التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ ٱللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُـمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى ٱلإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ
١٠
قَالُواْ رَبَّنَآ أَمَتَّنَا ٱثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا ٱثْنَتَيْنِ فَٱعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَىٰ خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ
١١
ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ ٱللَّهُ وَحْدَهُ كَـفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُواْ فَٱلْحُكْمُ للَّهِ ٱلْعَلِـيِّ ٱلْكَبِيرِ
١٢
هُوَ ٱلَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ رِزْقاً وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَن يُنِيبُ
١٣
فَٱدْعُواْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْكَافِرُونَ
١٤
رَفِيعُ ٱلدَّرَجَاتِ ذُو ٱلْعَرْشِ يُلْقِي ٱلرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ ٱلتَّلاَقِ
١٥
يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لاَ يَخْفَىٰ عَلَى ٱللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ لِلَّهِ ٱلْوَاحِدِ ٱلْقَهَّارِ
١٦
ٱلْيَوْمَ تُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَـسَبَتْ لاَ ظُلْمَ ٱلْيَوْمَ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ
١٧
وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ ٱلأَزِفَةِ إِذِ ٱلْقُلُوبُ لَدَى ٱلْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ
١٨
يَعْلَمُ خَآئِنَةَ ٱلأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي ٱلصُّدُورُ
١٩
وَٱللَّهُ يَقْضِي بِٱلْحَقِّ وَٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ
٢٠
-غافر

فتح القدير

لما ذكر سبحانه حال أصحاب النار، وأنها حقت عليهم كلمة العذاب، وأنهم أصحاب النار ذكر أحوالهم بعد دخول النار، فقال: { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُنَادَوْنَ }. قال الواحدي: قال المفسرون: إنهم لما رأوا أعمالهم، ونظروا في كتابهم، وأدخلوا النار، ومقتوا أنفسهم بسوء صنيعهم ناداهم حين عاينوا عذاب الله مناد: { لَمَقْتُ ٱللَّهِ } إياكم في الدنيا إذ تدعون إلى الإيمان، فتكفرون { أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُـمْ } اليوم. قال الأخفش: هذه اللام في لمقت هي: لام الابتداء أوقعت بعد ينادون؛ لأن معناه: يقال لهم، والنداء قول. قال الكلبي: يقول كل إنسان لنفسه من أهل النار: مقتك يا نفس، فتقول الملائكة لهم، وهم في النار: لمقت الله إياكم في الدنيا أشدّ من مقتكم أنفسكم اليوم. وقال الحسن: يعطون كتابهم، فإذا نظروا إلى سيئاتهم مقتوا أنفسهم، فينادون: لمقت الله إياكم في الدنيا { إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى ٱلإِيمَـٰنِ } أكبر من مقتكم أنفسكم إذ عاينتم النار، والظرف في: { إِذْ تَدْعُونَ } منصوب بمقدّر محذوف دلّ عليه المذكور، أي: مقتكم وقت دعائكم. وقيل: بمحذوف هو: اذكروا. وقيل: بالمقت المذكور، والمقت أشدّ البغض.

ثم أخبر سبحانه عما يقولون في النار، فقال: { قَالُواْ رَبَّنَا أَمَتَّنَا ٱثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا ٱثْنَتَيْنِ } اثنتين في الموضعين نعتان لمصدر محذوف، أي: أمتنا إماتتين اثنتين، وأحييتنا إحياءتين اثنتين، والمراد بالإماتتين: أنهم كانوا نطفاً لا حياة لهم في أصلاب آبائهم، ثم أماتهم بعد أن صاروا أحياء في الدنيا، والمراد بالإحياءتين: أنه أحياهم الحياة الأولى في الدنيا، ثم أحياهم عند البعث، ومثل هذه الآية قوله: { { وَكُنتُمْ أَمْوٰتًا فَأَحْيَـٰكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } [البقرة: 28]. وقيل: معنى الآية: أنهم أميتوا في الدنيا عند انقضاء آجالهم، ثم أحياهم الله في قبورهم للسؤال، ثم أميتوا، ثم أحياهم الله في الآخرة، ووجه هذا القول: أن الموت سلب الحياة، ولا حياة للنطفة. ووجه القول الأوّل: أن الموت قد يطلق على عادم الحياة من الأصل، وقد ذهب إلى تفسير الأوّل جمهور السلف. وقال ابن زيد: المراد بالآية: أنه خلقهم في ظهر آدم، واستخرجهم، وأحياهم، وأخذ عليهم الميثاق، ثم أماتهم، ثم أحياهم في الدنيا، ثم أماتهم. ثم ذكر سبحانه اعترافهم بعد أن صاروا في النار بما كذبوا به في الدنيا، فقال حاكياً عنهم: { فَٱعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا } التي أسلفناها في الدنيا من تكذيب الرّسل، والإشراك بالله، وترك توحيده، فاعترفوا حيث لا ينفعهم الاعتراف، وندموا حيث لا ينفعهم الندم، وقد جعلوا اعترافهم هذا مقدّمة لقولهم: { فَهَلْ إِلَىٰ خُرُوجٍ مّن سَبِيلٍ } أي: هل إلى خروج لنا من النار، ورجوع لنا إلى الدنيا من سبيل، ومثل هذا قولهم الذي حكاه الله عنهم: { { فَهَلْ إِلَىٰ مَرَدّ مّن سَبِيلٍ } [الشورى: 44]، وقوله: { { فَٱرْجِعْنَا نَعْمَلْ صَـٰلِحاً } [السجدة: 12]، وقوله: { { يٰلَيْتَنَا نُرَدُّ } [الأنعام: 27] الآية.

