التفاسير

< >
عرض

أَمِ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ شُفَعَآءَ قُلْ أَوَلَوْ كَـانُواْ لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلاَ يَعْقِلُونَ
٤٣
قُل لِلَّهِ ٱلشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَّهُ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
٤٤
وَإِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَحْدَهُ ٱشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ ٱلَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ
٤٥
قُلِ ٱللَّهُمَّ فَاطِرَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ عَالِمَ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ
٤٦
وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ مِن سُوۤءِ ٱلْعَذَابِ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِّنَ ٱللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ
٤٧
وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَـسَبُواْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ
٤٨
-الزمر

فتح القدير

قوله: { أَمِ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ شُفَعَاء } أم هي المنقطعة المقدّرة ببل، والهمزة، أي: بل اتخذوا من دون الله آلهة شفعاء تشفع لهم عند الله { قُلْ أَوَلَوْ لَّوْ كَانُواْ لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلاَ يَعْقِلُونَ } الهمزة للإنكار، والتوبيخ، والواو للعطف على محذوف مقدّر، أي: أيشفعون، ولو كانوا الخ، وجواب لو محذوف تقديره تتخذونهم، أي: وإن كانوا بهذه الصفة تتخذونهم، ومعنى لا يملكون شيئاً: أنهم غير مالكين لشيء من الأشياء، وتدخل الشفاعة في ذلك دخولاً أوّلياً، ولا يعقلون شيئاً من الأشياء؛ لأنها جمادات لا عقل لها، وجمعهم بالواو، والنون لاعتقاد الكفار فيهم أنهم يعقلون. ثم أمره سبحانه بأن يخبرهم: أن الشفاعة لله وحده، فقال: { قُل لِلَّهِ ٱلشَّفَـٰعَةُ جَمِيعاً }، فليس لأحد منها شيء إلا أن يكون بإذنه لمن ارتضى، كما في قوله: { { مَن ذَا ٱلَّذِى يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } [البقرة: 255]، وقوله: { { وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ٱرْتَضَىٰ } [الأنبياء: 28]، وانتصاب { جميعاً } على الحال، وإنما أكد الشفاعة بما يؤكد به الاثنان، فصاعداً؛ لأنها مصدر يطلق على الواحد، والاثنين، والجماعة، ثم وصفه بسعة الملك، فقال: { لَّهُ مُلْكُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ } أي: يملكهما، ويملك ما فيهما، ويتصرف في ذلك كيف يشاء، ويفعل ما يريد { ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } لا إلى غيره، وذلك بعد البعث.

{ وَإِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَحْدَهُ ٱشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلأَخِرَةِ } انتصاب { وحده } على الحال عند يونس، وعلى المصدر عند الخليل، وسيبويه، والاشمئزاز في اللغة: النفور. قال أبو عبيدة: اشمأزت نفرت، وقال المبرد: انقبضت. وبالأوّل قال قتادة، وبالثاني قال مجاهد، والمعنى متقارب. وقال المؤرّج: أنكرت، وقال أبو زيد: اشمأزّ الرجل ذعر من الفزع، والمناسب للمقام تفسير اشمأزت بانقبضت، وهو في الأصل: الازورار، وكان المشركون إذا قيل لهم: لا إلٰه إلا الله انقبضوا، كما حكاه الله عنهم في قوله: { { وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي ٱلْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَىٰ أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً } [الإسراء: 46]، ثم ذكر سبحانه استبشارهم بذكر أصنامهم، فقال: { وَإِذَا ذُكِرَ ٱلَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } أي: يفرحون بذلك، ويبتهجون به، والعامل في "إذا" في قوله: { وَإِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ } الفعل الذي بعدها، وهو: اشمأزت، والعامل في إذا في قوله: { وَإِذَا ذُكِرَ ٱلَّذِينَ مِن دُونِهِ } الفعل العامل في إذا الفجائية، والتقدير: فاجئوا الاستبشار وقت ذكر الذين من دونه. ولما لم يقبل المتمردون من الكفار ما جاءهم به من الدعاء إلى الخير، وصمموا على كفرهم، أمره الله سبحانه: أن يردّ الأمر إليه، فقال: { قُلِ ٱللَّهُمَّ فَاطِرَ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ عَالِمَ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَـٰدَةِ أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ }، وقد تقدّم تفسير فاطر السماوات، وتفسير عالم الغيب، والشهادة، وهما منصوبان على النداء، ومعنى { تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ }: تجازي المحسن بإحسانه، وتعاقب المسيء بإساءته، فإنه بذلك يظهر من هو المحقّ، ومن هو المبطل، ويرتفع عنده خلاف المختلفين، وتخاصم المتخاصمين.

ثم لما حكى عن الكفار ما حكاه من الاشمئزاز عند ذكر الله، والاستبشار عند ذكر الأصنام ذكر ما يدلّ على شدّة عذابهم، وعظيم عقوبتهم، فقال: { وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا فِى ٱلأَرْضِ جَمِيعاً } أي: جميع ما في الدنيا من الأموال، والذخائر { وَمِثْلَهُ مَعَهُ } أي: منضماً إليه { لاَفْتَدَوْاْ بِهِ مِن سُوء ٱلْعَذَابِ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ } أي: من سوء عذاب ذلك اليوم، وقد مضى تفسير هذا في آل عمران { وَبَدَا لَهُمْ مّنَ ٱللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ } أي: ظهر لهم من عقوبات الله، وسخطه، وشدّة عذابه ما لم يكن في حسابهم، وفي هذا وعيد عظيم، وتهديد بالغ، وقال مجاهد: عملوا أعمالاً توهموا أنها حسنات، فإذا هي سيئات، وكذا قال السدّي. وقال سفيان الثوري: ويل لأهل الرياء ويل لأهل الرياء ويل لأهل الرياء هذه آيتهم، وقصتهم. وقال عكرمة بن عمار: جزع محمد بن المنكدر عند موته جزعاً شديداً، فقيل له: ما هذا الجزع؟ قال: أخاف آية من كتاب الله { وَبَدَا لَهُمْ مّنَ ٱللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ }، فأنا أخشى أن يبدو لي ما لم أكن أحتسب. { وَبَدَا لَهُمْ سَيّئَاتُ مَا كَـسَبُواْ } أي: مساوىء أعمالهم من الشرك، وظلم أولياء الله، و «ما» يحتمل أن تكون مصدرية، أي: سيئات كسبهم، وأن تكون موصولة، أي: سيئات الذي كسبوه { وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ } أي: أحاط بهم، ونزل بهم ما كانوا يستهزئون به من الإنذار الذي كان ينذرهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله: { وَإِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَحْدَهُ ٱشْمَأَزَّتْ } الآية قال: قست، ونفرت { قُلُوبٍ } هؤلاء الأربعة { ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلأَخِرَةِ } أبو جهل بن هشام، والوليد بن عقبة، وصفوان، وأبيّ بن خلف { وَإِذَا ذُكِرَ ٱلَّذِينَ مِن دُونِهِ } اللات، والعزى { إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ }. وأخرج مسلم، وأبو داود، والبيهقي في الأسماء والصفات عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل افتتح صلاته: "اللَّهم ربّ جبريل، وميكائيل، وإسرافيل فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما أختلف فيه من الحقّ بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم" .