التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَآ إِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ
٤٥
قَالَ يٰقَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِٱلسَّيِّئَةِ قَبْلَ ٱلْحَسَنَةِ لَوْلاَ تَسْتَغْفِرُونَ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ
٤٦
قَالُواْ ٱطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ ٱللَّهِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ
٤٧
وَكَانَ فِي ٱلْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ يُصْلِحُونَ
٤٨
قَالُواْ تَقَاسَمُواْ بِٱللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ
٤٩
وَمَكَرُواْ مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ
٥٠
فَٱنظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ
٥١
فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوۤاْ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ
٥٢
وَأَنجَيْنَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ
٥٣
-النمل

فتح القدير

قوله: { وَلَقَدْ أَرْسَلنَا } معطوف على قوله:{ وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا دَاوُودُ } واللام هي الموطئة للقسم، وهذه القصة من جملة بيان قوله: { وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى ٱلْقُرْءانَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ } و { صَـٰلِحاً } عطف بيان، و { أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ } تفسير للرسالة، وأن هي المفسرة، ويجوز أن تكون مصدرية أي بأن اعبدوا الله، و"إذا" في { فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ } هي الفجائية أي ففاجئوا التفرق، والاختصام، والمراد بـ { الفريقان }: المؤمنون منهم والكافرون. ومعنى الاختصام: أن كلّ فريق يخاصم على ما هو فيه، ويزعم أن الحقّ معه، وقيل: إن الخصومة بينهم في صالح هل هو مرسل أم لا؟ وقيل: أحد الفريقين صالح، والفريق الآخر جميع قومه، وهو ضعيف.

{ قَالَ يٰقَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِٱلسَّيّئَةِ قَبْلَ ٱلْحَسَنَةِ } أي قال صالح للفريق الكافر منهم منكراً عليهم: لم تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة؟ قال مجاهد: بالعذاب قبل الرحمة. والمعنى: لم تؤخرون الإيمان الذي يجلب إليكم الثواب وتقدّمون الكفر الذي يجلب إليكم العقوبة؟ وقد كانوا لفرط كفرهم يقولون: ائتنا يا صالح بالعذاب { لَوْلاَ تَسْتَغْفِرُونَ ٱللَّهَ } هلا تستغفرون الله وتتوبون إليه من الشرك { لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } رجاء أن ترحموا أو كي ترحموا فلا تعذبوا، فإن استعجال الخير أولى من استعجال الشرّ، ووصف العذاب بأنه سيئة مجازاً، إما لأن العقاب من لوازمه، أو لأنه يشبهه في كونه مكروهاً، فكان جوابهم عليه بعد هذا الإرشاد الصحيح، والكلام اللين أنهم { قَالُواْ ٱطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ } أصله تطيرنا، وقد قرىء بذلك، والتطير: التشاؤم أي تشاءمنا منك وبمن معك ممن أجابك ودخل في دينك، وذلك لأنه أصابهم قحط فتشاءموا بصالح، وقد كانت العرب أكثر الناس طيرة وأشقاهم بها، وكانوا إذا أرادوا سفراً أو أمراً من الأمور نفروا طائراً من وكره فإن طار يمنة ساروا، وفعلوا ما عزموا عليه، وإن طار يسرة تركوا ذلك فلما قالوا ذلك قَال لهم صالح: { طَائِرُكُمْ عِندَ ٱللَّهِ } أي ليس ذلك بسبب الطير الذي تتشاءمون به، بل سبب ذلك عند الله، وهو ما يقدّره عليكم، والمعنى: أن الشؤم الذي أصابكم هو من عند الله بسبب كفركم، وهذا كقوله تعالى: { { يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَىٰ وَمَن مَّعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ ٱللَّهِ } [الأعراف: 131]. ثم أوضح لهم سبب ما هم فيه بأوضح بيان، فقال: { بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ } أي تمتحنون، وتختبرون وقيل: تعذبون بذنوبكم، وقيل: يفتنكم غيركم، وقيل: يفتنكم الشيطان بما تقعون فيه من الطيرة، أو بما لأجله تطيرون، فأضرب عن ذكر الطائر إلى ما هو السبب الداعي إليه.

{ وَكَانَ فِي ٱلْمَدِينَةِ } التي فيها صالح، وهو الحجر { تِسْعَةُ رَهْطٍ } أي تسعة رجال من أبناء الأشراف، والرهط: اسم للجماعة، فكأنهم كانوا رؤساء يتبع كلّ واحد منهم جماعة، والجمع أرهط وأراهط، وهؤلاء التسعة هم أصحاب قدار عاقر الناقة، ثم وصف هؤلاء بقوله: { يُفْسِدُونَ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ يُصْلِحُونَ } أي شأنهم وعملهم الفساد في الأرض الذي لا يخالطه صلاح، وقد اختلف في أسماء هؤلاء التسعة اختلافاً كثيراً لا حاجة إلى التطويل بذكره. { قَالُواْ تَقَاسَمُواْ بِٱللَّهِ } أي قال بعضهم لبعض: احلفوا بالله، هذا على أن { تقاسموا } فعل أمر، ويجوز أن يكون فعلاً ماضياً مفسراً لقالوا، كأنه قيل: ما قالوا؟ فقال: تقاسموا، أو يكون حالاً على إضمار قد أي قالوا ذلك متقاسمين، وقرأ ابن مسعود: "يفسدون في الأرض ولا يصلحون تقاسموا بالله" وليس فيها قالوا، واللام في { لَنُبَيّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ } جواب القسم أي لنأتينه بغتة في وقت البيات، فنقتله وأهله { ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيّهِ } قرأ الجمهور بالنون للمتكلم في { لنبيتنه }، وفي { لنقولن }، واختار هذه القراءة أبو حاتم. وقرأ حمزة والكسائي بالفوقية فيهما على خطاب بعضهم لبعضهم، واختار هذه القراءة أبو عبيد، وقرأ مجاهد وحميد بالتحتية فيهما، والمراد بوليّ صالح: رهطه { مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ } أي ما حضرنا قتلهم، ولا ندري من قتله، وقتل أهله، ونفيهم لشهودهم لمكان الهلاك يدلّ على نفي شهودهم لنفس القتل بالأولى، وقيل: إن المهلك بمعنى الإهلاك، وقرأ حفص والسلمي مهلك بفتح الميم واللام، وقرأ أبو بكر، والمفضل بفتح الميم، وكسرها { وِإِنَّا لَصَـٰدِقُونَ } فيما قلناه. قال الزجاج: وكان هؤلاء النفر تحالفوا أن يبيتوا صالحاً وأهله، ثم ينكروا عند أوليائه أنهم ما فعلوا ذلك، ولا رأوه، وكان هذا مكراً منهم، ولهذا قال الله سبحانه: { وَمَكَرُواْ مَكْراً } أي بهذه المحالفة { وَمَكَرْنَا مَكْراً } جازيناهم بفعلهم فأهلكناهم { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } بمكر الله بهم.

{ فَٱنظُرْ كَيْفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ مَكْرِهِمْ } أي انظر ما انتهى إليه أمرهم الذي بنوه على المكر، وما أصابهم بسببه { أَنَّا دَمَّرْنَـٰهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ } قرأ الجمهور بكسر همزة أنا، وقرأ حمزة والكسائي والأعمش والحسن وابن أبي إسحاق وعاصم بفتحها، فمن كسر جعله استئنافاً. قال الفراء، والزجاج: من كسر استأنف، وهو يفسر به ما كان قبله. كأنه جعله تابعاً للعاقبة، كأنه قال: العاقبة إنا دمرناهم، وعلى قراءة الفتح يكون التقدير: بأنا دمرناهم أو لأنا دمرناهم، وكان تامة وعاقبة فاعل لها، أو يكون بدلاً من عاقبة، أو يكون خبر مبتدأ محذوف أي هي أنا دمرناهم، ويجوز أن تكون كان ناقصة، وكيف خبرها، ويجوز أن يكون خبرها أنا دمرنا. قال أبو حاتم: وفي حرف أبيّ: "أن دمرناهم". والمعنى في الآية: أن الله دمّر التسعة الرهط المذكورين، ودمر قومهم الذين لم يكونوا معهم عند مباشرتهم لذلك، ومعنى التأكيد بأجمعين: أنه لم يشذ منهم أحد ولا سلم من العقوبة فرد من أفرادهم.

وجملة: { فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً } مقرّرة لما قبلها. قرأ الجمهور: { خاوية } بالنصب على الحال. قال الزجاج: المعنى: فانظر إلى بيوتهم حال كونها خاوية، وكذا قال الفراء، والنحاس: أي خالية عن أهلها خراباً ليس بها ساكن. وقال الكسائي وأبو عبيدة: نصب خاوية على القطع. والأصل فتلك بيوتهم الخاوية، فلما قطع منها الألف، واللام نصبت كقوله: { { وَلَهُ ٱلدّينُ وَاصِبًا } [النحل: 52]. وقرأ عاصم بن عمر ونصر بن عاصم والجحدري وعيسى بن عمر برفع { خاوية } على أنه خبر اسم الإشارة، وبيوتهم بدل، أو عطف بيان، أو خبر لاسم الإشارة، وخاوية خبر آخر، والباء في: { بِمَا ظَلَمُواْ } للسببية أي بسبب ظلمهم { إِنَّ فِي ذَلِكَ } التدمير، والإهلاك { لآيَةً } عظيمة { لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } أي يتصفون بالعلم بالأشياء. { وَأَنجَيْنَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ } وهم صالح ومن آمن به { وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } الله ويخافون عذابه.

وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس: { طَائِرُكُمْ } قال: مصائبكم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في قوله: { وَكَانَ فِي ٱلْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ } قال: هم الذين عقروا الناقة، وقالوا حين عقروها: نبيت صالحاً وأهله فنقتلهم، ثم نقول لأولياء صالح: ما شهدنا من هذا شيئاً، وما لنا به علم فدمرهم الله أجمعين.