التفاسير

< >
عرض

لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِي ٱلْبِلاَدِ
١٩٦
مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ
١٩٧
لَكِنِ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ وَمَا عِندَ ٱللَّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ
١٩٨
وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَٰبِ لَمَن يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَٰشِعِينَ للَّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَـٰتِ ٱللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلـٰئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ
١٩٩
يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
٢٠٠
-آل عمران

فتح القدير

قوله: { لاَ يَغُرَّنَّكَ } خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. والمراد: تثبيته على ما هو عليه، كقوله تعالى: { { يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ءامِنُواْ } [النساء: 136] أو خطاب لكل أحد، وهذه الآية متضمنة لقبح حال الكفار بعد ذكر حسن حال المؤمنين؛ والمعنى: لا يغرنك ما هم فيه من تقلبهم في البلاد بالأسفار للتجارة التي يتوسعون بها في معاشهم، فهو متاع قليل يتمتعون به في هذه الدار، ثم مصيرهم إلى جهنم، فقوله: { مَتَـٰعٌ } خبر مبتدأ محذوف، أي: هو متاع قليل لا اعتداد به بالنسبة إلى ثواب الله سبحانه { وَمَأْوَاهُمُ } أي: ما يأوون إليه. والتقلب في البلاد: الاضطراب في الأسفار إلى الأمكنة، ومثله قوله تعالى: { { فَلاَ يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِى ٱلْبِلاَدِ } [غافر: 4] والمتاع ما يعجل الانتفاع به، وسماه قليلاً؛ لأنه فانٍ وكل فانٍ، وإن كان كثيراً، فهو قليل. وقوله: { وَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ } ما مهدوا لأنفسهم في جهنم بكفرهم، أو ما مهد الله لهم من النار، فالمخصوص بالذم محذوف، وهو هذا المقدّر.

قوله: { لَكِنِ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ } هو استدراك مما تقدّمه؛ لأن معناه معنى النفي كأنه قال: ليس لهم في تقلبهم في البلاد كثير انتفاع { لَكِنِ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ } لهم الانتفاع الكثير، والخلد الدائم. وقرأ يزيد بن القعقاع "لكن" بتشديد النون. قوله: { نُزُلاً } مصدر مؤكد عند البصريين، كما تقدّم في { ثواباً } وعند الكسائي، والفراء مثل ما قالا في { ثواباً }، والنزل ما يهيأ للنزيل، والجمع أنزال، قال الهروي: { نُزُلاٍ مّنْ عِندِ ٱللَّهِ } أي: ثواباً من عند الله { وَمَا عِندَ ٱللَّهِ } مما أعدّه لمن أطاعه { خَيْرٌ لّلأبْرَارِ } مما يحصل للكفار من الربح في الأسفار فإنه متاع قليل عن قريب يزول.

قوله: { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ لَمَن يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ } هذه الجملة سيقت لبيان أن بعض أهل الكتاب لهم حظّ من الدين، وليسوا كسائرهم في فضائحهم التي حكاها الله عنهم فيما سبق، وفيما سيأتي، فإن هذا البعض يجمعون بين الإيمان بالله، وبما أنزل الله على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وما أنزله على أنبيائهم حال كونهم { خَـٰشِعِينَ للَّهِ لاَ يَشْتَرُونَ } أي: يستبدلون { بآيات الله ثمناً قليلاً } بالتحريف، والتبديل، كما يفعله سائرهم، بل يحكون كتب الله سبحانه، كما هي، والإشارة بقوله: { أُوْلَـٰئِكَ } إلى هذه الطائفة الصالحة من أهل الكتاب من حيث اتصافهم بهذه الصفات الحميدة { لَهُمْ أَجْرُهُمْ } الذي وعد الله سبحانه به بقوله: { { أُوْلَـئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ } [القصص: 54] وتقديم الخبر يفيد اختصاص ذلك الأجر بهم. وقوله: { عِندَ رَبّهِمْ } في محل نصب على الحال. قوله: { يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱصْبِرُواْ } الخ. هذه الآية العاشرة من قوله سبحانه: { { إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَـٰوَاتِ } [البقرة: 164، آل عمران: 190] ختم بها هذه السورة لما اشتملت عليه من الوصايا التي جمعت خير الدنيا، والآخرة، فحض على الصبر على الطاعات، والشهوات، والصبر: الحبس، وقد تقدم تحقيق معناه. والمصابرة: مصابرة الأعداء، قاله الجمهور: أي: غالبوهم في الصبر على الشدائد الحرب، وخص المصابرة بالذكر بعد أن ذكر الصبر لكونها أشدّ منه، وأشقّ. وقيل: المعنى: صابروا على الصلوات، وقيل صابروا الأنفس عن شهواتها. وقيل: صابروا الوعد الذي وعدتم، ولا تيأسوا، والقول الأول هو المعنى العربي، ومنه قول عنترة:

فَلَمْ أرَ حيّاً صَابَروا مِثْل صَبَرْنا وَلا كَافَحوا مِثْلَ الذين نُكَافِحُ

أي: صابروا العدّو في الحرب. قوله: { وَرَابِطُواْ } أي: أقيموا في الثغور رابطين خيلكم فيها، كما يربطها أعداؤكم وهذا قول جمهور المفسرين. وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن: هذه الآية في انتظار الصلاة بعد الصلاة، ولم يكن في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزو يرابط فيه، وسيأتي ذكر من خرج عنه هذا، والرباط اللغوي هو الأوّل، ولا ينافيه تسميته صلى الله عليه وسلم، لغيره رباطاً، كما سيأتي. ويمكن إطلاق الرباط على المعنى الأول، وعلى انتظار الصلاة. قال الخليل: الرباط ملازمة الثغور، ومواظبة الصلاة، هكذا قال، وهو من أئمة اللغة. وحكى ابن فارس عن الشيباني أنه قال: يقال ماء مترابط دائم لا يبرح، وهو يقتضي تعدية الرباط إلى غير ارتباط الخيل في الثغور. قوله: { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } فلا تخالفوا ما شرعه لكم { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } أي: تكونون من جملة الفائزين بكل مطلوب، وهم: المفلحون.

وقد أخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، عن عكرمة في قوله: { لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } تقلب ليلهم، ونهارهم وما يجري عليهم من النعم، قال عكرمة: قال ابن عباس، وبئس المهاد، أي: بئس المنزل. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن السدي في قوله: { { تَقَلُّبُهُمْ فِى ٱلْبِلاَدِ } [غافر: 4] قال ضربهم في البلاد. وأخرج عبد بن حميد، والبخاري في الأدب المفرد، وابن أبي حاتم، عن ابن عمر في قوله: { وَمَا عِندَ ٱللَّهِ خَيْرٌ لّلابْرَارِ } قال: إنما سماهم الله أبراراً؛ لأنهم بروا الآباء، والأبناء، كما أن لوالدك عليك حقاً كذلك لولدك عليك حقاً. وأخرجه ابن مردويه، عنه مرفوعاً، والأول أصح قاله السيوطي. وأخرج ابن جرير، عن ابن زيد: { خَيْرٌ لّلأبْرَارِ } لمن يطيع الله.

وأخرج النسائي، والبزار، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، عن أنس قال: لما مات النجاشي قال صلى الله عليه وسلم: "صلوا عليه،" قالوا: يا رسول الله نصلي على عبد حبشي؟ فأنزل الله { وَإِن مّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ } الآية. وأخرج ابن جرير، عن جابر مرفوعاً أن المنافقين قالوا: انظروا إلى هذا - يعني النبي صلى الله عليه وسلم يصلي على علج نصراني، فنزلت. وأخرج الحاكم وصححه، عن عبد الله بن الزبير أنها نزلت في النجاشي. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن مجاهد قال: هم مسلمة أهل الكتاب من اليهود والنصارى. وأخرج ابن أبي حاتم، عن الحسن قال: هم أهل الكتاب الذين كانوا قبل محمد، والذين اتبعوا محمداً صلى الله عليه وسلم. وأخرج ابن المبارك، وابن جرير، وابن المنذر، والحاكم وصححه، والبيهقي في الشعب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ما قدّمنا ذكره.

وأخرج ابن مردويه عنه عن أبي هريرة قال: أما إنه لم يكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم غزو يرابطون فيه، ولكنها نزلت في قوم يعمرون المساجد يصلون الصلوات في مواقيتها ثم يذكرون الله فيها. وقد ثبت في الصحيح وغيره من قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا أخبركم بما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط" . وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن محمد بن كعب القرظي؛ قال: اصبروا على دينكم، وصابروا، الوعد الذي وعدتكم، ورابطوا عدوي، وعدوكم. وقد روي من تفاسير السلف غير هذا في سر الصبر على نوع من أنواع الطاعات، والمصابرة على نوع آخر، ولا تقوم بذلك حجة، فالواجب الرجوع إلى المدلول اللغوي، وقد قدّمناه.

وقد وردت أحاديث كثيرة في فضل الرباط، وفيها التصريح بأنه الرباط في سبيل الله، وهو يردّ ما قاله أبو سلمة بن عبد الرحمن، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ندب إلى الرباط في سبيل الله، وهو الجهاد، فيحمل ما في الآية عليه، وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه سمى حراسة جيش المسلمين رباطاً، فأخرج الطبراني في الأوسط بسند جيد عن أنس قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أجر المرابط، فقال: "من رابط ليلة حارساً من وراء المسلمين كان له أجر من خلفه ممن صام وصلى" .

وقد ورد في فضل هذه العشر الآيات التي في آخر هذه السورة مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما أخرجه ابن السني، وابن مردويه، وابن عساكر، عن أبي هريرة: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ عشر آيات من آخر سورة آل عمران كل ليلة" . وفي إسناده مظاهر بن أسلم، وهو ضعيف. وقد تقدم من حديث ابن عباس في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه العشر الآيات لما استيقظ. وكذلك تقدم في غير الصحيحين من رواية صفوان بن المعطل عن النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرج الدارمي عن عثمان بن عفان قال: «من قرأ آخر آل عمران في ليلة كتب له قيام ليلة».