتم بفاحشة الزنا؛ لكونه جناية بالقول كما قال النابغة:

وجرح اللسان كجرح اليد

وقال آخر:

رماني بأمر كنت عنه ووالدي برياً ومن أجل الطوى رماني

ويسمى هذا الشتم بهذه الفاحشة الخاصة قذفاً، والمراد بالمحصنات النساء، وخصهنّ بالذكر لأن قذفهنّ أشنع، والعار فيهنّ أعظم، ويلحق الرجال بالنساء في هذا الحكم بلا خلاف بين علماء هذه الأمة، وقد جمعنا في ذلك رسالة رددنا بها على بعض المتأخرين من علماء القرن الحادي عشر لما نازع في ذلك. وقيل: إن الآية تعمّ الرجال، والنساء، والتقدير: والأنفس المحصنات، ويؤيد هذا قوله تعالى في آية أخرى: { { وَٱلْمُحْصَنَـٰتُ مِنَ ٱلنّسَاء } [النساء: 24] فإن البيان بكونهنّ من النساء يشعر بأن لفظ المحصنات يشمل غير النساء، وإلاّ لم يكن للبيان كثير معنى. وقيل: أراد بالمحصنات: الفروج كما قال: { { وَٱلَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا } [الأنبياء: 91]. فتتناول الآية الرجال والنساء. وقيل: إن لفظ المحصنات، وإن كان للنساء لكنه هاهنا يشمل النساء والرجال تغليبا، وفيه أن تغليب النساء على الرجال غير معروف في لغة العرب، والمراد بالمحصنات هنا. العفائف، وقد مضى في سورة النساء ذكر الإحصان، وما يحتمله من المعاني. وللعلماء في الشروط المعتبرة في المقذوف والقاذف أبحاث مطوّلة مستوفاة في كتب الفقه، منها ما هو مأخوذ من دليل، ومنها ما هو مجرّد رأي بحت. قرأ الجمهور { والمحصنات } بفتح الصاد، وقرأ يحيـىٰ بن وثاب بكسرها. وذهب الجمهور من العلماء: أنه لا حدّ على من قذف كافراً أو كافرة. وقال الزهري، وسعيد بن المسيب، وابن أبي ليلى: إنه يجب عليه الحدّ. وذهب الجمهور أيضاً: أن العبد يجلد أربعين جلدة. وقال ابن مسعود، وعمر بن عبد العزيز، وقبيصة: يجلد ثمانين. قال القرطبي: وأجمع العلماء على: أن الحرّ لا يجلد للعبد إذا افترى عليه لتباين مرتبتهما، وقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم: "أن من قذف مملوكه بالزنا أقيم عليه الحدّ يوم القيامة إلاّ أن يكون كما قال"

ثم ذكر سبحانه شرطاً لإقامة الحدّ على من قذف المحصنات فقال { ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء } أي: يشهدون عليهنّ بوقوع الزنا منهنّ، ولفظ ثم يدلّ على: أنه يجوز أن تكون شهادة الشهود في غير مجلس القذف، وبه قال الجمهور، وخالف في ذلك مالك، وظاهر الآية: أنه يجوز أن يكون الشهود مجتمعين ومفترقين، وخالف في ذلك الحسن، ومالك، وإذا لم تكمل الشهود أربعة كانوا قذفة يحدّون حدّ القذف. وقال الحسن، والشعبي: إنه لا حدّ على الشهود ولا على المشهود عليه، وبه قال أحمد، وأبو حنيفة، ومحمد بن الحسن. ويردّ ذلك ما وقع في خلافة عمر رضي الله عنه من جلده للثلاثة الذين شهدوا على المغيرة بالزنا، ولم يخالف في ذلك أحد من الصحابة [رضي الله عنهم]. قرأ الجمهور: { بأربعة شهداء } بإضافة أربعة إلى شهداء، وقرأ عبد الله بن مسلم بن يسار، وأبو زرعة بن عمرو بتنوين أربعة. وقد اختلف في إعراب شهداء على هذه القراءة، فقيل: هو تمييز. وردّ بأن المميز من ثلاثة إلى عشرة يضاف إليه العدد كما هو مقرّر في علم النحو. وقيل: إنه في محل نصب على الحال. وردّ بأن الحال لا يجيء من النكرة التي لم تخصص. وقيل: إن شهداء في محل جرّ نعتاً لأربعة، ولما كان فيه ألف التأنيث لم ينصرف. وقال النحاس: يجوز أن يكون شهداء في موضع نصب على المفعولية أي: ثم لم يحضروا أربعة شهداء، وقد قوّى ابن جني هذه القراءة، ويدفع ذلك قول سيبويه: إن تنوين العدد، وترك إضافته إنما يجوز في الشعر.

