التفاسير

< >
عرض

تَبَارَكَ ٱلَّذِي نَزَّلَ ٱلْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً
١
ٱلَّذِي لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً
٢
وَٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ آلِهَةً لاَّ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلاَ حَيَـاةً وَلاَ نُشُوراً
٣
وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِنْ هَـٰذَا إِلاَّ إِفْكٌ ٱفْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَآءُوا ظُلْماً وَزُوراً
٤
وَقَالُوۤاْ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ ٱكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً
٥
قُلْ أَنزَلَهُ ٱلَّذِي يَعْلَمُ ٱلسِّرَّ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً
٦
-الفرقان

فتح القدير

تكلم سبحانه في هذه السورة على التوحيد لأنه أقدم وأهمّ، ثم في النبوّة لأنها الواسطة، ثم في المعاد لأنه الخاتمة. وأصل تبارك مأخوذ من البركة، وهي: النماء والزيادة، حسية كانت أو عقلية. قال الزجاج: تبارك تفاعل، من البركة. قال: ومعنى البركة: الكثرة من كل ذي خير، وقال الفراء: إن تبارك وتقدّس في العربية واحد، ومعناهما: العظمة. وقيل: المعنى تبارك عطاؤه أي: زاد وكثر. وقيل: المعنى دام وثبت. قال النحاس: وهذا أولاها في اللغة، والاشتقاق من برك الشيء إذا ثبت، ومنه برك الجمل، أي: دام وثبت. واعترض ما قاله الفراء: بأن التقديس إنما هو من الطهارة، وليس من ذا في شيء. قال العلماء: هذه اللفظة لا تستعمل إلاّ لله سبحانه، ولا تستعمل إلاّ بلفظ الماضي، والفرقان القرآن، وسمي فرقاناً: لأنه يفرق بين الحقّ والباطل بأحكامه، أو بين المحق والمبطل، والمراد بعبده: نبينا صلى الله عليه وسلم. ثم علل التنزيل: { لِيَكُونَ لِلْعَـٰلَمِينَ نَذِيراً } فإن النذارة هي الغرض المقصود من الإنزال، والمراد محمد صلى الله عليه وسلم، أو الفرقان، والمراد بالعالمين هنا الإنس والجنّ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل إليهما، ولم يكن غيره من الأنبياء مرسلاً إلى الثقلين، والنذير: المنذر أي: ليكون محمد صلى الله عليه وسلم منذراً، أو ليكون إنزال القرآن منذراً، ويجوز أن يكون النذير هنا بمعنى المصدر للمبالغة أي: ليكون إنزاله إنذاراً، أو ليكون محمد إنذاراً، وجعل الضمير للنبيّ صلى الله عليه وسلم أولى، لأن صدور الإنذار منه حقيقة، ومن القرآن مجاز، والحمل على الحقيقة أولى، ولكونه أقرب مذكور. وقيل: إن رجوع الضمير إلى الفرقان أولى لقوله تعالى: { { إِنَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْءانَ يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ } [الإسراء: 9]،

