التفاسير

< >
عرض

وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا ٱلسَّبِيلَ
١٧
قَالُواْ سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَآ أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَآءَ وَلَـٰكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَآبَآءَهُمْ حَتَّىٰ نَسُواْ ٱلذِّكْرَ وَكَانُواْ قَوْماً بُوراً
١٨
فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلاَ نَصْراً وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً
١٩
وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ ٱلطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي ٱلأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً
٢٠
وَقَالَ ٱلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا ٱلْمَلاَئِكَةُ أَوْ نَرَىٰ رَبَّنَا لَقَدِ ٱسْتَكْبَرُواْ فِيۤ أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً
٢١
يَوْمَ يَرَوْنَ ٱلْمَلاَئِكَةَ لاَ بُشْرَىٰ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً
٢٢
وَقَدِمْنَآ إِلَىٰ مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً
٢٣
أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً
٢٤
-الفرقان

فتح القدير

قوله { وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ } الظرف منصوب بفعل مضمر أي: واذكر، وتعليق التذكير باليوم مع أن المقصود ذكر ما فيه للمبالغة والتأكيد كما مرّ مراراً. قرأ ابن محيصن وحميد وابن كثير وحفص ويعقوب وأبو عمرو في رواية الدوريّ: { يحشرهم } بالياء التحتية، واختارها أبو عبيد، وأبو حاتم لقوله في أوّل الكلام { كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ } والباقون بالنون على التعظيم ما عدا الأعرج، فإنه قرأ "نحشرهم" بكسر الشين في جميع القرآن. قال ابن عطية: هي قليلة في الاستعمال قوية في القياس، لأن يفعل بكسر العين في المتعدي أقيس من يفعل بضمها، وردّه أبو حبان باستواء المضموم والمكسور إلاّ أن يشتهر أحدهما، اتبع { وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ } معطوف على مفعول نحشر، وغلب غير العقلاء من الأصنام والأوثان، ونحوها على العقلاء من الملائكة والجن والمسيح تنبيهاً على أنها جميعاً مشتركة في كونها غير صالحة لكونها آلهة، أو لأن من يعبد من لا يعقل أكثر ممن يعبد من يعقل منها، فغلبت اعتباراً بكثرة من يعبدها، وقال مجاهد، وابن جريج: المراد: الملائكة والإنس والجن والمسيح وعزير بدليل خطابهم وجوابهم فيما بعد. وقال الضحاك، وعكرمة، والكلبي: المراد: الأصنام خاصة، وإنها وإن كانت لا تسمع ولا تتكلم، فإن الله سبحانه يجعلها يوم القيامة سامعة ناطقة، { فَيَقُولُ ءأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَـؤُلاَء أَمْ هُمْ ضَلُّوا ٱلسَّبِيلَ } قرأ ابن عامر، وأبو حيوة، وابن كثير، وحفص، "فنقول" بالنون، وقرأ الباقون بالياء التحتية، واختارها أبو عبيد كما اختار القراءة بها في نحشرهم، وكذا أبو حاتم. والاستفهام في قوله: { ءأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ } للتوبيخ والتقريع، والمعنى: أكان ضلالهم بسببكم وبدعوتكم لهم إلى عبادتكم، أم هم ضلوا عن سبيل الحق بأنفسهم لعدم التفكر فيما يستدل به على الحق، والتدبر فيما يتوصل به إلى الصواب؟

