التفاسير

< >
عرض

يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّٰمِينَ بِٱلْقِسْطِ شُهَدَآءَ للَّهِ وَلَوْ عَلَىۤ أَنْفُسِكُمْ أَوِ ٱلْوَٰلِدَيْنِ وَٱلأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَٱللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ ٱلْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً
١٣٥
يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ءَامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَٱلْكِتَٰبِ ٱلَّذِي نَزَّلَ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَٱلْكِتَٰبِ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِٱللَّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً
١٣٦
-النساء

فتح القدير

قوله: { قَوَّامِينَ } صيغة مبالغة، أي: ليتكرر منكم القيام بالقسط، وهو العدل في شهادتكم على أنفسكم، وهو الإقرار بما عليكم من الحقوق، وأما شهادته على والديه فبأن يشهد عليهما بحق للغير. وكذلك الشهادة على الأقربين، وذكر الأبوين لوجوب برّهما، وكونهما أحبّ الخلق إليه، ثم ذكر الأقربين؛ لأنهم مظنة المودّة والتعصب، فإذا شهدوا على هؤلاء بما عليهم، فالأجنبي من الناس أحرى أن يشهدوا عليه. وقد قيل: إن معنى الشهادة على النفس أن يشهد بحق على من يخشى لحوق ضرر منه على نفسه، وهو بعيد. وقوله: { شُهَدَاء للَّهِ } خبر بعد خبر لكان، أو حال، ولم ينصرف؛ لأن فيه ألف التأنيث. وقال ابن عطية: الحال فيه ضعيفة في المعنى؛ لأنها تخصص القيام بالقسط إلى معنى الشهادة فقط. وقوله: { لِلَّهِ } أي: لمرضاته وثوابه. وقوله: { وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ } متعلق بشهداء، هذا المعنى الظاهر من الآية؛ وقيل معنى: { شُهَدَاء للَّهِ } بالوحدانية، فيتعلق قوله: { وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ } بقوّامين، والأوّل أولى.

قوله: { إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً } اسم كان مقدّر، أي: إن يكن المشهود عليه غنياً، فلا يراعى لأجل غناه استجلاباً لنفعه، أو استدفاعاً لضره، فيترك الشهادة عليه، أو فقيراً فلا يراعى لأجل فقره رحمة له، وإشفاقاً عليه، فيترك الشهادة عليه، وإنما قال: { فَٱللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا } ولم يقل به مع أن التخيير إنما يدل على الحصول لواحد؛ لأن المعنى: فالله أولى بكل واحد منهما. وقال الأخفش: تكون "أو" بمعنى الواو؛ وقيل: إنه يجوز ذلك مع تقدّم ذكرهما كما في قوله: { { وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلّ وٰحِدٍ مّنْهُمَا ٱلسُّدُسُ } [النساء: 12]. وقد تقدّم في مثل هذا ما هو أبسط مما هنا. وقرأ أبيّ: «فالله أولى بهم». وقرأ ابن مسعود: «إن يكن غنيّ أو فقير» على أن كان تامة: { فَلاَ تَتَّبِعُواْ ٱلْهَوَىٰ } نهاهم عن اتباع الهوى. وقوله: { أَن تَعْدِلُواْ } في موضع نصب، وهو إما من العدل كأنه قال: فلا تتبعوا الهوى كراهة أن تعدلوا بين الناس، أو من العدول كأنه قال: فلا تتبعوا الهوى مخافة أن تعدلوا عن الحق، أو كراهة أن تعدلوا عن الحق.