ثم إنه سبحانه وصف نفسه بصفات أربع: الأولى { لَّهُ مُلْكُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ } دون غيره، فهو المتصرف فيهما، ويحتمل: أن يكون الموصول الآخر بدلاً، أو بياناً للموصول الأوّل، والوصف أولى، وفيه تنبيه على افتقار الكلّ إليه في الوجود، وتوابعه من البقاء، وغيره، والصفة الثانية { وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً }، وفيه ردّ على النصارى، واليهود. والصفة الثالثة: { وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِي ٱلْمُلْكِ }، وفيه ردّ على طوائف المشركين من الوثنية، والثنوية، وأهل الشرك الخفيّ. والصفة الرابعة: { وَخَلَقَ كُلَّ شَيْء } من الموجودات { فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً } أي: قدّر كل شيء مما خلق بحكمته على ما أراد، وهيأه لما يصلح له. قال الواحدي: قال المفسرون: قدر له تقديراً من الأجل والرزق، فجرت المقادير على ما خلق. وقيل: أريد بالخلق هنا مجرّد الإحداث، والإيجاد مجازاً من غير ملاحظة معنى التقدير، وإن لم يخل عنه في نفس الأمر، فيكون المعنى: أوجد كل شيء فقدّره لئلا يلزم التكرار. ثم صرّح سبحانه بتزييف مذاهب عبدة الأوثان، فقال { وَٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ ءَالِهَةً }، والضمير في { اتخذوا } للمشركين، وإن لم يتقدّم لهم ذكر، لدلالة نفي الشريك عليهم أي: اتخذ المشركون لأنفسهم متجاوزين الله آلهة { لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا }، والجملة في محل نصب صفة لآلهة أي: لا يقدرون على خلق شيء من الأشياء، وغلب العقلاء على غيرهم، لأن في معبودات الكفار الملائكة، وعزير والمسيح { وَهُمْ يُخْلَقُونَ } أي: يخلقهم الله سبحانه. وقيل: عبر عن الآلهة بضمير العقلاء جرياً على اعتقاد الكفار أنها تضرّ وتنفع. وقيل: معنى { وَهُمْ يُخْلَقُونَ }: أن عبدتهم يصوّرونهم. ثم لما وصف سبحانه نفسه بالقدرة الباهرة وصف آلهة المشركين بالعجز البالغ، فقال: { وَلاَ يَمْلِكُونَ لأِنفُسِهِمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً } أي: لا يقدرون على أن يجلبوا لأنفسهم نفعاً، ولا يدفعوا عنها ضرراً، وقدّم ذكر الضرّ، لأن دفعه أهمّ من جلب النفع، وإذا كانوا بحيث لا يقدرون على الدفع والنفع فيما يتعلق بأنفسهم، فكيف يملكون ذلك لمن يعبدهم؟ ثم زاد في بيان عجزهم، فنصص على هذه الأمور، فقال: { وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلاَ حَيَـاةً وَلاَ نُشُوراً } أي: لا يقدرون على إماتة الأحياء، ولا إحياء الموتى، ولا بعثهم من القبور، لأن النشور الإحياء بعد الموت، يقال: أنشر الله الموتى، فنشروا، ومنه قول الأعشى:

حتى يقول الناس مما رأوا يا عجباً للميت الناشر

ولما فرغ من بيان التوحيد، وتزييف مذاهب المشركين شرع في ذكر شبه منكري النبوّة، فالشبهة الأولى ما حكاه عنهم بقوله { وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَـٰذَا إِلاَّ إِفْكٌ } أي: كذب { ٱفْتَرَاهُ } أي: اختلقه محمد صلى الله عليه وسلم، والإشارة بقوله: { هَـٰذَا } إلى القرآن { وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ } أي: على الاختلاق { قَوْمٌ ءاخَرُونَ } يعنون من اليهود. قيل: وهم أبو فكيهة يسار مولى الحضرمي، وعداس مولى حويطب بن عبد العزى، وجبر مولى ابن عامر، وكان هؤلاء الثلاثة من اليهود، وقد مرّ الكلام على مثل هذا في النحل. ثم ردّ الله سبحانه عليهم، فقال: { فَقَدْ جَاءُوا ظُلْماً وَزُوراً } أي: فقد قالوا ظلماً هائلاً عظيماً، وكذباً ظاهراً، وانتصاب { ظلماً } بـ { جاءُوا }، فإن جاء قد يستعمل استعمال أتى، ويعدّى تعديته. وقال الزجاج: إنه منصوب بنزع الخافض، والأصل جاءُوا بظلم. وقيل: هو منتصب على الحال، وإنما كان ذلك منهم ظلماً، لأنهم نسبوا القبيح إلى من هو مبرأ منه، فقد وضعوا الشيء في غير موضعه، وهذا هو الظلم، وأما كون ذلك منهم زوراً، فظاهر لأنهم قد كذبوا في هذه المقالة.