ثم أجاب الله سبحانه عن قولهم هذا بقوله: { ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِىَ ٱللَّهُ وَحْدَهُ كَـفَرْتُمْ } أي: ذلك الذي أنتم فيه من العذاب بسبب أنه إذا دعي الله في الدنيا وحده دون غيره كفرتم به، وتركتم توحيده { وَإِن يُشْرَكْ بِهِ } غيره من الأصنام، أو غيرها { تُؤْمِنُواْ } بالإشراك به، وتجيبوا الدّاعي إليه، فبيّن سبحانه لهم السبب الباعث على عدم إجابتهم إلى الخروج من النار، وهو ما كانوا فيه من ترك توحيد الله، وإشراك غيره به في العبادة التي رأسها الدّعاء، ومحل ذلكم الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: الأمر ذلكم، أو مبتدأ خبره محذوف، أي: ذلكم العذاب الذي أنتم فيه بذلك السبب، وفي الكلام حذف، والتقدير: فأجيبوا بأن لا سبيل إلى الرّدّ، وذلك لأنكم كنتم إذا دعي الله... إلخ { فَٱلْحُكْمُ للَّهِ }: وحده دون غيره، وهو الذي حكم عليكم بالخلود في النار، وعدم الخروج منها، و { ٱلْعَلِىُّ }: المتعالي عن أن يكون له مماثل في ذاته، ولا صفاته، و { ٱلْكَبِيرُ }: الذي كبر عن أن يكون له مثل، أو صاحبة، أو ولد، أو شريك { هُوَ ٱلَّذِى يُرِيكُمْ ءايَـٰتِهِ } أي: دلائل توحيده، وعلامات قدرته { وَيُنَزّلُ لَكُم مّنَ ٱلسَّمَاء رِزْقاً } يعني: المطر، فإنه سبب الأرزاق. جمع سبحانه بين إظهار الآيات، وإنزال الأرزاق، لأن بإظهار الآيات قوام الأديان، وبالأرزاق قوام الأبدان، وهذه الآيات هي: التكوينية التي جعلها الله سبحانه في سمٰواته، وأرضه، وما فيهما، وما بينهما. قرأ الجمهور: { ينزل } بالتشديد. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو بالتخفيف { وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَن يُنِيبُ } أي: ما يتذكر، ويتعظ بتلك الآيات الباهرة، فيستدلّ بها على التوحيد، وصدق الوعد، والوعيد إلا من ينيب، أي: يرجع إلى طاعة الله بما يستفيده من النظر في آيات الله.