ثم بين سبحانه ما يجب على القاذف فقال { فَٱجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً } الجلد: الضرب كما تقدّم، والمجالدة المضاربة في الجلود، أو بالجلود، ثم استعير للضرب بالعصى، والسيف، وغيرهما، ومنه قول قيس بن الخطيم:

أجالدهم يوم الحديقة حاسرا كأن يدي بالسيف مخراق لاعب

وقد تقدّم بيان الجلد قريباً، وانتصاب ثمانين كانتصاب المصادر، وجلدة منتصبة على التمييز، وجملة { وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً } معطوفة على "اجلدوا" أي: فاجمعوا لهم بين الأمرين: الجلد، وترك قبول الشهادة، لأنهم قد صاروا بالقذف غير عدول بل فسقة كما حكم الله به عليهم في آخر هذه الآية. واللام في لهم متعلقة بمحذوف هو: حال من شهادة ولو تأخرت عليها لكانت صفة لها، ومعنى { أَبَدًا }: ما داموا في الحياة. ثم بين سبحانه حكمهم بعد صدور القذف منهم، وإصرارهم عليه، وعدم رجوعهم إلى التوبة، فقال: { وَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْفَـٰسِقُونَ } وهذه جملة مستأنفة مقرّرة لما قبلها. والفسق: هو الخروج عن الطاعة، ومجاوزة الحدّ بالمعصية، وجوّز أبو البقاء أن تكون هذه الجملة في محل نصب على الحال.

ثم بين سبحانه أن هذا التأييد لعدم قبول شهادتهم هو مع عدم التوبة فقال { إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ } وهذه الجملة في محل نصب على الاستثناء، لأنه من موجب، وقيل: يجوز أن يكون في موضع خفض على البدل، ومعنى التوبة قد تقدّم تحقيقه، ومعنى { مِن بَعْدِ ذٰلِكَ }: من بعد اقترافهم لذنب القذف، ومعنى { وَأَصْلَحُواْ }: إصلاح أعمالهم التي من جملتها ذنب القذف، ومداركة ذلك بالتوبة، والانقياد للحدّ.