ثم ذكر الشبهة الثانية، فقال { وَقَالُواْ أَسَـٰطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ } أي: أحاديث الأوّلين، وما سطروه من الأخبار، قال الزجاج: واحد الأساطير أسطورة مثل أحاديث وأحدوثة، وقال غيره: أساطير جمع أسطار مثل أقاويل وأقوال { ٱكْتَتَبَهَا } أي: استكتبها، أو كتبها لنفسه، ومحل اكتتبها النصب على أنه حال من أساطير، أو محله الرفع على أنه خبر ثانٍ، لأن أساطير مرتفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي: هذه أساطير الأوّلين اكتتبها، ويجوز أن يكون أساطير مبتدأ، واكتتبها خبره، ويجوز أن يكون معنى اكتتبها جمعها من الكتب، وهو: الجمع، لا من الكتابة بالقلم، والأوّل أولى. وقرأ طلحة "اكتتبها" مبنياً للمفعول، والمعنى: اكتتبها له كاتب، لأنه كان أمياً لا يكتب، ثم حذفت اللام، فأفضى الفعل إلى الضمير، فصار اكتتبها إياه، ثم بنى الفعل للضمير الذي هو إياه، فانقلب مرفوعاً مستتراً بعد أن كان منصوباً بارزاً، كذا قال في الكشاف، واعترضه أبو حيان { فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ } أي: تلقى عليه تلك الأساطير بعد ما اكتتبها، ليحفظها من أفواه من يمليها عليه من ذلك المكتتب لكونه أمياً لا يقدر على أن يقرأها من ذلك المكتوب بنفسه، ويجوز: أن يكون المعنى، اكتتبها: أراد اكتتابها { فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ } لأنه يقال: أمليت عليه، فهو يكتب { بُكْرَةً وَأَصِيلاً } غدوة وعشياً: كأنهم قالوا: إن هؤلاء يعلمون محمداً طرفي النهار، وقيل: معنى بكرة وأصيلاً: دائماً في جميع الأوقات.

فأجاب سبحانه عن هذه الشبهة بقوله { قُلْ أَنزَلَهُ ٱلَّذِى يَعْلَمُ ٱلسّرَّ فِي ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ } أي: ليس ذلك مما يفترى ويفتعل بإعانة قوم، وكتابة آخرين من الأحاديث الملفقة، وأخبار الأوّلين، بل هو أمر سماويّ أنزله الذي يعلم كلّ شيء لا يغيب عنه شيء من الأشياء، فلهذا عجزتم عن معارضته، ولم تأتوا بسورة منه، وخصّ السرّ للإشارة إلى انطواء ما أنزله سبحانه على أسرار بديعة لا تبلغ إليها عقول البشر، والسرّ: الغيب أي: يعلم الغيب الكائن فيهما، وجملة: { إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } تعليل لتأخير العقوبة أي: إنكم وإن كنتم مستحقين لتعجيل العقوبة بما تفعلونه من الكذب على رسوله، والظلم له، فإنه لا يعجل عليكم بذلك، لأنه كثير المغفرة والرحمة.

وقد أخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس: { تَبَـٰرَكَ } تفاعل من البركة. وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: { وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ } قال: يهود { فَقَدْ جَاءُوا ظُلْماً وَزُوراً } قال: كذباً. وأخرج عبد ابن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن قتادة في قوله: { تَبَارَكَ ٱلَّذِى نَزَّلَ ٱلْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ } هو: القرآن فيه حلاله وحرامه وشرائعه ودينه، وفرّق الله بين الحق، والباطل { لِيَكُونَ لِلْعَـٰلَمِينَ نَذِيراً } قال: بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم نذيراً من الله، لينذر الناس بأس الله، ووقائعه بمن خلا قبلكم { وَخَلَقَ كُلَّ شَيْء فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً } قال: بين لكل شيء من خلقه صلاحه، وجعل ذلك بقدر معلوم { وَٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ ءالِهَةً } قال: هي الأوثان التي تعبد من دون الله { لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ } وهو الله الخالق الرازق، وهذه الأوثان تخلق ولا تخلق شيئاً، ولا تضرّ ولا تنفع، ولا تملك موتاً ولا حياة ولا نشوراً يعني: بعثاً { وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } هذا قول مشركي العرب { إِنْ هَـٰذَا إِلاَّ إِفْكٌ } هو الكذب { ٱفْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ } أي: على حديثه هذا، وأمره { أَسَـٰطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ } كذب الأوّلين، وأحاديثهم.