التفاسير

< >
عرض

فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ ٱلْمُؤْمِنِينَ عَسَى ٱللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَٱللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً
٨٤
مَّن يَشْفَعْ شَفَٰعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَٰعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتاً
٨٥
وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَآ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً
٨٦
ٱللَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ ٱللَّهِ حَدِيثاً
٨٧
-النساء

فتح القدير

الفاء في قوله: { فَقَاتِلْ } قيل: هي متعلقة بقوله: { { وَمَن يُقَـٰتِلْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ } [النساء: 74] الخ، أي: من أجل هذا فقاتل، وقيل: متعلقة بقوله: { وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَـٰتِلُونَ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ } } [النساء: 75] فقاتل وقيل: هي جواب شرط محذوف يدل عليه السياق تقديره: إذا كان الأمر ما ذكر من عدم طاعة المنافقين فقاتل، أو إذا أفردوك وتركوك فقاتل. قال الزجاج: أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالجهاد، وإن قاتل وحده؛ لأنه قد ضمن له النصر. قال ابن عطية: هذا ظاهر اللفظ، إلا أنه لم يجيء في خبر قط أن القتال فرض عليه دون الأمة. فالمعنى والله أعلم: أنه خطاب له في اللفظ، وفي المعنى له ولأمته، أي: أنت يا محمد وكل واحد من أمتك يقال له: { فَقَاتِلْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ } أي: لا تكلف إلا نفسك، ولا تلزم فعل غيرك، وهو استئناف مقرّر لما قبله؛ لأن اختصاص تكليفه بفعل نفسه من موجبات مباشرته للقتال وحده. وقريء: { لاَ تُكَلَّفُ } بالجزم على النهي، وقريء بالنون.

قوله: { وَحَرّضِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } أي: حضهم على القتال، والجهاد، يقال حرّضت فلاناً على كذا: إذا أمرته به، وحارض فلان على الأمر وأكبّ عليه وواظب عليه بمعنى واحد. قوله: { عَسَى ٱللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } فيه إطماع للمؤمنين بكفّ بأس الذين كفروا عنهم، والاطماع من الله عز وجلّ واجب، فهو وعد منه سبحانه، ووعده كائن لا محالة { وَٱللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً } أي: أشدّ صول وأعظم سلطاناً { وَأَشَدُّ تَنكِيلاً } أي: عقوبة، يقال: نكلت بالرجل تنكيلاً من النكال وهو: العذاب. والمنكل الشيء الذي ينكل بالإنسان.

{ مَّن يَشْفَعْ شَفَـٰعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَّهُ نَصِيبٌ مّنْهَا } أصل الشفاعة والشفعة ونحوهما من الشفع وهو: الزوج، ومنه الشفيع؛ لأنه يصير مع صاحب الحاجة شفعاً، ومنه ناقة شفوع: إذا جمعت بين محلبين في حلبة واحدة، وناقة شفيع: إذا اجتمع لها حمل وولد يتبعها. والشفع: ضمّ واحد إلى واحد، والشفعة: ضم ملك الشريك إلى ملكك، فالشفاعة: ضمّ غيرك إلى جاهك ووسيلتك، فهي على التحقيق إظهار لمنزلة الشفيع عند المشفع، واتصال منفعة إلى المشفوع له. والشفاعة الحسنة هي: في البرّ والطاعة. والشفاعة السيئة في المعاصي، فمن شفع في الخير؛ لينفع فله نصيب منها، أي: من أجرها، ومن شفع في الشر، كمن يسعى بالنميمة والغيبة كان له كفل منها، أي: نصيب من وزرها. والكفل: الوزر والإثم، واشتقاقه من الكساء الذي يجعله الراكب على سنام البعير لئلا يسقط، يقال اكتفلت البعير: إذا أدرت على سنامه كساء وركبت عليه؛ لأنه لم يستعمل الظهر كله بل استعمل نصيباً منه، ويستعمل في النصيب من الخير والشرّ. ومن استعماله في الخير قوله تعالى: { { يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ } [الحديد: 28] { وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلّ شَىْء مُّقِيتاً } أي: مقتدراً، قاله الكسائي. وقال الفراء: المقيت الذي يعطي كل إنسان قوته يقال: قته أقوته قوتاً، وأقته أقيته إقاتة، فأنا قائت ومقيت، وحكى الكسائي أقات يقيت. وقال أبو عبيدة: المقيت الحافظ. قال النحاس: وقول أبي عبيدة أولى؛ لأنه مشتق من القوت، والقوت معناه: مقدار ما يحفظ الإنسان. وقال ابن فارس في المجمل: المقيت المقتدر، والمقيت: الحافظ والشاهد. وأما قول الشاعر:

ألي الفضل أم عليّ إذا حو سبت إني على الحساب مقيت

فقال ابن جرير الطبري إنه من غير هذا المعنى.

قوله: { وَإِذَا حُيّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا } التحية تفعلة من حييت، والأصل تحيية مثل ترضية وتسمية؛ فأدغموا الياء في الياء، وأصلها الدعاء بالحياة. والتحية: السلام، وهذا المعنى هو المراد هنا، ومثله قوله تعالى: { وَإِذَا جَاءوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيّكَ بِهِ ٱللَّهُ } [المجادلة: 8] وإلى هذا ذهب جماعة المفسرين، وروي عن مالك أن المراد بالتحية هنا: تشميت العاطس. وقال أصحاب أبي حنيفة، التحية هنا الهدية لقوله: { أَوْ رُدُّوهَا } ولا يمكن ردّ السلام بعينه، وهذا فاسد لا ينبغي الالتفات إليه. والمراد بقوله: { فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا } أن يزيد في الجواب على ما قاله المبتدىء بالتحية، فإذا قال المبتدىء: السلام عليكم، قال المجيب: وعليكم السلام ورحمة الله، وإذا زاد المبتدىء لفظاً زاد المجيب على جملة ما جاء به المبتدىء لفظاً أو ألفاظاً نحو: وبركاته، ومرضاته، وتحياته.

قال القرطبي: أجمع العلماء على أن الابتداء بالسلام سنة مرغب فيها، وردّه فريضة لقوله: { فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا } واختلفوا إذا ردّ واحد من جماعة هل يجزىء أو لا؟ فذهب مالك، والشافعي إلى الإجزاء، وذهب الكوفيون إلى أنه لا يجزىء عن غيره، ويردّ عليهم حديث عليّ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " "يجزىء عن الجماعة إذا مرّوا أن يسلم أحدهم، ويجزىء عن الجلوس أن يردّ أحدهم" أخرجه أبو داود، وفي إسناده سعيد بن خالد الخزاعي المدني، وليس به بأس، وقد ضعفه بعضهم. وقد حسن الحديث ابن عبد البرّ.

ومعنى قوله: { أَوْ رُدُّوهَا } الاقتصار على مثل اللفظ الذي جاء به المبتدىء، فإذا قال السلام عليكم، قال المجيب: وعليكم السلام. وقد ورد في السنة المطهرة في تعيين من يبتدىء بالسلام، ومن يستحق التحية ومن لا يستحقها ما يغني عن البسط هاهنا. قوله: { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلّ شَىْء حَسِيباً } يحاسبكم على كل شيء وقيل: معناه حفيظاً وقيل: كافياً، قولهم أحسبني كذا: أي: كفاني، ومثله: { حَسْبَكَ ٱللَّهُ } } [الأنفال: 62، 64].