وقد اختلف أهل العلم في هذا الاستثناء هل يرجع إلى الجملتين قبله؟ وهي: جملة عدم قبول الشهادة، وجملة الحكم عليهم بالفسق، أم إلى الجملة الأخيرة؟ وهذا الاختلاف بعد اتفاقهم على أنه لا يعود إلى جملة الجلد بل يجلد التائب كالمصرّ، وبعد إجماعهم أيضاً على أن هذا الاستثناء يرجع إلى جملة الحكم بالفسق، فحلّ الخلاف هل يرجع إلى جملة عدم قبول الشهادة أم لا؟، فقال الجمهور: إن هذا الاستثناء يرجع إلى الجملتين، فإذا تاب القاذف قبلت شهادته، وزال عنه الفسق، لأن سبب ردّها هو ما كان متصفاً به من الفسق بسبب القذف، فإذا زال بالتوبة بالإجماع كانت الشهادة مقبولة. وقال القاضي شريح، وإبراهيم النخعي، والحسن البصري، وسعيد بن جبير، ومكحول، وعبد الرحمن بن زيد، وسفيان الثوري، وأبو حنيفة: إن هذا الاستثناء يعود إلى جملة الحكم بالفسق، لا إلى جملة عدم قبول الشهادة، فيرتفع بالتوبة عن القاذف وصف الفسق، ولا تقبل شهادته أبداً. وذهب الشعبي، والضحاك إلى التفصيل فقالا: لا تقبل شهادته، وإن تاب إلاّ أن يعترف على نفسه بأنه قد قال البهتان، فحينئذٍ تقبل شهادته. وقول الجمهور هو الحق، لأن تخصيص التقييد بالجملة الأخيرة دون ما قبلها مع كون الكلام واحداً في واقعة شرعية من متكلم واحد خلاف ما تقتضيه لغة العرب، وأولوية الجملة الأخيرة المتصلة بالقيد بكونه قيداً لها لا تنفي كونه قيداً لما قبلها، غاية الأمر، أن تقييد الأخيرة بالقيد المتصل بها أظهر من تقييد ما قبلها به، ولهذا كان مجمعاً عليه، وكونه أظهر لا ينافي قوله فيما قبلها ظاهراً. وقد أطال أهل الأصول الكلام في القيد الواقع بعد جمل بما هو معروف عند من يعرف ذلك الفنّ، والحق هو هذا، والاحتجاج بما وقع تارة من القيود عائداً إلى جميع الجمل التي قبله، وتارة إلى بعضها لا تقوم به حجة، ولا يصلح للاستدلال، فإنه قد يكون ذلك لدليل كما وقع هنا من الإجماع على عدم رجوع هذا الاستثناء إلى جملة الجلد. ومما يؤيد ما قررناه ويقوّيه أن المانع من قبول الشهادة، وهو الفسق المتسبب عن القذف قد زال، فلم يبق ما يوجب الردّ للشهادة.

واختلف العلماء في صورة توبة القاذف، فقال عمر ابن الخطاب، والشعبي، والضحاك، وأهل المدينة: إن توبته لا تكون إلاّ بأن يكذب نفسه في ذلك القذف الذي وقع منه، وأقيم عليه الحدّ بسبببه. وقالت فرقة منهم مالك، وغيره: إن توبته تكون بأن يحسن حاله، ويصلح عمله، ويندم على ما فرط منه، ويستغفر الله من ذلك، ويعزم على ترك العود إلى مثله. وإن لم يكذب نفسه، ولا رجع عن قوله. ويؤيد هذا الآيات والأحاديث الواردة في التوبة، فإنها مطلقة غير مقيدة بمثل هذا القيد.

وقد أجمعت الأمة على أن التوبة تمحو الذنب، ولو كان كفراً فتمحو ما هو دون الكفر بالأولى هكذا حكى الإجماع القرطبي. قال أبو عبيدة: الاستثناء يرجع إلى الجمل السابقة، وليس من رمى غيره بالزنا بأعظم جرماً من مرتكب الزنا، والزاني إذا تاب قبلت شهادته، لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، وإذا قبل الله التوبة من العبد كان العباد بالقبول أولى، مع أن مثل هذا الاستثناء موجود في مواضع من القرآن منها قوله: { إِنَّمَا جَزَاء ٱلَّذِينَ يُحَارِبُونَ ٱللَّهَ } إلى قوله: { { إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ } [المائدة: 33 ــ 34]. ولا شك أن هذا الاستثناء يرجع إلى الجميع. قال الزجاج: وليس القاذف بأشدّ جرماً من الكافر، فحقه إذا تاب وأصلح أن تقبل شهادته، قال: وقوله { أَبَدًا } أي: ما دام قاذفاً، كما يقال لا تقبل شهادة الكافر أبداً فإن معناه: ما دام كافراً. انتهى. وجملة { فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } تعليل لما تضمنه الاستثناء من عدم المؤاخدة للقاذف بعد التوبة، وصيرورته مغفوراً له، مرحوماً من الرحمٰن الرحيم، غير فاسق، ولا مردود الشهادة، ولا مرفوع العدالة.

