التفاسير

< >
عرض

يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَٱنفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ ٱنْفِرُواْ جَمِيعاً
٧١
وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَٰبَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَّعَهُمْ شَهِيداً
٧٢
وَلَئِنْ أَصَٰبَكُمْ فَضْلٌ مِنَ الله لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يٰلَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً
٧٣
فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يَشْرُونَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا بِٱلآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً
٧٤
وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ ٱلرِّجَالِ وَٱلنِّسَآءِ وَٱلْوِلْدَٰنِ ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْ هَـٰذِهِ ٱلْقَرْيَةِ ٱلظَّالِمِ أَهْلُهَا وَٱجْعَلْ لَّنَا مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً وَٱجْعَلْ لَّنَا مِن لَّدُنْكَ نَصِيراً
٧٥
ٱلَّذِينَ آمَنُواْ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱلطَّٰغُوتِ فَقَٰتِلُوۤاْ أَوْلِيَاءَ ٱلشَّيْطَٰنِ إِنَّ كَيْدَ ٱلشَّيْطَٰنِ كَانَ ضَعِيفاً
٧٦
-النساء

فتح القدير

قوله: { يا أيها الذين آمنوا } هذا خطاب لخلص المؤمنين، وأمر لهم بجهاد الكفار، والخروج في سبيل الله، والحذر، والحذر لغتان: كالمثل، والمثل. قال الفراء: أكثر الكلام الحذر، والحذر مسموع أيضاً، يقال: خذ حذرك أي: احذر، وقيل: معنى الآية: الأمر لهم بأخذ السلاح حذراً؛ لأن به الحذر. قوله: { فَٱنفِرُواْ } نفر ينفر بكسر الفاء نفيراً، ونفرت الدابة تنفر بضم الفاء نفوراً. والمعنى: انهضوا لقتال العدوّ. أو النفير اسم للقوم الذين ينفرون، وأصله من النفار، والنفور، وهو: الفزع، ومنه قوله تعالى: { { وَلَّوْاْ عَلَىٰ أَدْبَـٰرِهِمْ نُفُوراً } [الإسراء: 46] أي: نافرين، قوله: { ثُبَاتٍ } جمع ثبة، أي: جماعة، والمعنى: انفروا جماعات متفرقات. قوله: { أَوِ ٱنْفِرُواْ جَمِيعاً } أي: مجتمعين جيشاً واحداً. ومعنى الآية: الأمر لهم بأن ينفروا على أحد الوصفين؛ ليكون ذلك أشدّ على عدوّهم، وليأمنوا من أن يتخطفهم الأعداء، إذا نفر كل واحد منهم وحده أو نحو ذلك، وقيل: إن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: { { ٱنْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً } [التوبة: 41] وبقوله: { { إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذّبْكُمْ } [التوبة: 39] والصحيح أن الآيتين جميعاً محكمتان: إحداهما في الوقت الذي يحتاج فيه إلى نفور الجميع، والأخرى عند الاكتفاء بنفور البعض دون البعض.

قوله: { وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطّئَنَّ } التبطئة والإبطاء التأخر، والمراد: المنافقون كانوا يقعدون عن الخروج، ويقعدون غيرهم. والمعنى: أن من دخلائكم وجنسكم ومن أظهر إيمانه لكم نفاقاً من يبطيء المؤمنين ويثبطهم، واللام في قوله: "لِمَنْ" لام توكيد، وفي قوله: { لَّيُبَطّئَنَّ } لام جواب القسم، و «من» في موضع نصب، وصلتها الجملة. وقرأ مجاهد، والنخعي، والكلبي { لَّيُبَطّئَنَّ } بالتخفيف { فَإِنْ أَصَـٰبَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ } من قتل أو هزيمة أو ذهاب مال. قال هذا المنافق قد أنعم الله عليّ إذ لم أكن معهم حتى يصيبني ما أصابهم { وَلَئِنْ أَصَـٰبَكُمْ فَضْلٌ مِنَ } غنيمة أو فتح { لَّيَقُولَنَّ } هذا المنافق قول نادم حاسد { يٰلَيتَنِى كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً }.

قوله: { كَأَن لَّمْ يَكُنِ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ } جملة معترضة بين الفعل الذي هو { ليقولن } وبين مفعوله، وهو: { يا لَيْتَنِى } وقيل: إن في الكلام تقديماً وتأخيراً. وقيل: المعنى: ليقولنّ كأن لم تكن بينكم وبينه مودّة أي: كأن لم يعاقدكم على الجهاد. وقيل: هو في موضع نصب على الحال. وقرأ الحسن: "لَّيَقُولَنَّ" بضم اللام على معنى من. وقرأ ابن كثير، وحفص عن عاصم "كَأَن لَّمْ تَكُنْ" بالتاء على الفظ المودّة. قوله: { فَأَفُوزَ } بالنصب على جواب التمني. وقرأ الحسن: "فَأَفُوزَ" بالرفع.

قوله: { فَلْيُقَاتِلْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ } هذا أمر للمؤمنين، وقدّم الظرف على الفاعل للاهتمام به. و { ٱلَّذِينَ يَشْرُونَ } معناه: يبيعون، وهم المؤمنون، والفاء في قوله: { فَلْيُقَاتِلْ } جواب الشرط مقدّر، أي: لم يقاتل هؤلاء المذكورون سابقاً الموصوفون بأن منهم لمن ليبطئن، فليقاتل المخلصون الباذلون أنفسهم البائعون للحياة الدنيا بالآخرة، ثم وعد المقاتلين في سبيل الله بأنه سيؤتيهم أجراً عظيماً لا يقادر قدره، وذلك أنه إذا قتل فاز بالشهادة التي هي أعلى درجات الأجور، وإن غلب، وظفر كان له أجر من قاتل في سبيل الله مع ما قد ناله من العلوّ في الدنيا والغنيمة، وظاهر هذا يقتضي التسوية بين من قتل شهيداً، أو انقلب غانماً، وربما يقال: إن التسوية بينهما إنما هي في إيتاء الأجر العظيم، ولا يلزم أن يكون أجرهما مستوياً، فإن كون الشيء عظيماً هو من الأمور النسبية التي يكون بعضها عظيماً بالنسبة إلى ما هو دونه، وحقيراً بالنسبة إلى ما هو فوقه.

قوله: { وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَـٰتِلُونَ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ } خطاب للمؤمنين المأمورين بالقتال على طريق الالتفات. قوله: { ٱلْمُسْتَضْعَفِينَ } مجرور عطفاً على الاسم الشريف، أي: ما لكم لا تقاتلون في سبيل الله، وسبيل المستضعفين حتى تخلصوهم من الأسر، وتريحوهم مما هم فيه من الجهد. ويجوز أن يكون منصوباً على الاختصاص، أي: وأخص المستضعفين، فإنهم من أعظم ما يصدق عليه سبيل الله، واختار الأوّل الزجاج، والأزهري. وقال محمد بن يزيد: أختار أن يكون المعنى، وفي المستضعفين، فيكون عطفاً على السبيل، والمراد بالمستضعفين هنا: من كان بمكة من المؤمنين تحت إذلال الكفار، وهم: الذين كان يدعو لهم النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول: "اللهم أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعيّاش بن أبي ربيعة، والمستضعفين من المؤمنين" كما في الصحيح. ولا يبعد أن يقال: إن لفظ الآية أوسع، والاعتبار بعموم اللفظ لولا تقييده بقوله: { ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَـٰذِهِ ٱلْقَرْيَةِ ٱلظَّـٰلِمِ أَهْلُهَا } فإنه يشعر باختصاص ذلك بالمستضعفين الكائنين في مكة؛ لأنه قد أجمع المفسرون على أن المراد بالقرية الظالم أهلها: مكة. وقوله: { مِنَ ٱلرّجَالِ وَٱلنّسَاء وَٱلْوِلْدٰنِ } بيان للمستضعفين.

قوله: { ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ يُقَـٰتِلُونَ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ } هذا ترغيب للمؤمنين، وتنشيط لهم بأن قتالهم لهذا المقصد لا لغيره { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَـٰتِلُونَ فِى سَبِيلِ ٱلطَّـٰغُوتِ } أي: سبيل الشيطان، أو الكهان، أو الأصنام، وتفسير الطاغوت هنا بالشيطان أولى لقوله: { فَقَـٰتِلُواْ أَوْلِيَاء ٱلشَّيْطَـٰنِ إِنَّ كَيْدَ ٱلشَّيْطَـٰنِ كَانَ ضَعِيفاً } أي: مكره، ومكر من اتبعه من الكفار.

وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: { فَٱنفِرُواْ ثُبَاتٍ } قال: عصباً، يعني سرايا متفرقين { أَوِ ٱنْفِرُواْ جَمِيعاً } يعني كلكم. وأخرج أبو داود في ناسخه، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه عنه قال في سورة النساء: { خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَٱنفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ ٱنْفِرُواْ جَمِيعاً } نسختها: { { وَمَا كَانَ ٱلْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّةً } [التوبة: 122]. وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن مجاهد في قوله: { ثُبَاتٍ } أي: فرقاً قليلاً. وأخرج عن قتادة في قوله: { أَوِ ٱنْفِرُواْ جَمِيعاً } أي: إذا نفر نبي الله صلى الله عليه وسلم، فليس لأحد أن يتخلف عنه. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن السدي نحوه.

وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد في قوله: { وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطّئَنَّ } إلى قوله: { فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً } ما بين ذلك في المنافقين. وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مقاتل بن حيان في الآية قال: هو فيما بلغنا عبد الله بن أبيّ بن سلول رأس المنافقين. وأخرج ابن أبي حاتم، عن سعيد ابن جبير { فَلْيُقَاتِلْ } يعني: يقاتل المشركين { فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ } في طاعة الله { وَمَن يُقَـٰتِلْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ فَيُقْتَلْ } يعني: يقتله العدوّ { أَو يَغْلِبْ } يعني: يغلب العدوّ من المشركين { فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً } يعني: جزاءً وافراً في الجنة، فجعل القاتل والمقتول من المسلمين في جهاد المشركين شريكين في الأجر.

وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس في قوله: { فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلْمُسْتَضْعَفِينَ } قال: وفي المستضعفين. وأخرج ابن جرير، عن الزهري قال: وسبيل المستضعفين. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عنه من طريق العوفي عن ابن عباس قال: المستضعفون أناس مسلمون كانوا بمكة لا يستطيعون أن يخرجوا منها. وأخرج البخاري، عنه قال: "أنا وأمي من المستضعفين" . وأخرج ابن جرير، عنه قال: القرية الظالم أهلها مكة. وأخرج ابن أبي حاتم، عن عائشة مثله. وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال: إذا رأيتم الشيطان، فلا تخافوه، واحملوا عليه { إِنَّ كَيْدَ ٱلشَّيْطَـٰنِ كَانَ ضَعِيفاً }. قال مجاهد: كان الشيطان يتراءى لي في الصلاة، فكنت أذكر قول ابن عباس، فأحمل عليه، فيذهب عني.