قوله: { ٱللَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } مبتدأ وخبر، واللام في قوله: { لَيَجْمَعَنَّكُمْ } جواب قسم محذوف، أي: والله ليجمعنكم الله بالحشر إلى يوم القيامة، أي: إلى حساب يوم القيامة وقيل: "إلى" بمعنى في، وقيل: إنها زائدة. والمعنى: ليجمعنكم يوم القيامة، و{ يَوْمُ ٱلْقِيَـٰمَةِ } يوم القيام من القبور { لاَ رَيْبَ فِيهِ } أي: في يوم القيامة، أو في الجمع، أي: جمعاً لا ريب فيه: { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ ٱللَّهِ حَدِيثاً } إنكار لأن يكون أحد أصدق منه سبحانه. وقرأ حمزة، والكسائي، «ومن أزدق» بالزاي. وقرأ الباقون بالصاد، والصاد الأصل. وقد تبدل زاياً لقرب مخرجها منها.

وقد أخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن أبي سنان في قوله: { وَحَرّضِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } قال: عظهم. وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد في قوله: { مَّن يَشْفَعْ شَفَـٰعَةً حَسَنَةً } الآية، قال: شفاعة الناس بعضهم لبعض. وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن قتادة في قوله: { يَكُنْ لَّهُ نَصِيبٌ مّنْهَا } قال: حظ منها. وقوله: { كِفْلٌ مَّنْهَا } قال: الكفل هو الإثم. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن السدي قال: الكفل الحظ. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي، عن ابن عباس في قوله: { وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلّ شَىْء مُّقِيتاً } قال: حفيظاً. وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن عبد الله بن رواحة: أنه سأله رجل، عن قول الله: { وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلّ شَىْء مُّقِيتاً } قال: يقيت كل إنسان بقدر عمله. وفي إسناده رجل مجهول. وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد في قوله: { مُّقِيتاً } قال: شهيداً. وأخرج ابن جرير عنه { مُّقِيتاً } قال: شهيداً حسيباً حفيظاً. وأخرج ابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير في قوله: { مُّقِيتاً } قال: قادراً. وأخرج ابن جرير، عن السدّي قال: المقيت القدير. وأخرج أيضاً، عن ابن زيد مثله. وأخرج ابن أبي حاتم، عن الضحاك قال: المقيت الرزاق. وأخرج ابن أبي شيبة، والبخاري في الأدب المفرد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال: من سلم عليك من خلق الله، فاردد عليه، وإن كان يهودياً، أو نصرانياً، أو مجوسياً، ذلك بأن الله يقول: { وَإِذَا حُيّيتُم بِتَحِيَّةٍ } الآية. وأخرج أحمد في الزهد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وابن مردويه. قال السيوطي بسند حسن عن سلمان الفارسي قال: «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: السلام عليك يا رسول الله، فقال: "وعليك ورحمة الله" ، ثم أتى آخر، فقال: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله، فقال: وعليك ورحمة الله وبركاته، ثم جاء آخر، فقال: السلام عليك ورحمة الله وبركاته، فقال له: "وعليك" ، فقال له الرجل: يا نبي الله، بأبي أنت وأمي أتاك فلان وفلان فسلما عليك، فرددت عليهما أكثر مما رددت علي؟ فقال: "إنك لم تدع لنا شيئاً، قال الله: { وَإِذَا حُيّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا } فرددناها عليك" .

وأخرج البخاري في الأدب المفرد، عن أبي هريرة: أن رجلاً مرّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في مجلس، فقال: سلام عليكم، فقال: "عشر حسنات" ، فمرّ رجل آخر، فقال: السلام عليكم ورحمة الله، فقال: عشرون حسنة، فمرّ رجل آخر، فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فقال: "ثلاثون حسنة" . وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمر مرفوعاً نحوه. وأخرج البيهقي، عن سهل بن حنيف مرفوعاً نحوه أيضاً. وأخرج أحمد، والدارمي، وأبو داود، والترمذي وحسنه، والنسائي، والبيهقي، عن عمران بن حصين مرفوعاً نحوه أيضاً، وزاد بعد كل مرّة أن النبي صلى الله عليه وسلم ردّ عليه، ثم قال: "عشر" إلى آخره. وأخرج أبو داود، والبيهقي عن معاذ بن أنس الجهني مرفوعاً نحوه. وزاد بعد قوله وبركاته: ومغفرته، فقال: "أربعون" ، يعني حسنة.