التفاسير

< >
عرض

ٱللَّهُ خَالِقُ كُـلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ
٦٢
لَّهُ مَقَالِيدُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِـآيَاتِ ٱللَّهِ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْخَاسِرُونَ
٦٣
قُلْ أَفَغَيْرَ ٱللَّهِ تَأْمُرُونِّيۤ أَعْبُدُ أَيُّهَا ٱلْجَاهِلُونَ
٦٤
وَلَقَدْ أُوْحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ ٱلْخَاسِرِينَ
٦٥
بَلِ ٱللَّهَ فَٱعْبُدْ وَكُن مِّنَ ٱلشَّاكِرِينَ
٦٦
وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَٱلأَرْضُ جَمِيعـاً قَبْضَـتُهُ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ وَٱلسَّمَٰوَٰتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ
٦٧
وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ إِلاَّ مَن شَآءَ ٱللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ
٦٨
وَأَشْرَقَتِ ٱلأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ ٱلْكِتَابُ وَجِـيءَ بِٱلنَّبِيِّيْنَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِٱلْحَقِّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ
٦٩
وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ
٧٠
وَسِيقَ ٱلَّذِينَ كَـفَرُوۤاْ إِلَىٰ جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّىٰ إِذَا جَآءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَـآءَ يَوْمِكُمْ هَـٰذَا قَالُواْ بَلَىٰ وَلَـٰكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ ٱلْعَذَابِ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ
٧١
قِيلَ ٱدْخُلُوۤاْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى ٱلْمُتَكَـبِّرِينَ
٧٢
-الزمر

فتح القدير

قوله: { ٱللَّهُ خَـٰلِقُ كُلّ شَىْء } من الأشياء الموجودة في الدنيا، والآخرة كائناً ما كان من غير فرق بين شيء، وشيء وقد تقدّم تفسير هذه الآية في الأنعام { وَهُوَ عَلَىٰ كُلّ شَىْء وَكِيلٌ } أي: الأشياء كلها موكولة إليه، فهو: القائم بحفظها، وتدبيرها من غير مشارك له. { لَّهُ مَقَالِيدُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ } المقاليد، واحدها مقليد، ومقلاد، أو لا واحد له من لفظه كأساطير، وهي: مفاتيح السماوات، والأرض، والرزق، والرحمة. قاله مقاتل، وقتادة، وغيرهما. وقال الليث: المقلاد الخزانة، ومعنى الآية: له خزائن السماوات، والأرض، وبه قال الضحاك، والسدّي. وقيل: خزائن السماوات المطر، وخزائن الأرض النبات. وقيل: هي عبارة عن قدرته سبحانه، وحفظه لها، والأوّل أولى. قال الجوهري: الإقليد المفتاح، ثم قال: والجمع المقاليد. وقيل: هي لا إلٰه إلا الله، والله أكبر، وسبحان الله وبحمده، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوّة إلا بالله. وقيل غير ذلك. { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِـئَايَـٰتِ ٱللَّهِ أُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْخَـٰسِرُونَ } أي: بالقرآن، وسائر الآيات الدالة على الله سبحانه، وتوحيده، ومعنى الخاسرون: الكاملون في الخسران؛ لأنهم صاروا بهذا الكفر إلى النار.

{ قُلْ أَفَغَيْرَ ٱللَّهِ تَأْمُرُونّى أَعْبُدُ أَيُّهَا ٱلْجَـٰهِلُونَ } الاستفهام للإنكار التوبيخي، والفاء للعطف على مقدّر كنظائره، و{ غير } منصوب بـ { أعبد }، وأعبد معمول؛ لـ { تأمروني } على تقدير أن المصدرية، فلما حذفت بطل عملها، والأصل: أفتأمروني أن أعبد غير الله. قاله الكسائي، وغيره. ويجوز أن يكون غير منصوباً بتأمروني، وأعبد بدل منه بدل اشتمال، وأن مضمرة معه أيضاً. ويجوز أن يكون غير منصوبة بفعل مقدر، أي: أفتلزموني غير الله، أي: عبادة غير الله، أو أعبد غير الله أعبد. أمره الله سبحانه أن يقول هذا للكفار لما دعوه إلى ما هم عليه من عبادة الأصنام، وقالوا: هو دين آبائك. قرأ الجمهور: { تأمروني } بإدغام نون الرفع في نون الوقاية على خلاف بينهم في فتح الياء، وتسكينها. وقرأ نافع: (تأمروني) بنون خفيفة، وفتح الياء، وقرأ ابن عامر: (تأمرونني) بالفك، وسكون الياء.

{ وَلَقَدْ أُوْحِىَ إِلَيْكَ وَإِلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكَ } أي: من الرسل { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ ٱلْخَـٰسِرِينَ } هذا الكلام من باب التعريض لغير الرسل، لأن الله سبحانه قد عصمهم عن الشرك، ووجه إيراده على هذا الوجه التحذير، والإنذار للعباد من الشرك، لأنه إذا كان موجباً لإحباط عمل الأنبياء على الفرض، والتقدير، فهو محبط لعمل غيرهم من أممهم بطريق الأولى. قيل: وفي الكلام تقديم، وتأخير، والتقدير: ولقد أوحي إليك لئن أشركت، وأوحي إلى الذين من قبلك كذلك. قال مقاتل: أي أوحي إليك وإلى الأنبياء قبلك بالتوحيد والتوحيد محذوف، ثم قال: لئن أشركت يا محمد؛ ليحبطن عملك، وهو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة. وقيل: إفراد الخطاب في قوله: { لَئِنْ أَشْرَكْتَ } باعتبار كل واحد من الأنبياء كأنه قيل: أوحي إليك، وإلى كل واحد من الأنبياء هذا الكلام، وهو: لئن أشركت، وهذه الآية مقيدة بالموت على الشرك كما في الآية الأخرى { { وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَـٰلُهُمْ } [البقرة: 217] وقيل: هذا خاص بالأنبياء؛ لأن الشرك منهم أعظم ذنباً من الشرك من غيرهم، والأوّل أولى، ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بتوحيده، فقال: { بَلِ ٱللَّهَ فَٱعْبُدْ }، وفي هذا ردّ على المشركين حيث أمروه: بعبادة الأصنام. ووجه الردّ ما يفيده التقديم من القصر. قال الزجاج: لفظ اسم الله منصوب بـ { اعبد } قال: ولا اختلاف في هذا بين البصريين، والكوفيين. وقال الفراء: هو منصوب بإضمار فعل، وروي مثله عن الكسائي، والأوّل أولى. قال الزجاج: والفاء في: { فاعبد } للمجازاة. وقال الأخفش: زائدة. قال عطاء، ومقاتل: معنى { فاعبد }: وحد، لأن عبادته لا تصح إلا بتوحيده { وَكُنْ مّنَ ٱلشَّـٰكِرِينَ } لإنعامه عليك بما هداك إليه من التوحيد، والدعاء إلى دينه، واختصك به من الرسالة.

{ وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } قال المبرد: أي ما عظموه حق عظمته، من قولك فلان عظيم القدر، وإنما وصفهم بهذا؛ لأنهم عبدوا غير الله، وأمروا رسوله بأن يكون مثلهم في الشرك. وقرأ الحسن، وأبو حيوة، وعيسى بن عمر: "قدّروا" بالتشديد { وَٱلأَرْضُ جَمِيعـاً قَبْضَـتُهُ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ } القبضة في اللغة ما قبضت عليه بجميع كفك، فأخبر سبحانه: عن عظيم قدرته بأن الأرض كلها مع عظمها، وكثافتها في مقدوره كالشيء الذي يقبض عليه القابض بكفه كما يقولون: هو في يد فلان، وفي قبضته للشيء الذي يهون عليه التصرّف فيه، وإن لم يقبض عليه، وكذا قوله: { وَٱلسَّمَـٰوٰتُ مَطْوِيَّـٰتٌ بِيَمِينِهِ }، فإن ذكر اليمين للمبالغة في كمال القدرة كما يطوي الواحد منا الشيء المقدور له طيه بيمينه، واليمين في كلام العرب قد تكون بمعنى: القدرة، والملك. قال الأخفش: بيمينه يقول: في قدرته، نحو قوله: { { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُكُمْ } [النساء: 3] أي: ما كانت لكم قدرة عليه، وليس الملك لليمين دون الشمال، وسائر الجسد، ومنه له سبحانه: { { لأخَذْنَا مِنْهُ بِٱلْيَمِينِ } [الحاقة: 45] أي: بالقوّة، والقدرة، ومنه قول الشاعر:

إذا ما راية نصبت لمجد تلقاها عرابة باليمين

وقول الآخر:

ولما رأيت الشمس أشرق نورها تناولت منها حاجتي بيمين

وقول الآخر:

عطست بأنف شامخ وتناولت يداي الثريا قاعداً غير قائم

وجملة: { وَٱلاْرْضُ جَمِيعـاً قَبْضَـتُهُ } في محل نصب على الحال، أي: ما عظموه حق تعظيمه، والحال أنه متصف بهذه الصفة الدالة على كمال القدرة. قرأ الجمهور برفع: { قبضته } على أنها خبر المبتدأ، وقرأ الحسن بنصبها، ووجهه ابن خالويه بأنه على الظرفية، أي: في قبضته. وقرأ الجمهور: { مطويات } بالرفع على أنها خبر المبتدأ، والجملة في محل نصب على الحال كالتي قبلها، و{ بيمينه } متعلق بـ { مطويات }، أو حال من الضمير في { مطويات }، أو خبر ثانٍ، وقرأ عيسى، والجحدري بنصب: (مطويات)، ووجه ذلك: أن { السمٰوات } معطوفة على { الأرض }، وتكون { قبضته } خبراً عن الأرض، والسمٰوات، وتكون { مطويات } حالاً، أو تكون { مطويات } منصوبة بفعل مقدّر، و{ بيمينه } الخبر، وخصّ يوم القيامة بالذكر، وإن كانت قدرته شاملة، لأن الدعاوي تنقطع فيه كما قال سبحانه: { { ٱلْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ للَّهِ } [الحج: 56]، وقال: { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدّينِ } [الفاتحة: 4]، ثم نزّه سبحانه نفسه، فقال: { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ } به من المعبودات التي يجعلونها شركاء له مع هذه القدرة العظيمة، والحكمة الباهرة.

{ وَنُفِخَ فِى ٱلصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَمَن فِى ٱلاْرْضِ } هذه هي: النفخة الأولى، والصور هو: القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل، وقد تقدّم غير مرة، ومعنى صعق: زالت عقولهم، فخرّوا مغشياً عليهم. وقيل: ماتوا. قال الواحدي: قال المفسرون: مات من الفزع، وشدة الصوت أهل السمٰوات، والأرض. قرأ الجمهور: { الصور } بسكون الواو، وقرأ قتادة، وزيد بن علي بفتحها جمع صورة، والاستثناء في قوله: { إِلاَّ مَن شَاء ٱللَّهُ } متصل، والمستثنى جبريل، وميكائيل، وإسرافيل. وقيل: رضوان، وحملة العرش، وخزنة الجنة، والنار { ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ } يجوز أن يكون { أخرى } في محل رفع على النيابة، وهي صفة لمصدر محذوف، أي: نفخة أخرى، ويجوز أن يكون في محل نصب، والقائم مقام الفاعل فيه { فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ } يعني: الخلق كلهم قيام على أرجلهم ينظرون ما يقال لهم، أو ينتظرون ذلك. قرأ الجمهور: { قيام } بالرفع على أنه خبر، و{ ينظرون } في محل نصب على الحال، وقرأ زيد بن عليّ بالنصب على أنه حال، والخبر: { ينظرون }، والعامل في الحال ما عمل في إذا الفجائية. قال الكسائي: كما تقول خرجت، فإذا زيد جالساً.

{ وَأَشْرَقَتِ ٱلأَرْضُ بِنُورِ رَبّهَا } الإشراق الإضاءة، يقال: أشرقت الشمس: إذا أضاءت، وشرقت: إذا طلعت، ومعنى { بنور ربها }: بعدل ربها، قاله الحسن، وغيره. وقال الضحاك: بحكم ربها، والمعنى: أن الأرض أضاءت، وأنارت بما أقامه الله من العدل بين أهلها، وما قضى به من الحق فيهم، فالعدل نور، والظلم ظلمات. وقيل: إن الله يخلق نوراً يوم القيامة يلبسه وجه الأرض، فتشرق به غير نور الشمس، والقمر، ولا مانع من الحمل على المعنى الحقيقي، فإن الله سبحانه هو: نور السماوات، والأرض. قرأ الجمهور: { أشرقت } مبنياً للفاعل، وقرأ ابن عباس، وأبو الجوزاء، وعبيد بن عمير على البناء للمفعول { ووضع الكتاب } قيل: هو: اللوح المحفوظ. وقال قتادة: يعني: الكتب، والصحف التي فيها أعمال بني آدم، فآخذ بيمينه، وآخذ بشماله، وكذا قال مقاتل. وقيل: هو من وضع المحاسب كتاب المحاسبة بين يديه، أي: وضع الكتاب للحساب { وَجِـىء بِٱلنَّبِيّيْنَ } أي: جيء بهم إلى الموقف، فسئلوا عما أجابتهم به أممهم { وَٱلشُّهَدَاء } الذين يشهدون على الأمم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم كما في قوله: { { وَكَذٰلِكَ جَعَلْنَـٰكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى ٱلنَّاسِ } [البقرة: 143]، وقيل: المراد بالشهداء: الذين استشهدوا في سبيل الله، فيشهدون يوم القيامة لمن ذبّ عن دين الله. وقيل: هم الحفظة كما قال تعالى: { { وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ } [قۤ: 21] { وَقُضِىَ بَيْنَهُم بِٱلْحَقّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } أي: وقضي بين العباد بالعدل، والصدق، والحال أنهم لا يظلمون، أي: لا ينقصون من ثوابهم، ولا يزاد على ما يستحقونه من عقابهم { وَوُفّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ } من خير، وشرّ { وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ } في الدنيا لا يحتاج إلى كاتب، ولا حاسب، ولا شاهد، وإنما وضع الكتاب، وجيء بالنبيين، والشهداء لتكميل الحجة، وقطع المعذرة.

ثم ذكر سبحانه تفصيل ما ذكره من توفية كل نفس ما كسبت، فقال: { وَسِيقَ ٱلَّذِينَ كَـفَرُواْ إِلَىٰ جَهَنَّمَ زُمَراً } أي: سيق الكافرون إلى النار حال كونهم زمراً، أي: جماعات متفرّقة بعضها يتلو بعضاً. قال أبو عبيدة، والأخفش: زمراً جماعات متفرّقة بعضها إثر بعض، ومنه قول الشاعر:

وترى الناس إلى أبوابه زمراً تنتابه بعد زمر

واشتقاقه من الزمر، وهو: الصوت، إذ الجماعة لا تخلو عنه { حَتَّى إِذَا جَاءوهَا فُتِحَتْ أَبْوٰبُهَا } أي: فتحت أبواب النار، ليدخلوها، وهي: سبعة أبواب، وقد مضى بيان ذلك في سورة الحجر { وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا } جمع خازن نحو سدنة، وسادن { أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مّنكُمْ } أي: من أنفسكم { يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ ءايَـٰتِ رَبّكُمْ } التي أنزلها عليهم { وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَـٰذَا } أي: يخوّفونكم لقاء هذا اليوم الذي صرتم فيه، قالوا لهم هذا القول تقريعاً، وتوبيخاً، فأجابوا بالاعتراف، ولم يقدروا عل الجدل الذي كانوا يتعللون به في الدنيا لانكشاف الأمر، وظهوره، ولهذا قالوا { بَلَىٰ } أي: قد أتتنا الرسل بآيات الله، وأنذرونا بما سنلقاه { وَلَـٰكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ ٱلْعَذَابِ عَلَى ٱلْكَـٰفِرِينَ }، وهي: { { لأَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ } [السجدة:13] فلما اعترفوا هذا الاعتراف قيل { ٱدْخُلُواْ أَبْوٰبَ جَهَنَّمَ } التي قد فتحت لكم؛ لتدخلوها. وانتصاب { خَـٰلِدِينَ } على الحال، أي: مقدّرين الخلود { فَبِئْسَ مَثْوَى ٱلْمُتَكَـبّرِينَ } المخصوص بالذمّ محذوف، أي: بئس مثواهم جهنم، وقد تقدّم تحقيق المثوى في غير موضع.

وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: { لَهُ مَقَالِيدُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ } قال: مفاتيحها. وأخرج أبو يعلى، ويوسف القاضي في سننه، وأبو الحسن القطان، وابن السني، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن عثمان بن عفان قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله: { لَّهُ مَقَالِيدُ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأَرْضِ }، فقال لي: "يا عثمان لقد سألتني عن مسألة لم يسألني عنها أحد قبلك، مقاليد السمٰوات، والأرض: لا إلٰه إلاّ الله، والله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله، وأستغفر الله الذي لا إلٰه إلاّ هو، الأوّل، والآخر، والظاهر، والباطن، يحيـي، ويميت، وهو حيّ لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شيءٍ قدير" ، ثم ذكر فضل هذه الكلمات. وأخرجه ابن مردويه عن ابن عباس، عن عثمان قال: جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: أخبرني عن مقاليد السماوات، والأرض، فذكره. وأخرجه الحارث بن أبي أسامة، وابن مردويه عن أبي هريرة، عن عثمان. وأخرجه العقيلي، والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عمر، عن عثمان.

وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس: أن قريشاً دعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطوه مالاً، فيكون أغنى رجل بمكة، ويزوّجوه ما أراد من النساء، ويطأون عقبه، فقالوا له: هذا لك يا محمد، وتكفّ عن شتم آلهتنا، ولا تذكرها بسوء. قال: "حتى أنظر ما يأتيني من ربي" فجاء بالوحي: { { قُلْ ياأَيُّهَا ٱلْكَـٰفِرُونَ } [الكافرون: 1] إلى آخر السورة، وأنزل الله عليه: { قُلْ أَفَغَيْرَ ٱللَّهِ تَأْمُرُونّى أَعْبُدُ أَيُّهَا ٱلْجَـٰهِلُونَ } إلى قوله: { مّنَ ٱلْخَـٰسِرِينَ }. وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما عن ابن مسعود قال: جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد إنا نجد أن الله يحمل السماوات يوم القيامة على أصبع، والشجر على أصبع، والماء والثرى على أصبع، وسائر الخلق على أصبع، فيقول: أنا الملك، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحبر، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: { وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَٱلأَرْضُ جَمِيعـاً قَبْضَـتُهُ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ }، وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما من حديث أبي هريرة، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يقبض الله الأرض يوم القيامة، ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك أين ملوك الأرض؟" وفي الباب أحاديث، وآثار تقتضي حمل الآية على ظاهرها من دون تكلف لتأويل، ولا تعسف لقال وقيل.

وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما عن أبي هريرة قال: قال رجل من اليهود بسوق المدينة: والذي اصطفى موسى على البشر، فرفع رجل من الأنصار يده، فلطمه، فقال: أتقول هذا وفينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "قال الله: { وَنُفِخَ فِى ٱلصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَمَن فِى ٱلأَرْضِ إِلاَّ مَن شَاء ٱللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ }، فأكون أوّل من يرفع رأسه، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أرفع رأسه قبلي، أو كان ممن استثنى الله" وأخرج أبو يعلى، والدارقطني في الإفراد، وابن المنذر، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في البعث عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: { إِلاَّ مَن شَاء ٱللَّهُ } قال: "هم الشهداء متقلدون أسيافهم حول عرشه تتلقاهم الملائكة يوم القيامة" الحديث. وأخرجه سعيد بن منصور، وعبد بن حميد من أقوال أبي هريرة. وأخرج الفريابي، وابن جرير، وأبو نصر السجزي في الإبانة، وابن مردويه عن أنس: أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله: { إِلاَّ مَن شَاء ٱللَّهُ }، فقال: "جبريل، وميكائيل، وملك الموت، وإسرافيل، وحملة العرش" وأخرج ابن المنذر عن جابر في قوله: { إِلاَّ مَن شَاء ٱللَّهُ } قال: موسى، لأنه كان صعق قبل. والأحاديث الواردة في كيفية نفخ الصور كثيرة. وأخرج عبد بن حميد، عن ابن عباس في قوله: { وَجِـىء بِٱلنَّبِيّيْنَ وَٱلشُّهَدَاء } قال: النبيين الرسل، والشهداء الذين يشهدون لهم بالبلاغ ليس فيهم طعان، ولا لعان. وأخرج ابن جرير، وابن مردويه عنه في الآية قال: يشهدون بتبليغ الرسالة، وتكذيب الأمم إياهم.