ثم ذكر سبحانه بعد ذكره لحكم القذف على العموم حكم نوع من أنواع القذف، وهو قذف الزوج للمرأة التي تحته بعقد النكاح فقال { وَٱلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوٰجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَاء إِلاَّ أَنفُسُهُمْ } أي: لم يكن لهم شهداء يشهدون بما رموهنّ به من الزنا إلا أنفسهم بالرفع على البدل من شهداء. قيل: ويجوز النصب على خبر يكن. قال الزجاج: أو على الاستثناء على الوجه المرجوح { فَشَهَـٰدَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَـٰدَاتٍ } قرأ الكوفيون برفع أربع على أنها خبر لقوله { فَشَهَـٰدَةُ أَحَدِهِمْ } أي: فشهادة أحدهم التي تزيل عنه حدّ القذف أربع شهادات. وقرأ أهل المدينة، وأبو عمرو: "أربع" بالنصب على المصدر. ويكون { فَشَهَـٰدَةُ أَحَدِهِمْ } خبر مبتدأ محذوف أي: فالواجب شهادة أحدهم، أو مبتدأ محذوف الخبر أي: فشهادة أحدهم واجبة. وقيل: إن أربع منصوب بتقدير: فعليهم أن يشهد أحدهم أربع شهادات وقوله: { بِٱللَّهِ } متعلق بشهادة أو بشهادات، وجملة { إِنَّهُ لَمِنَ ٱلصَّـٰدِقِينَ } هي المشهود به، وأصله على أنه، فحذف الجار وكسرت إن، وعلق العامل عنها.

{ وَٱلْخَامِسَةَ } قرأ السبعة وغيرهم الخامسة بالرفع على الابتداء، وخبرها { أَنَّ لَعْنَةَ ٱللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ ٱلْكَـٰذِبِينَ } وقرأ أبو عبد الرحمن، وطلحة، وعاصم في رواية حفص "والخامسة" بالنصب على معنى وتشهد الشهادة الخامسة، ومعنى { إِن كَانَ مِنَ ٱلْكَـٰذِبِينَ } أي: فيما رماها به من الزنا. قرأ الجمهور بتشديد { أنّ } من قوله { أَن لَّعْنَةَ ٱللَّهِ } وقرأ نافع بتخفيفها، فعلى قراءة نافع يكون اسم أن ضمير الشأن، و{ لعنة الله } مبتدأ، و{ عليه } خبره، والجملة خبر أن، وعلى قراءة الجمهور تكون { لعنة الله } اسم أن، قال سيبويه: لا تخفف أنّ في الكلام، وبعدها الأسماء إلا وأنت تريد الثقيلة. وقال الأخفش: لا أعلم الثقيلة إلاّ أجود في العربية.

{ وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا ٱلْعَذَابَ } أي: عن المرأة، والمراد بالعذاب: الدنيوي، وهو الحدّ، وفاعل يدرأ قوله: { أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِٱللَّهِ } والمعنى: أنه يدفع عن المرأة الحدّ شهادتها أربع شهادات بالله: أن الزوج لَمِنَ ٱلْكَـٰذِبِينَ { وَٱلْخَامِسَةَ } بالنصب عطفاً على أربع أي: وتشهد الخامسة، كذلك قرأ حفص، والحسن، والسلمي، وطلحة، والأعمش، وقرأ الباقون بالرفع على الابتداء، وخبره { أَنَّ غَضَبَ ٱللَّهِ عَلَيْهَا إِن كَانَ } الزوج { مِنَ ٱلصَّـٰدِقِينَ } فيما رماها به من الزنا، وتخصيص الغضب بالمرأة للتغليظ عليها لكونها أصل الفجور ومادّته، ولأن النساء يكثرن اللعن في العادة، ومع استكثارهنّ منه لا يكون له في قلوبهنّ كبير موقع بخلاف الغضب. { وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ } جواب لولا محذوف. قال الزجاج: المعنى: ولولا فضل الله لنال الكاذب منهما عذاب عظيم. ثم بين سبحانه كثير توبته على من تاب، وعظيم حكمته البالغة فقال { وَأَنَّ ٱللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ } أي: يعود على من تاب إليه، ورجع عن معاصيه بالتوبة عليه، والمغفرة له، حكيم فيما شرع لعباده من اللعان، وفرض عليهم من الحدود.

وقد أخرج أبو داود في ناسخه، وابن المنذر، عن ابن عباس في قوله { إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ } قال: تاب الله عليهم من الفسوق، وأما الشهادة فلا تجوز. وأخرج سعيد بن منصور، وابن جرير، عن عمر ابن الخطاب، أنه قال لأبي بكرة: إن تبت قبلت شهادتك. وأخرج ابن مردويه عنه قال: توبتهم إكذابهم أنفسهم، فإن أكذبوا أنفسهم قبلت شهادتهم. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال: من تاب، وأصلح، فشهادته في كتاب الله تقبل. وفي الباب روايات عن التابعين. وقصة قذف المغيرة في خلافة عمر مروية من طرق معروفة.

وأخرج البخاري، والترمذي، وابن ماجه، عن ابن عباس: «أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بشريك بن سحماء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "البينة، وإلاّ حدّ في ظهرك" ، فقال: يا رسول الله إذا رأى أحدنا على امرأته رجلاً ينطلق يلتمس البينة؟ فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "البينة وإلاّ حدّ في ظهرك" ، فقال هلال: والذي بعثك بالحق إني لصادق، ولينزلنّ الله ما يبرىء ظهري من الحدّ، ونزل جبريل فأنزل عليه { وَٱلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوٰجَهُمْ } حتى بلغ { إِن كَانَ مِنَ ٱلصَّـٰدِقِينَ } فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليهما، فجاء هلال فشهد، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب؟" ثم قامت فشهدت، فلما كانت عند الخامسة وقفوها، وقالوا إنها موجبة، فتلكأت ونكصت حتى ظننا أنها ترجع، ثم قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم، فمضت، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "أبصروها، فإن جاءت به أكحل العينين سابغ الأليتين خدلج الساقين فهو لشريك بن سحماء" ، فجاءت به كذلك، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن" ، وأخرج هذه القصة أبو داود الطيالسي، وعبد الرزاق، وأحمد، وعبد بن حميد، وأبو داود، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، عن ابن عباس مطوّلة. وأخرجها البخاري، ومسلم، وغيرهما، ولم يسموا الرجل ولا المرأة. وفي آخر القصة: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال له: "اذهب فلا سبيل لك عليها" ، فقال: يا رسول الله مالي، قال: "لا مال لك، وإن كنت صدقت عليها، فهو بما استحللت من فرجها، وإن كنت كذبت عليها، فذاك أبعد لك منها" . وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما، عن سهل بن سعد قال: «جاء عويمر إلى عاصم بن عديّ، فقال: سل رسول الله صلى الله عليه وسلم أرأيت رجلاً وجد مع امرأته رجلا فقتله، أيقتل به أم كيف يصنع؟ فسأل عاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم: فعاب رسول الله صلى الله عليه وسلم السائل، فقال عويمر: والله لآتينّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لأسألنه، فأتاه، فوجده قد أنزل عليه، فدعا بهما، فلاعن بينهما. قال عويمر: إن انطلقت بها يا رسول الله لقد كذبت عليها، ففارقها قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصارت سنة للمتلاعنين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبصروها، فإن جاءت به أسحم أدعج العينين عظيم الأليتين، فلا أراه إلاّ قد صدق، وإن جاءت به أحيمر كأنه وحرة، فلا أراه إلاّ كاذباً" ، فجاءت به مثل النعت المكروه. وفي الباب أحاديث كثيرة، وفيما ذكرنا كفاية. وأخرج عبد الرزاق عن عمر بن الخطاب، وعليّ، وابن مسعود، قالوا: لا يجتمع المتلاعنان أبداً.