وجملة: { قَالُواْ سُبْحَـٰنَكَ } مستأنفة جواب سؤال مقدّر، ومعنى سُبْحَـٰنَكَ: التعجب مما قيل لهم لكونهم ملائكة، أو أنبياء معصومين، أو جمادات لا تعقل أي: تنزيهاً لك { مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَا أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاء } أي: ما صح، ولا استقام لنا أن نتخذ من دونك أولياء فنعبدهم، فكيف ندعو عبادك إلى عبادتنا نحن مع كوننا لا نعبد غيرك؟ والوليّ يطلق على التابع كما يطلق على المتبوع، هذا معنى الآية على قراءة الجمهور { نتخذ } مبنياً للفاعل. وقرأ الحسن وأبو جعفر: "نتخذ" مبنياً للمفعول أي: ما كان ينبغي لنا أن يتخذنا المشركون أولياء من دونك. قال أبو عمرو بن العلاء وعيسىٰ بن عمر: لا تجوز هذه القراءة، ولو كانت صحيحة لحذفت من الثانية. قال أبو عبيدة: لا تجوز هذه القراءة لأن الله سبحانه ذكر «من» مرتين، ولو كان كما قرأ لقال: أن نتخذ من دونك أولياء. وقيل: إن «من» الثانية زائدة، ثم حكي عنهم سبحانه: بأنهم بعد هذا الجواب ذكروا سبب ترك المشركين للإيمان، فقال: { وَلَـٰكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَءَابَاءهُمْ حَتَّىٰ نَسُواْ ٱلذّكْرَ } وفي هذا ما يدل على أنهم هم الذين ضلوا السبيل، ولم يضلهم غيرهم، والمعنى: ما أضللناهم، ولكنك يا رب متعتهم، ومتعت آباءهم بالنعم، ووسعت عليهم الرزق، وأطلت لهم العمر حتى غفلوا عن ذكرك ونسوا موعظتك والتدبر لكتابك والنظر في عجائب صنعك وغرائب مخلوقاتك. وقرأ أبو عيسىٰ الأسود القارىء: "ينبغي" مبنياً للمفعول. قال ابن خالويه: زعم سيبويه أنها لغة، وقيل: المراد بنسيان الذكر هنا: هو ترك الشكر { وَكَانُواْ قَوْماً بُوراً } أي: وكان هؤلاء الذين أشركوا بك، وعبدوا غيرك في قضائك الأزليّ قوماً بوراً أيْ: هلكى، مأخوذ من البوار، وهو الهلاك: يقال: رجل بائر وقوم بور، يستوي فيه الواحد والجماعة لأنه مصدر يطلق على القليل والكثير، ويجوز أن يكون جمع بائر. وقيل: البوار الفساد. يقال: بارت بضاعته أي: فسدت، وأمر بائر أي: فاسد، وهي لغة الأزد. وقيل: المعنى: لا خير فيهم، مأخوذ من بوار الأرض، وهو تعطيلها من الزرع، فلا يكون فيها خير، وقيل: إن البوار الكساد، ومنه بارت السلعة إذا كسدت.

{ فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ } في الكلام حذف، والتقدير: فقال الله عند تبري المعبودين مخاطباً للمشركين العابدين لغير الله فقد كذبوكم أي: فقد كذبكم المعبودون بما تقولون أي: في قولكم إنهم آلهة { فَمَا يَسْتَطِيعُونَ } أي: الآلهة { صَرْفاً } أي: دفعاً للعذاب عنكم بوجه من الوجوه، وقيل: حيلة { وَلاَ نَصْراً } أي: ولا يستطيعون نصركم، وقيل: المعنى: فما يستطيع هؤلاء الكفار لما كذبهم المعبودون صرفاً للعذاب الذي عذبهم الله به، ولا نصراً من الله، وهذا الوجه مستقيم على قراءة من قرأ: "تستطيعون" بالفوقية، وهي قراءة حفص، وقرأ الباقون بالتحتية، وقال ابن زيد: المعنى: فقد كذبوكم أيها المؤمنون هؤلاء الكفار بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا، فمعنى { بما تقولون }: ما تقولونه من الحق، وقال أبو عبيد: المعنى: فما يستطيعون لكم صرفاً عن الحق الذي هداكم الله إليه ولا نصراً لأنفسهم بما ينزل بهم من العذاب بتكذيبهم إياكم. وقرأ الجمهور { بما تقولون } بالتاء الفوقية على الخطاب. وحكى الفراء: أنه يجوز أن يقرأ: "فقد كذبوكم" مخففاً بما يقولون، أي: كذبوكم في قولهم، وكذا قرأ بالياء التحتية مجاهد، والبزي { وَمَن يَظْلِم مّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً } هذا وعيد لكل ظالم، ويدخل تحته الذين فيهم السياق دخولاً أولياً، والعذاب الكبير عذاب النار، وقرىء: "يذقه" بالتحتية، وهذه الآية وأمثالها مقيدة بعدم التوبة.

