التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ ٱللَّهِ شَيْئاً وَأُولَـٰئِكَ هُمْ وَقُودُ ٱلنَّارِ
١٠
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ ٱللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَٱللَّهُ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ
١١
قُلْ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَىٰ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ
١٢
قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ ٱلْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَأُخْرَىٰ كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ ٱلْعَيْنِ وَٱللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي ٱلأَبْصَارِ
١٣
-آل عمران

فتح القدير

المراد بـ { الذين كفروا }: جنس الكفرة. وقيل: وفد نجران، وقيل: قريظة، وقيل: النضير، وقيل: مشركو العرب. وقرأ السلمي: "لن يُغني" بالتحتية، وقرأ الحسن بكون الياء الآخرة تخفيفاً. قوله: { مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً } أي: من عذابه شيئاً من الإغناء، وقيل: إن كلمة من بمعنى عند، أي: لا تغني عند الله شيئاً قاله أبو عبيد، وقيل: هي بمعنى بدل. والمعنى: بدل رحمة الله، وهو بعيد. قوله: { وَأُولَـئِكَ هُمْ وَقُودُ ٱلنَّارِ } الوقود: اسم للحطب، وقد تقدم الكلام عليه في سورة البقرة، أي: هم حطب جهنم الذي تسعر به، وهم: مبتدأ، ووقود خبره، والجملة خبر أولئك، أو هم ضمير فصل، وعلى التقديرين، فالجملة مستأنفة مقرّرة لقوله: { لَن تُغْنِىَ عَنْهُمْ أَمْوٰلُهُمْ } الآية. وقرأ الحسن، ومجاهد، وطلحة بن مصرف "وَقُودُ" بضم الواو، وهو مصدر، وكذلك الوقود بفتح الواو في قراءة الجمهور يحتمل أن يكون اسماً للحطب، كما تقدم، فلا يحتاج إلى تقدير، ويحتمل أن يكون مصدراً؛ لأنه من المصادر التي تأتي على وزن الفعول، فتحتاج إلى تقدير، أي: هم أهل، وقود النار.

قوله: { كَدَأْبِ ءالِ فِرْعَوْنَ } الدأب: الاجتهاد، يقال دأب الرجل في عمله يدأب دأباً ودءوباً: إذا جدّ، واجتهد، والدائبان الليل، والنهار، والدأب: العادة، والشأن، ومنه قول امرىء القيس:

كدأبك من أمِّ الحُوَيِرِثِ قَبْلَها وَجَارَتها أمِّ الرَّبابِ بِمَأسَلِ

والمراد هنا: كعادة آل فرعون، وشأنهم، وحالهم، واختلفوا في الكاف، فقيل: هي في موضع رفع تقديره دأبهم كدأب آل فرعون مع موسى. وقال الفراء: إن المعنى: كفرت العرب، ككفر آل فرعون. قال النحاس: لا يجوز أن تكون الكاف متعلقة بكفروا، لأن كفروا داخلة في الصلة، وقيل: هي متعلقة بأخذهم الله، أي: أخذهم أخذه، كما أخذ آل فرعون، وقيل: هي متعلقة بـ { لن تغني }، أي: لم تغن عنهم غناء، كما لم تغن عن آل فرعون، وقيل: إن العامل فعل مقدر من لفظ الوقود، ويكون التشبيه في نفس الإحراق. قالوا: ويؤيده قوله تعالى: { ٱأدخلوا آل فرعون أشد العذاب } [غافر: 46]. { ٱلنَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً } [غافر: 46]، والقول الأوّل هو الذي قاله جمهور المحققين، ومنهم الأزهري. قوله: { وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } أي: من قبل آل فرعون من الأمم الكافرة، أي: وكدأب الذين من قبلهم. قوله: { كَذَّبُواْ بِأَيَـٰتِنَا فَأَخَذَهُمُ ٱللَّهُ } يحتمل أن يريد الآيات المتلوّة، ويحتمل أن يريد الآيات المنصوبة للدلالة على الوحدانية، ويصح إرادة الجميع. والجملة بيان، وتفسير لدأبهم، ويجوز أن تكون في محل نصب على الحال من آل فرعون والذين من قبلهم على إضمار قد: أي دأب هؤلاء كدأب أولئك قد كذبوا الخ. وقوله { بِذُنُوبِهِمْ } أي بسائر ذنوبهم التي من جملتها تكذيبهم. قوله: { قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ } قيل: هم اليهود، وقيل: هم مشركو مكة، وسيأتي بيان سبب نزول الآية. وقوله: { سَتُغْلَبُونَ } قريء بالفوقية، والتحتية، وكذلك { تُحْشَرُونَ }. وقد صدق الله، وعده بقتل بني قريظة، وإجلاء بني النضير، وفتح خيبر، وضرب الجزية على سائر اليهود، ولله الحمد. قوله: { وَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ } يحتمل أن يكون من تمام القول الذي أمر الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقوله لهم، ويحتمل أن تكون الجملة مستأنفة تهويلاً، وتفظيعاً.

قوله: { قَدْ كَانَ لَكُمْ ءايَةٌ } أي: علامة عظيمة دالة على صدق ما أقول لكم، وهذه الجملة جواب قسم محذوف، وهي: من تمام القول المأمور به لتقرير مضمون ما قبله، ولم يقل "كانت"؛ لأن التأنيث غير حقيقي. وقال الفراء: إنه ذكر الفعل لأجل الفصل بينه، وبين الإسم بقوله: { لَكُمْ }. والمراد بالفئتين: المسلمون، والمشركون لما الْتقوا يوم بدر. قوله: { فِئَةٌ تُقَـٰتِلُ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ } قراءة الجمهور برفع { فئة }. وقرأ الحسن، ومجاهد «فئة» و«كافرة» بالخفض، فالرفع على الخبرية لمبتدأ محذوف، أي: إحداهما فئة. وقوله: { تُقَـٰتِلُ } في محل رفع على الصفة، والجرّ على البدل من قوله: { فِئَتَيْنِ }. وقوله: { وَأُخْرَىٰ } أي: وفئة أخرى كافرة. وقرأ ابن أبي عبلة بالنصب فيهما. قال ثعلب: هو على الحال، أي: التقتا مختلفتين، مؤمنة، وكافرة. وقال الزجاج: النصب بتقدير أعني؛ وسميت الجماعة من الناس فئة؛ لأنه يفاء إليها: أي: يرجع إليها في وقت الشدة. وقال الزجاج: الفئة: الفرقة مأخوذة من فأوت رأسه بالسيف: إذا قطعته، ولا خلاف أن المراد بالفئتين هما: المقتتلتان في يوم بدر، وإنما وقع الخلاف في المخاطب بهذا الخطاب، فقيل: المخاطب بها: المؤمنون. وقيل: اليهود. وفائدة الخطاب للمؤمنين: تثبيت نفوسهم، وتشجيعها، وفائدته إذا كان مع اليهود عكس الفائدة المقصودة بخطاب المسلمين.

قوله: { يَرَوْنَهُمْ مّثْلَيْهِمْ } قال أبو علي الفارسي: الرؤية في هذه الآية رؤية العين، ولذلك تعدت إلى مفعول واحد، ويدل عليه قوله: { رَأْىَ ٱلْعَيْنِ } والمراد أنه يرى المشركون المسلمين مثلي عدد المشركين، أو مثلي عدد المسلمين، وهذا على قراءة الجمهور بالياء التحتية، وقرأ نافع بالفوقية. وقوله: { مّثْلَيْهِمْ } منتصب على الحال. وقد ذهب الجمهور إلى أن فاعل ترون هم المؤمنون، والمفعول هم الكفار. والضمير في مثليهم يحتمل أن يكون للمشركين، أي: ترون أيها المسلمون المشركين مثلي ما هم عليه من العدد، وفيه بُعْد أن يكثر الله المشركين في أعين المؤمنين، وقد أخبرنا أنه قللهم في أعين المؤمنين، فيكون المعنى ترون أيها المسلمون المشركين مثليكم في العدد، وقد كانوا ثلاثة أمثالهم، فقلل الله المشركين في أعين المسلمين، فأراهم إياهم مثلي عدتهم لتقوى أنفسهم. وقد كانوا أعلموا أن المائة منهم تغلب المائتين من الكفار، ويحتمل أن يكون الضمير في { مثليهم } للمسلمين، أي: ترون أيها المسلمون أنفسكم مثلي ما أنتم عليه من العدد لتقوى بذلك أنفسكم، وقد قال من ذهب إلى التفسير الأوّل - أعني: أن فاعل الرؤية المشركون، وأنهم رأوا المسلمين مثلي عددهم - أنه لا يناقض هذا ما في سورة الأنفال من قوله تعالى: { { وَيُقَلّلُكُمْ فِى أَعْيُنِهِمْ } [الأنفال: 44] بل قللوا أوّلا في أعينهم ليلاقوهم، ويجترئوا عليهم، فلما لاقوهم كثروا في أعينهم حتى غلبوا. قوله: { رَأْىَ ٱلْعَيْنِ } مصدر مؤكد لقوله: { يَرَوْنَهُمْ } أي: رؤية ظاهرة مكشوفة لا لبس فيها { وَٱللَّهُ يُؤَيّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاء } أي: يقوّي من يشاء أن يقويه، ومن جملة ذلك تأييد أهل بدر بتلك الرؤية { إِنَّ فِى ذَلِكَ } أي: في رؤية القليل كثيراً { لَعِبْرَةً } فعلة من العبور، كالجلسة من الجلوس. والمرد الاتعاظ، والتنكير للتعظيم، أي: عبرة عظيمة، وموعظة جسيمة.

وقد أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: { كَدَأْبِ ءالِ فِرْعَوْنَ } قال: كصنيع آل فرعون. وأخرج ابن المنذر، وأبو الشيخ، عنه قال كفعل. وأخرج مثله أبو الشيخ، عن مجاهد. وأخرج ابن جرير، عن الربيع قال: كسنتهم. وأخرج ابن إسحاق، وابن جرير، والبيهقي في الدلائل، عن ابن عباس: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أصاب من أهل بدر ما أصاب، ورجع إلى المدينة جمع اليهود في سوق بني قينقاع قال: "يا معشر يهود أسلموا قبل أن يصيبكم الله بما أصاب قريشاً،" قالوا يا محمد لا يغرنك من نفسك أنك قتلت نفراً كانوا غماراً لا يعرفون القتال، إنك والله لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس، وأنك لم تلق مثلنا، فأنزل الله: { قُلْ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ } إلى قوله: { أُوْلِى ٱلأبْصَـٰرِ }». وأخرج ابن جرير، وابن إسحاق، وابن أبي حاتم، عن عاصم بن عمر بن قتادة مثله. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن عكرمة قال: قال فنحاص اليهودي، وذكر نحوه.

وأخرج ابن جرير، عن قتادة في قوله: { قَدْ كَانَ لَكُمْ ءايَةٌ } عبرة، وتفكر. وأخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: { قَدْ كَانَ لَكُمْ ءايَةٌ فِي فِئَتَيْنِ ٱلْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَـٰتِلُ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ } أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر { وَأُخْرَىٰ كَافِرَةٌ } فئة قريش الكفار. وأخرج عبد الرزاق أن هذه الآية نزلت في أهل بدر. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن الربيع في قوله: { قَدْ كَانَ لَكُمْ ءايَةٌ } يقول: قد كان لكم في هؤلاء عبرة، ومتفكر أيدهم الله، ونصرهم على عدوهم يوم بدر، كان المشركون تسعمائة وخمسين رجلاً، وكان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ثلثمائة وثلاثة عشر رجلاً. وأخرج ابن جرير، عن ابن مسعود في الآية قال: هذا يوم بدر نظرنا إلى المشركين، فرأيناهم يضعفون علينا ثم نظرنا إليهم، فما رأيناهم يزيدون علينا رجلاً واحداً. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في الآية قال: أنزلت في التخفيف يوم بدر على المؤمنين كانوا يومئذ ثلثمائة وثلاثة عشر رجلاً، وكان المشركون مثليهم ستمائة وستة وعشرين، فأيد الله المؤمنين.