قوله: { وَإِن تَلْوُواْ } من الليّ، يقال لويت فلاناً حقه: إذا دفعته عنه. والمراد ليّ الشهادة ميلاً إلى المشهود عليه. وقرأ ابن عامر، والكوفيون «وإن تلوا» من الولاية، أي: وإن تلوا الشهادة، وتتركوا ما يجب عليكم من تأديتها على وجه الحق. وقد قيل: إن هذه القراءة تفيد معنيين: الولاية، والإعراض. والقراءة الأولى تفيد معنى واحداً وهو الإعراض. وزعم بعض النحويين أن القراءة الثانية غلط ولحن؛ لأنه لا معنى للولاية هاهنا. قال النحاس وغيره: وليس يلزم هذا، ولكن يكون تلوا بمعنى تلووا، وذلك أن أصله تلووا، فاستثقلت الضمة على الواو وبعدها واو أخرى، فألقيت الحركة على اللام، وحذفت إحدى الواوين لالتقاء الساكنين. وذكر الزجاج نحوه. قوله: { أَوْ تُعْرِضُواْ } أي: عن تأدية الشهادة من الأصل { فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } أي: بما تعملون من الليّ والإعراض، أو من كل عمل، وفي هذا وعيد شديد لمن لم يأت بالشهادة، كما تجب عليه، وقد روى أن هذه الآية تعمّ القاضي والشهود، أما الشهود فظاهر، وأما القاضي فذلك بأن يعرض عن أحد الخصمين، أو يلوى عن الكلام معه وقيل: هي خاصة بالشهود. قوله: { يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ءامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ } أي: اثبتوا على إيمانكم، وداوموا عليه، والخطاب هنا للمؤمنين جميعاً { وَٱلْكِتَـٰبِ ٱلَّذِى نَزَّلَ عَلَىٰ رَسُولِهِ } هو القرآن، واللام للعهد { وَٱلْكِتَـٰبِ ٱلَّذِى أَنَزلَ مِن قَبْلُ } هو كل كتاب، واللام للجنس. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر "نزل"، و"أنزل" بالضم. وقرأ الباقون بالفتح فيهما. وقيل إن الآية نزلت في المنافقين. والمعنى: يا أيها الذين آمنوا في الظاهر أخلصوا لله. وقيل نزلت في المشركين، والمعنى: يا أيها الذين آمنوا باللات والعزى آمنوا بالله، وهما ضعيفان. قوله: { وَمَن يَكْفُرْ بِٱللَّهِ وَمَلَـئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } أي: بشيء من ذلك { فَقَدْ ضَلَّ } عن القصد { ضَلَـٰلاً بَعِيداً } وذكر الرسول فيما سبق لذكر الكتاب الذي أنزل عليه، وذكر الرسل هنا لذكر الكتب جملة، فناسبه ذكر الرسل جملة، وتقديم الملائكة على الرسل؛ لأنهم الوسائط بين الله وبين رسله.

وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله: { يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ } الآية: قال، أمر الله المؤمنين أن يقولوا بالحق ولو على أنفسهم أو آبائهم أو أبنائهم، لا يحابون غنياً لغناه، ولا يرحمون مسكيناً لمسكنته، وفي قوله: { فَلاَ تَتَّبِعُواْ ٱلْهَوَىٰ } فتذروا الحق فتجوروا { وَإِن تَلْوُواْ } يعني بألسنتكم بالشهادة { أَوْ تُعْرِضُواْ } عنها. وأخرج أحمد، وابن أبي شيبة،وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو نعيم في الحلية عنه في معنى الآية قال: الرجلان يجلسان عند القاضي، فيكون ليّ القاضي وإعراضه لأحد الرجلين على الآخر. وأخرج ابن المنذر عنه أيضاً قال: لما قدم النبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة كانت البقرة أوّل سورة نزلت، ثم أردفها سورة النساء، قال: فكان الرجل تكون عنده الشهادة قبل ابن عمه أو ذوي رحمه، فيلوى بها لسانه أو يكتمها مما يرى من عسرته حتى يوسر، فيقضي حين يوسر، فنزلت: { كُونُواْ قَوَّامِينَ بِٱلْقِسْطِ } الآية.

وأخرج ابن جرير عنه أيضاً { وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ } يقول: تلوي لسانك بغير الحق، وهي اللجلجة، فلا تقيم الشهادة على وجهها. والإعراض: الترك. وأخرج الثعلبي عن ابن عباس أن عبد الله بن سلام وأسدا وأسيدا ابني كعب، وثعلبة بن قيس وسلاماً ابن أخت عبد الله بن سلام، وسلمة ابن أخيه، ويامين بن يامين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله إنا نؤمن بك وبكتابك، وموسى والتوراة وعزير، ونكفر بما سواه من الكتب والرسل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بل آمنوا بالله ورسوله محمد، وبكتابه القرآن وبكل كتاب كان قبله" ، فقالوا: لا نفعل، فنزلت: { يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ءامِنُواْ بِٱللَّهِ } الآية. وينبغي النظر في صحة هذا، فالثعلبيرحمه الله ليس من رجال الرواية، ولا يفرّق بين الصحيح والموضوع.

وأخرج ابن المنذر، عن الضحاك في هذه الآية قال: يعني بذلك: أهل الكتاب، كان الله قد أخذ ميثاقهم في التوراة والإنجيل، وأقرّوا على أنفسهم أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، فلما بعث الله رسوله دعاهم إلى أن يؤمنوا بمحمد والقرآن، وذكرهم الذي أخذ عليهم من الميثاق، فمنهم من صدّق النبيّ صلى الله عليه وسلم واتبعه، ومنهم من كفر.