ثم رجع سبحانه إلى خطاب رسوله موضحاً لبطلان ما تقدّم من قوله: { يَأْكُلُ ٱلطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي ٱلأَسْوَاقِ } فقال: { وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ ٱلطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي ٱلأَسْوَاقِ } قال الزجاج: الجملة الواقعة بعد "إلاّ" صفة لموصوف محذوف، والمعنى: وما أرسلنا قبلك أحداً من المرسلين إلاّ آكلين وماشين، وإنما حذف الموصوف لأن في قوله: { مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ } دليلاً عليه، نظيره: { { وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } [الصافات: 164] أي: وما منا أحد. وقال الفراء: لا محل لها من الإعراب، وإنما هي صلة لموصول محذوف هو المفعول، والتقدير: إلاّ من أنهم، فالضمير في أنهم وما بعده راجع إلى من المقدّرة، ومثله قوله تعالى: { { وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا } [مريم: 71] أي: إلاّ من يردها، وبه قرأ الكسائي، قال الزجاج: هذا خطأ؛ لأنّ من الموصولة لا يجوز حذفها. وقال ابن الأنباري: إنها في محل نصب على الحال، والتقدير: إلاّ وأنهم، فالمحذوف عنده الواو، قرأ الجمهور: { إلا إنهم } بكسر إنّ لوجود اللام في خبرها كما تقرّر في علم النحو، وهو مجمع عليه عندهم. قال النحاس: إلاّ أن عليّ بن سليمان الأخفش حكى لنا عن محمد بن يزيد المبرد أنه قال: يجوز في إنّ هذه الفتح، وإن كان بعدها اللام، وأحسبه وهماً، وقرأ الجمهور: { يمشون } بفتح الياء، وسكون الميم، وتخفيف الشين. وقرأ عليّ وابن عوف وابن مسعود بضم الياء وفتح الميم وضم الشين المشدّدة، وهي بمعنى القراءة الأولى، قال الشاعر:

أمشي بأعطان المياه وأتقي قلائص منها صعبة وركوب

وقال كعب بن زهير:

منه تظل سباع الحيّ ضامزة ولا تمشي بواديه الأراجيل

{ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً } هذا الخطاب عامّ للناس، وقد جعل سبحانه بعض عبيده فتنة لبعض، فالصحيح فتنة للمريض، والغنيّ فتنة للفقير، وقيل: المراد بالبعض الأوّل: كفار الأمم، وبالبعض الثاني: الرسل. ومعنى الفتنة: الابتلاء والمحنة. والأوّل أولى، فإن البعض من الناس ممتحن بالبعض مبتلى به؛ فالمريض يقول: لم لم أجعل كالصحيح؟ وكذا كل صاحب آفة، والصحيح مبتلى بالمريض، فلا يضجر منه، ولا يحقره، والغني مبتلى بالفقير يواسيه، والفقير مبتلى بالغنيّ يحسده. ونحو هذا مثله، وقيل: المراد بالآية: أنه كان إذا أراد الشريف أن يسلم، ورأى الوضيع قد أسلم قبله أنف، وقال: لا أسلم بعده، فيكون له علي السابقة والفضل، فيقيم على كفره، فذلك افتتان بعضهم لبعض، واختار هذا الفراء، والزجاج. ولا وجه لقصر الآية على هذا، فإن هؤلاء إن كانوا سبب النزول، فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. ثم قال سبحانه بعد الإخبار بجعل البعض للبعض فتنة: { أَتَصْبِرُونَ } هذا الاستفهام للتقرير، وفي الكلام حذف تقديره، أم لا تصبرون؟ أي: أتصبرون على ما ترون من هذه الحال الشديدة، والابتلاء العظيم. قيل: موقع هذه الجملة الاستفهامية ها هنا موقع قوله: { أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } في قوله: { { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } [الملك: 2]، ثم وعد الصابرين بقوله: { وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً } أي: بكل من يصبر ومن لا يصبر، فيجازي كلاً منهما بما يستحقه. وقيل: معنى { أتصبرون }: اصبروا مثل قوله: { { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } [المائدة: 91] أي: انتهوا.

{ وَقَالَ ٱلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا } هذه المقالة من جملة شبههم التي قدحوا بها في النبوة، والجملة معطوفة على { وَقَالُواْ مَّالِ هَـٰذَا } أي: وقال المشركون الذين لا يبالون بلقاء الله كما في قول الشاعر:

لعمرك ما أرجو إذا كنت مسلما على أيّ جنب كان في الله مصرعي

أي: لا أبالي، وقيل: المعنى: لا يخافون لقاء ربهم كقول الشاعر:

إذا لسعته النحل لم يرج لسعها وخالفها في بيت نوب عوامل

أي: لم يخف، وهي لغة تهامة. قال الفراء وضع الرجاء موضع الخوف، وقيل: لا يأملون، ومنه قول الشاعر:

أترجو أمة قتلت حسينا شفاعة جدّه يوم الحساب

والحمل على المعنى الحقيقي أولى، فالمعنى: لا يأملون لقاء ما وعدنا على الطاعة من الثواب، ومعلوم أن من لا يرجو الثواب لا يخاف العقاب { لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا ٱلْمَلاَئِكَةُ } أي: هلا أنزلوا علينا، فيخبرونا أن محمداً صادق، أو هلا أنزلوا علينا رسلاً يرسلهم الله { أَوْ نَرَىٰ رَبَّنَا } عياناً، فيخبرنا بأن محمداً رسول، ثم أجاب سبحانه عن شبهتهم هذه، فقال { لَقَدِ ٱسْتَكْبَرُواْ فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً } أي: أضمروا الاستكبار عن الحق والعناد في قلوبهم كما في قوله: { { إِن فِى صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَّـا هُم بِبَـٰلِغِيهِ } [غافر: 56]، والعتوّ مجاوزة الحد في الطغيان، والبلوغ إلى أقصى غاياته، ووصفه بالكبر لكون التكلم بما تكلموا به من هذه المقالة الشنيعة في غاية الكبر والعظم، فإنهم لم يكتفوا بإرسال البشر حتى طلبوا إرسال الملائكة إليهم، بل جاوزوا ذلك إلى التخيير بينه وبين مخاطبة الله سبحانه، ورؤيته في الدنيا من دون أن يكون بينهم وبينه ترجمان، ولقد بلغ هؤلاء الرذالة بأنفسهم مبلغاً هي أحقر وأقل وأرذل من أن تكون من أهله، أو تعدّ من المستعدّين له، وهكذا من جهل قدر نفسه، ولم يقف عند حدّه، ومن جهلت نفسه قدره رأى غيره منه ما لا يرى.

وانتصاب { يَوْمَ يَرَوْنَ ٱلْمَلاَئِكَة } بفعل محذوف أي: واذكر يوم يرون الملائكة رؤية ليست على الوجه الذي طلبوه، والصورة التي اقترحوها، بل على وجه آخر، وهو يوم ظهورهم لهم عند الموت، أو عند الحشر، ويجوز أن يكون انتصاب هذا الظرف بما يدلّ عليه قوله { لاَ بُشْرَىٰ يَوْمَئِذٍ لّلْمُجْرِمِينَ } أي: يمنعون البشرى يوم يرون، أو لا توجد لهم بشرى فيه، فاعلم سبحانه بأن الوقت الذي يرون فيه الملائكة، وهو وقت الموت، أو يوم القيامة قد حرمهم الله البشرى. قال الزجاج: المجرمون في هذا الموضع الذين اجترموا الكفر بالله { وَيَقُولُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً } أي: ويقول الكفار عند مشاهدتهم للملائكة، حجراً محجوراً، وهذه كلمة كانوا يتكلمون بها عند لقاء عدوّ وهجوم نازلة يضعونها موضع الاستعاذة، يقال للرجل: أتفعل كذا؟ فيقول: حجراً محجوراً أي: حراماً عليك التعرّض لي. وقيل: إن هذا من قول الملائكة، أي: يقولون للكفار: حراماً محرّماً أن يدخل أحدكم الجنة، ومن ذلك قول الشاعر:

ألا أصبحت أسماء حجراً محرّما وأصبحت من أدنى حمومتها حماء

أي: أصبحت أسماء حراماً محرّماً، وقال آخر:

حنت إلى النخلة القصوى فقلت لها حجر حرام إلاّ تلك الدهاريس

وقد ذكر سيبويه في باب المصادر المنصوبة بأفعال متروك إظهارها هذه الكلمة، وجعلها من جملتها. { وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُوراً } هذا وعيد آخر، وذلك أنهم كانوا يعملون أعمالاً لها صورة الخير: من صلة الرحم، وإغاثة الملهوف، وإطعام الطعام وأمثالها، ولم يمنع من الإثابة عليها إلاّ الكفر الذي هم عليه، فمثلت حالهم وأعمالهم بحال قوم خالفوا سلطانهم، واستعصوا عليه، فقدم إلى ما معهم من المتاع، فأفسده، ولم يترك منها شيئاً، وإلاّ فلا قدوم ها هنا. قال الواحدي: معنى قدمنا: عمدنا وقصدنا، يقال: قدم فلان إلى أمر كذا إذا قصده أو عمده، ومنه قول الشاعر:

وقدم الخوارج الضلال إلى عباد ربهم فقالوا
إن دماءكم لنا حلال

وقيل: هو قدوم الملائكة أخبر به عن نفسه تعالى، والهباء واحده هباءة، والجمع أهباء. قال النضر بن شميل: الهباء: التراب الذي تطيره الريح كأنه دخان. وقال الزجاج: هو ما يدخل من الكوّة مع ضوء الشمس يشبه الغبار، وكذا قال الأزهري: والمنثور المفرق، والمعنى: أن الله سبحانه أحبط أعمالهم حتى صارت بمنزلة الهباء المنثور، لم يكتف سبحانه بتشبيه عملهم بالهباء حتى وصفه بأنه متفرّق متبدّد وقيل: إن الهباء: ما أذرته الرياح من يابس أوراق الشجر، وقيل: هو الماء المهراق. وقيل: الرماد. والأوّل هو الذي ثبت في لغة العرب، ونقله العارفون بها. ثم ميز سبحانه حال الأبرار من حال الفجار، فقال { أَصْحَـٰبُ ٱلْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً } أي: أفضل منزلاً في الجنة { وَأَحْسَنُ مَقِيلاً } أي: موضع قائلة، وانتصاب { مستقرًّا } على التمييز. قال الأزهري: القيلولة عند العرب: الاستراحة نصف النهار إذا اشتدّ الحرّ، وإن لم يكن مع ذلك يوم. قال النحاس: والكوفيون يجيزون: العسل أحلى من الخلّ.

وقد أخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله { وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ } الآية قال: عيسىٰ، وعزير، والملائكة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس: { قَوْماً بُوراً } قال: هلكى. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن الحسن في قوله: { وَمَن يَظْلِم مّنكُمْ } قال: هو الشرك. وأخرج ابن جرير عن ابن جريج قال: يشرك. وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة: { وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ ٱلطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي ٱلأسْوَاقِ } يقول: إن الرسل قبل محمد صلى الله عليه وسلم كانوا بهذه المنزلة يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق { وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً } قال: بلاء. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن الحسن: { وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً } قال: يقول الفقير: لو شاء الله لجعلني غنياً مثل فلان، ويقول السقيم: لو شاء الله لجعلني صحيحاً مثل فلان، ويقول الأعمى: لو شاء الله لجعلني بصيراً مثل فلان. وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله: { وَعَتَوْ عُتُوّاً كَبِيراً } قال: شدّة الكفر.

وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: { يَوْمَ يَرَوْنَ ٱلْمَلاَئِكَة } قال: يوم القيامة. وأخرج ابن أبي حاتم، عن عطية العوفيّ نحوه. وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم، عن مجاهد: { وَيَقُولُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً } قال: عوذاً معاذاً، الملائكة تقوله. وفي لفظ قال: حراماً محرّماً أن تكون البشرى في اليوم إلاّ للمؤمنين. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق عطية العوفيّ، عن أبي سعيد الخدري في قوله: { وَيَقُولُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً } قال: حراماً محرّماً أن نبشركم بما نبشر به المتقين. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحسن وقتادة: { وَيَقُولُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً } قالا: هي كلمة كانت العرب تقولها، كان الرجل إذا نزلت به شدّة قال: حجراً محجوراً حراماً محرّماً.

وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد { وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ } قال: عمدنا إلى ما عملوا من خير ممن لا يتقبل منه في الدنيا. وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن عليّ بن أبي طالب في قوله: { هَبَاءً مَّنثُوراً } قال: الهباء شعاع الشمس الذي يخرج من الكوّة. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عليّ بن أبي طالب قال: الهباء وهيج الغبار يسطع، ثم يذهب، فلا يبقي منه شيء، فجعل الله أعمالهم كذلك. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: الهباء الذي يطير من النار إذا اضطرمت يطير منها الشرر، فإذا وقع لم يكن شيئاً. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه قال: هو ما تسفي الريح وتبثه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضاً قال: هو الماء المهراق. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضاً: { خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً } قال: في الغرف من الجنة. وأخرج ابن المبارك في الزهد، وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن مسعود قال: لا ينصرف النهار من يوم القيامة حتى يقيل هؤلاء وهؤلاء، ثم قرأ: { أَصْحَـٰبُ ٱلْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً }.