التفاسير

< >
عرض

وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ ٱلْوَارِثِينَ
٥٨
وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ ٱلْقُرَىٰ حَتَّىٰ يَبْعَثَ فِيۤ أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي ٱلْقُرَىٰ إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ
٥٩
وَمَآ أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ ٱللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ
٦٠
أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاَقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ مِنَ ٱلْمُحْضَرِينَ
٦١
وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ ٱلَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ
٦٢
قَالَ ٱلَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلْقَوْلُ رَبَّنَا هَـٰؤُلاۤءِ ٱلَّذِينَ أَغْوَيْنَآ أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَآ إِلَيْكَ مَا كَانُوۤاْ إِيَّانَا يَعْبُدُونَ
٦٣
وَقِيلَ ٱدْعُواْ شُرَكَآءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ وَرَأَوُاْ ٱلْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُواْ يَهْتَدُونَ
٦٤
وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَآ أَجَبْتُمُ ٱلْمُرْسَلِينَ
٦٥
فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ ٱلأَنبَـآءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لاَ يَتَسَآءَلُونَ
٦٦
فَأَمَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَعَسَىٰ أَن يَكُونَ مِنَ ٱلْمُفْلِحِينَ
٦٧
وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ سُبْحَانَ ٱللَّهِ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ
٦٨
وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ
٦٩
وَهُوَ ٱللَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ ٱلْحَمْدُ فِي ٱلأُولَىٰ وَٱلآخِرَةِ وَلَهُ ٱلْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
٧٠
-القصص

فتح القدير

قوله { وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ } أي من أهل قرية كانوا في خفض عيش ودعة ورخاء، فوقع منهم البطر، فأهلكوا. قال الزجاج: البطر الطغيان عند النعمة. قال عطاء: عاشوا في البطر فأكلوا رزق الله وعبدوا الأصنام. قال الزجاج، والمازني: معنى { بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا }: بطرت في معيشتها، فلما حذفت «في» تعدّى الفعل كقوله: { { وَٱخْتَارَ مُوسَىٰ قَوْمَهُ } [الأعراف: 155]. وقال الفراء: هو منصوب على التفسير كما تقول: أبطرك مالك وبطرته، ونظيره عنده قوله تعالى: { { إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ } [البقرة: 130] ونصب المعارف على التمييز غير جائز عند البصريين؛ لأن معنى التفسير: أن تكون النكرة دالة على الجنس. وقيل: إن معيشتها منصوبة ببطرت على تضمينه معنى: جهلت { فَتِلْكَ مَسَـٰكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً } أي لم يسكنها أحد بعدهم إلاّ زمناً قليلاً، كالذي يمرّ بها مسافراً فإنه يلبث فيها يوماً أو بعض يوم، أو لم يبق من يسكنها فيها إلاّ أياماً قليلة لشؤم ما وقع فيها من معاصيهم. وقيل: إن الاستثناء يرجع إلى المساكن، أي لم تسكن بعد هلاك أهلها إلاّ قليلاً من المساكن، وأكثرها خراب، كذا قال الفراء، وهو قول ضعيف { وَكُنَّا نَحْنُ ٱلْوٰرِثِينَ } منهم لأنهم لم يتركوا وارثاً يرث منازلهم وأموالهم، ومحلّ جملة: { لَمْ تُسْكَن } الرفع على أنها خبر ثان لاسم الإشارة، ويجوز أن تكون في محل نصب على الحال.

{ وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ ٱلْقُرَىٰ حَتَّىٰ يَبْعَثَ فِي أُمّهَا رَسُولاً يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءايَـٰتِنَا } أي وما صحّ، ولا استقام أن يكون الله مهلك القرى الكافرة، أي الكافر أهلها حتى يبعث في أمها رسولاً ينذرهم، ويتلوا عليهم آيات الله الناطقة بما أوجبه الله عليهم، وما أعدّه من الثواب للمطيع والعقاب للعاصي، ومعنى { أُمّهَا }: أكبرها وأعظمها، وخص الأعظم منها بالبعثة إليها؛ لأن فيها أشراف القوم، وأهل الفهم والرأي، وفيها الملوك والأكابر، فصارت بهذا الاعتبار كالأم لما حولها من القرى. وقال الحسن: أمّ القرى أوّلها. وقيل: المراد بأمّ القرى هنا: مكة، كما في قوله: { { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ } [آل عمران: 96] الآية، وقد تقدّم بيان ما تضمنته هذه الآية في آخر سورة يوسف، وجملة: { يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءايَـٰتِنَا } في محل نصب على الحال، أي تالياً عليهم ومخبراً لهم أن العذاب سينزل بهم إن لم يؤمنوا { وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي ٱلْقُرَىٰ إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَـٰلِمُونَ } هذه الجملة معطوفة على الجملة التي قبلها، والاستثناء مفرّغ من أعمّ الأحوال، أي وما كنا مهلكين لأهل القرى بعد أن نبعث إلى أمها رسولاً يدعوهم إلى الحق إلاّ حال كونهم ظالمين قد استحقوا الإهلاك لإصرارهم على الكفر بعد الإعذار إليهم، وتأكيد الحجة عليهم كما في قوله سبحانه: { { وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ ٱلْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ } [هود: 117].

ثم قال سبحانه: { وَمَا أُوتِيتُم مّن شَيْء فَمَتَـٰعُ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتُهَا } الخطاب لكفار مكة، أي وما أعطيتم من شيء من الأشياء فهو متاع الحياة الدنيا تتمتعون به مدّة حياتكم أو بعض حياتكم ثم تزولون عنه، أو يزول عنكم، وعلى كل حال فذلك إلى فناء، وانقضاء { وَمَا عِندَ ٱللَّهِ } من ثوابه وجزائه { خَيْرٌ } من ذلك الزائل الفاني؛ لأنه لذّة خالصة عن شوب الكدر { وَأَبْقَىٰ } لأنه يدوم أبداً، وهذا ينقضي بسرعة { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } أن الباقي أفضل من الفاني، وما فيه لذّة خالصة غير مشوبة أفضل من اللذات المشوبة بالكدر المنغصة بعوارض البدن والقلب، وقرىء بنصب: "متاع" على المصدرية، أي: فتمتعون متاع الحياة، قرأ أبو عمرو: "يعقلون" بالتحتية، وقرأ الباقون بالفوقية على الخطاب وقراءتهم أرجح لقوله: { وَمَا أُوتِيتُم }.

{ أَفَمَن وَعَدْنَـٰهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاَقِيهِ } أي وعدناه بالجنة، وما فيها من النعم التي لا تحصى فهو لاقيه، أي مدركه لا محالة فإن الله لا يخلف الميعاد { كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَـٰعَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا } فأعطي منها بعض ما أراد مع سرعة زواله، وتنغيصه { ثُمَّ هُوَ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ مِنَ ٱلْمُحْضَرِينَ } هذا معطوف على قوله: { مَّتَّعْنَاهُ } داخل معه في حيز الصلة مؤكد لإنكار التشابه، ومقرّر له، والمعنى: ثم هذا الذي متعناه هو يوم القيامة من المحضرين النار، وتخصيص المحضرين بالذين أحضروا للعذاب اقتضاه المقام، والاستفهام للإنكار، أي ليس حالهما سواء، فإن الموعود بالجنة لا بدّ أن يظفر بما وعد به مع أنه لا يفوته نصيبه من الدنيا، وهذا حال المؤمن. وأما حال الكافر فإنه لم يكن معه إلاّ مجرّد التمتيع بشيء من الدنيا يستوي فيه هو والمؤمن، وينال كل واحد منهما حظه منه، وهو صائر إلى النار، فهل يستويان؟ قرأ الجمهور: { ثم هو } بضم الهاء، وقرأ الكسائي وقالون بسكون الهاء إجراء لـ { ثم } مجرى الواو، والفاء.

وانتصاب «يوم» في قوله: { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ } بالعطف على يوم القيامة، أو بإضمار اذكر، أي يوم ينادي الله سبحانه هؤلاء المشركين { فَيَقُولُ } لهم: { أَيْنَ شُرَكَائِيَ ٱلَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } أنهم ينصرونكم ويشفعون لكم، ومفعولا يزعمون محذوفان، أي تزعمونهم شركائي لدلالة الكلام عليهما { قَالَ ٱلَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلْقَوْلُ } أي حقت عليهم كلمة العذاب، وهم رؤساء الضلال الذين اتخذوهم أرباباً من دون الله، كذا قال الكلبي. وقال قتادة: هم الشياطين { رَبَّنَا هَـؤُلاء ٱلَّذِينَ أَغْوَيْنَا } أي دعوناهم إلى الغواية يعنون الأتباع { أَغْوَيْنَـٰهُمْ كَمَا غَوَيْنَا } أي أضللناهم كما ضللنا { تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ } منهم، والمعنى: أن رؤساء الضلال، أو الشياطين تبرّؤوا ممن أطاعهم. قال الزجاج: برىء بعضهم من بعض، وصاروا أعداء كما قال الله تعالى: { { ٱلأَخِلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } [الزخرف: 67]، و{ هؤلاء } مبتدأ، { والذين أغوينا } صفته، والعائد محذوف، أي أغويناهم، والخبر: { أغويناهم }، و{ كما غوينا } نعت مصدر محذوف. وقيل: إن خبر هؤلاء هو الذين أغوينا، وأما { أغويناهم كما غوينا } فكلام مستأنف لتقرير ما قبله، ورجح هذا أبو عليّ الفارسي، واعترض الوجه الأوّل، وردّ اعتراضه أبو البقاء. { مَا كَانُواْ إِيَّانَا يَعْبُدُونَ } وإنما كانوا يعبدون أهواءهم. وقيل: إن «ما» في { ما كانوا } مصدرية، أي تبرأنا إليك من عبادتهم إيانا، والأول أولى.

{ وَقِيلَ ٱدْعُواْ شُرَكَاءكُمْ } أي قيل للكفار من بني آدم هذا القول، والمعنى: استغيثوا بآلهتكم التي كنتم تعبدونهم من دون الله في الدنيا لينصروكم ويدفعوا عنكم { فَدَعَوْهُمْ } عند ذلك { فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ } ولا نفعوهم بوجه من وجوه النفع { وَرَأَوُاْ ٱلْعَذَابَ } أي التابع والمتبوع قد غشيهم { لَوْ أَنَّهُمْ كَانُواْ يَهْتَدُونَ } قال الزجاج: جواب لو محذوف، والمعنى: لو أنهم كانوا يهتدون لأنجاهم ذلك، ولم يروا العذاب. وقيل: المعنى: لو أنهم كانوا يهتدون ما دعوهم: وقيل: المعنى: لو أنهم كانوا يهتدون في الدنيا لعلموا أن العذاب حق. وقيل: المعنى: لو كانوا يهتدون لوجه من وجوه الحيل لدفعوا به العذاب. وقيل: قد آن لهم أن يهتدوا لو كانوا يهتدون. وقيل: غير ذلك. والأوّل أولى، ويوم في قوله: { وَيَوْمَ يُنَـٰدِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ ٱلْمُرْسَلِينَ } معطوف على ما قبله، أي ما كان جوابكم لمن أرسل إليكم من النبيين لما بلغوكم رسالاتي.

{ فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ ٱلأَنبَـاء يَوْمَئِذٍ } أي خفيت عليهم الحجج حتى صاروا كالعمي الذين لا يهتدون، والأصل فعموا عن الأنباء، ولكنه عكس الكلام للمبالغة، والأنباء الأخبار، وإنما سمى حججهم أخباراً؛ لأنها لم تكن من الحجة في شيء، وإنما هي أقاصيص، وحكايات { فَهُمْ لاَ يَتَسَاءلُونَ } لا يسأل بعضهم بعضاً، ولا ينطقون بحجة ولا يدرون بما يجيبون، لأن الله قد أعذر إليهم في الدنيا فلا يكون لهم عذر، ولا حجة يوم القيامة. قرأ الجمهور: (عميت) بفتح العين، وتخفيف الميم. وقرأ الأعمش وجناح بن حبيش بضم العين وتشديد الميم. { فَأَمَّا مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ صَـٰلِحاً فَعَسَىٰ أَن يَكُونَ مِنَ ٱلْمُفْلِحِينَ } أن تاب من الشرك وصدّق بما جاء به الرسل، وأدّى الفرائض واجتنب المعاصي فعسى أن يكون من المفلحين، أي الفائزين بمطالبهم من سعادة الدارين، وعسى وإن كانت في الأصل للرجاء فهو من الله واجب على ما هو عادة الكرام. وقيل: إن الترجي هو من التائب المذكور لا من جهة الله سبحانه.

{ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء } أي يخلقه { وَيَخْتَارُ } ما يشاء أن يختاره. { { لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْـئَلُونَ } [الأنبياء: 23] وهذا متصل بذكر الشركاء الذين عبدوهم، واختاروهم أي الاختيار إلى الله { مَا كَانَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ } أي التخير، وقيل: المراد من الآية: أنه ليس لأحد من خلق الله أن يختار، بل الاختيار هو إلى الله عزّ وجلّ. وقيل: إن هذه الآية جواب عن قولهم: { { لَوْلاَ نُزّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْءانُ عَلَىٰ رَجُلٍ مّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [الزخرف: 31] وقيل: هذه الآية جواب عن اليهود حيث قالوا: لو كان الرسول إلى محمد غير جبريل لآمنا به.

قال الزجاج: الوقف على { ويختار } تام على أن "ما" نافية. قال: ويجوز أن تكون «ما» في موضع نصب بـ { يختار }، والمعنى: ويختار الذي كان لهم فيه الخيرة. والصحيح الأوّل لإجماعهم على الوقف. وقال ابن جرير: إن تقدير الآية: ويختار لولايته الخيرة من خلقه، وهذا في غاية من الضعف. وجوّز ابن عطية أن تكون «كان» تامة، ويكون لهم الخيرة جملة مستأنفة. وهذا أيضاً بعيد جداً. وقيل: إن «ما» مصدرية، أي: يختار اختيارهم، والمصدر واقع موقع المفعول به، أي ويختار مختارهم، وهذا كالتفسير لكلام ابن جرير، والراجح أوّل هذه التفاسير، ومثله قوله سبحانه: { { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ } [الأحزاب: 36] والخيرة: التخير كالطيرة فإنها التطير، اسمان يستعملان استعمال المصدر، ثم نزّه سبحانه نفسه، فقال: { سُبْحَـٰنَ ٱللَّهِ } أي تنزّه تنزّهاً خاصاً به من غير أن ينازعه منازع، ويشاركه مشارك { وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ } أي عن الذين يجعلونهم شركاء له، أو عن إشراكهم.

{ وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ } أي تخفيه من الشرك، أو من عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو من جميع ما يخفونه مما يخالف الحق { وَمَا يُعْلِنُونَ } أي يظهرونه من ذلك. قرأ الجمهور: { تكن } بضم التاء الفوقية وكسر الكاف. وقرأ ابن محيصن وحميد بفتح الفوقية وضم الكاف. ثم تمدح سبحانه وتعالى بالوحدانية والتفرّد باستحقاق الحمد، فقال: { وَهُوَ ٱللَّهُ لا إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ ٱلْحَمْدُ فِي ٱلأُولَىٰ } أي الدنيا { وَٱلآخِرَةِ } أي الدار الآخرة { وَلَهُ ٱلْحُكْمُ } يقضي بين عباده بما شاء من غير مشارك { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } بالبعث، فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، لا ترجعون إلى غيره.

وقد أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: { وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي ٱلْقُرَىٰ إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَـٰلِمُونَ } قال: قال الله: لم نهلك قرية بإيمان، ولكنه أهلك القرى بظلم إذا ظلم أهلها، ولو كانت مكة آمنت لم يهلكوا مع من هلك، ولكنهم كذبوا، وظلموا فبذلك هلكوا. وأخرج مسلم، والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يقول الله عزّ وجلّ: يا ابن آدم مرضت فلم تعدني" الحديث بطوله. وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن عبد بن عبيد بن عمير قال: "يحشر الناس يوم القيامة أجوع ما كانوا، وأعطش ما كانوا، وأعرى ما كانوا، فمن أطعم لله عزّ وجلّ أطعمه الله، ومن كسا لله عزّ وجلّ كساه الله، ومن سقى لله عزّ وجلّ سقاه الله، ومن كان في رضا الله كان الله على رضاه" . وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد: { فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ ٱلأنبَـاء } قال: الحجج { فَهُمْ لاَ يَتَسَاءلُونَ } قال: بالأنساب. وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح تعليم الاستخارة وكيفية صلاتها ودعائها، فلا نطول بذكره.