ثم لما ذكر سبحانه ما نصبه من الأدلة على التوحيد أمر عباده بدعائه، وإخلاص الدّين له، فقال: { فَٱدْعُواْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدّينَ } أي: إذا كان الأمر كما ذكر من ذلك، فادعوا الله وحده مخلصين له العبادة التي أمركم بها { وَلَوْ كَرِهَ ٱلْكَـٰفِرُونَ } ذلك، فلا تلتفتوا إلى كراهتهم، ودعوهم يموتوا بغيظهم، ويهلكوا بحسرتهم. { رَفِيعُ ٱلدَّرَجَـٰتِ }، وارتفاع رفيع الدرجات على أنه خبر آخر عن المبتدأ المتقدّم أي: هو الذي يريكم آياته، وهو رفيع الدرجات. وكذلك { ذُو ٱلْعَرْشِ } خبر ثالث، ويجوز أن يكون رفيع الدرجات مبتدأ، وخبره { ذُو ٱلْعَرْشِ }، ويجوز أن يكونا خبرين لمبتدأ محذوف، ورفيع صفة مشبهة، والمعنى: رفيع الصفات، أو رفيع درجات ملائكته، أي: معارجهم، أو رفيع درجات أنبيائه، وأوليائه في الجنة. وقال الكلبي، وسعيد بن جبير: رفيع السمٰوات السبع، وعلى هذا الوجه يكون رفيع بمعنى: رافع، ومعنى، ذو العرش: مالكه، وخالقه، والمتصرف فيه، وذلك يقتضي علوّ شأنه، وعظم سلطانه، ومن كان كذلك، فهو الذي يحقّ له العبادة، ويجب له الإخلاص، وجملة: { يُلْقِى ٱلرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ } في محل رفع على أنها خبر آخر للمبتدأ المتقدّم، أو للمقدّر، ومعنى ذلك: أنه سبحانه يلقي الوحي { عَلَىٰ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ }، وسمي الوحي: روحاً، لأن الناس يحيون به من موت الكفر كما تحيا الأبدان بالأرواح، وقوله: { مِنْ أَمْرِهِ } متعلق بـ { يلقى }، و «من» لابتداء الغاية، ويجوز أن يكون متعلقاً بمحذوف على أنه حال من الروح، ومثل هذه الآية قوله تعالى: { { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مّنْ أَمْرِنَا } [الشورى: 52]. وقيل: الروح جبريل كما في قوله: { { نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلأَمِينُ عَلَىٰ قَلْبِكَ } [الشعراء: 193، 194]، وقوله: { { نَزَّلَهُ رُوحُ ٱلْقُدُسِ مِن رَّبّكَ بِٱلْحَقّ } [النحل: 102]، وقوله: { عَلَىٰ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ } هم: الأنبياء، ومعنى { مِنْ أَمْرِهِ }: من قضائه { لِيُنذِرَ يَوْمَ ٱلتَّلاَقِ } قرأ الجمهور: { لينذر } مبنياً للفاعل، ونصب اليوم، والفاعل هو: الله سبحانه، أو الرسول، أو من يشاء، والمنذر به محذوف تقديره: لينذر العذاب يوم التلاق. وقرأ أبيّ، وجماعة كذلك إلا أنه رفع اليوم على الفاعلية مجازاً. وقرأ ابن عباس، والحسن، وابن السميفع: (لتنذر) بالفوقية على أن الفاعل ضمير المخاطب، وهو: الرسول، أو ضمير يرجع إلى الرّوح؛ لأنه يجوز تأنيثها. وقرأ اليماني: (لينذر) على البناء للمفعول، ورفع يوم على النيابة، ومعنى { يَوْمَ ٱلتَّلاَقِ }: يوم يلتقي أهل السمٰوات، والأرض في المحشر، وبه قال قتادة. وقال أبو العالية، ومقاتل: يوم يلتقي العابدون، والمعبودون، وقيل: الظالم، والمظلوم. وقيل: الأوّلون، والآخرون. وقيل: جزاء الأعمال، والعاملون.

وقوله: { يَوْمَ هُم بَـٰرِزُونَ } بدل من يوم التلاق. وقال ابن عطية: هو منتصب بقوله: { لاَ يَخْفَىٰ عَلَى ٱللَّهِ } وقيل: منتصب بإضمار اذكر، والأوّل أولى، ومعنى بارزون: خارجون من قبورهم لا يسترهم شيء، وجملة: { لاَ يَخْفَىٰ عَلَى ٱللَّهِ مِنْهُمْ شَىْء } مستأنفة مبينة لبروزهم، ويجوز أن تكون في محل نصب على الحال من ضمير بارزون، ويجوز أن تكون خبراً ثانياً للمبتدأ، أي: لا يخفى عليه سبحانه شيء منهم، ولا من أعمالهم التي عملوها في الدنيا، وجملة: { لّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ } مستأنفة جواب عن سؤال مقدّر كأنه قيل: فماذا يقال عند بروز الخلائق في ذلك اليوم؟، فقيل: يقال: لمن الملك اليوم؟ قال المفسرون: إذا هلك كل من في السمٰوات، والأرض، فيقول الرّبّ تبارك وتعالى: { لّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ } يعني: يوم القيامة، فلا يجيبه أحد، فيجيب تعالى نفسه، فيقول: { للَّهِ ٱلْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } قال الحسن: هو السائل تعالى، وهو المجيب حين لا أحد يجيبه، فيجيب نفسه. وقيل: إنه سبحانه يأمر منادياً ينادي بذلك، فيقول أهل المحشر مؤمنهم، وكافرهم: { للَّهِ ٱلْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } وقيل: إنه يجيب المنادي بهذا الجواب أهل الجنة دون أهل النار. وقيل: هو حكاية لما ينطق به لسان الحال في ذلك اليوم لانقطاع دعاوي المبطلين، كما في قوله تعالى: { { وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ ٱلدّينِ * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ ٱلدّينِ * يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَٱلأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } [الانفطار: 17 ــ 19]، وقوله: { ٱلْيَوْمَ تُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَـسَبَتْ لاَ ظُلْمَ ٱلْيَوْمَ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } من تمام الجواب على القول بأن المجيب هو: الله سبحانه، وأما على القول بأن المجيب هم العباد كلهم، أو بعضهم، فهو: مستأنف لبيان ما يقوله الله سبحانه بعد جوابهم أي: اليوم تجزى كل نفس بما كسبت من خير وشرّ لا ظلم اليوم على أحد منهم بنقص من ثوابه، أو بزيادة في عقابه { إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } أي: سريع حسابه، لأنه سبحانه لا يحتاج إلى تفكر في ذلك كما يحتاجه غيره لإحاطة علمه بكل شيء، فلا يعزب عنه مثقال ذرة.

ثم أمر الله سبحانه رسوله: بإنذار عباده، فقال: { وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ ٱلأَزِفَةِ } أي: يوم القيامة سميت بذلك لقربها، يقال: أزف فلان، أي: قرب يأزف أزفاً، ومنه قول النابغة:

أزف الترحل غير أن ركابنا لما تزل بركابنا وكأن قد

ومنه قوله تعالى: { { أَزِفَتِ ٱلآزِفَةُ } [النجم: 57] أي: قربت الساعة. وقيل: إن يوم الآزفة هو: يوم حضور الموت، والأوّل أولى. قال الزجاج: وقيل لها: آزفة؛ لأنها قريبة، وإن استبعد الناس أمرها، وما هو كائن، فهو: قريب { إِذِ ٱلْقُلُوبُ لَدَى ٱلْحَنَاجِرِ كَـٰظِمِينَ } وذلك أنها تزول عن مواضعها من الخوف حتى تصير إلى الحنجرة كقوله: { { وَبَلَغَتِ ٱلْقُلُوبُ ٱلْحَنَاجِرَ } [الأحزاب: 10]. { كَـٰظِمِينَ } مغمومين مكروبين ممتلئين غمًّا. قال الزجاج: المعنى: إذ قلوب الناس لدى الحناجر في حال كظمهم. قال قتادة: وقعت قلوبهم في الحناجر من المخافة، فهي لا تخرج، ولا تعود في أمكنتها. وقيل: هو إخبار عن نهاية الجزع، وإنما قال كاظمين باعتبار أهل القلوب، لأن المعنى: إذ قلوب الناس لدى حناجرهم، فيكون حالاً منهم. وقيل: حالاً من القلوب، وجمع الحال منها جمع العقلاء؛ لأنه أسند إليها ما يسند إلى العقلاء فجمعت جمعه. ثم بين سبحانه: أنه لا ينفع الكافرين في ذلك اليوم أحد، فقال: { مَا لِلظَّـٰلِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ } أي: قريب ينفعهم { وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ } في شفاعته لهم، ومحل { يطاع } الجر على أنه صفة لـ { شفيع }.

ثم وصف سبحانه شمول علمه لكل شيء، وإن كان في غاية الخفاء فقال: { يَعْلَمُ خَائِنَةَ ٱلأَعْيُنِ }، وهي مسارقة النظر إلى ما لا يحلّ النظر إليه، والجملة خبر آخر لقوله: { هُوَ ٱلَّذِى يُرِيكُمُ } قال المؤرج: فيه تقديم، وتأخير، أي: يعلم الأعين الخائنة. وقال قتادة: خائنة الأعين: الهمز بالعين فيما لا يحب الله. وقال الضحاك: هو قول الإنسان ما رأيت، وقد رأى، ورأيت، وما رأى. وقال سفيان: هي: النظرة بعد النظرة. والأول أولى، وبه قال مجاهد { وَمَا تُخْفِى ٱلصُّدُورُ } من الضمائر، وتسرّه من معاصي الله { وَٱللَّهُ يَقْضِى بِٱلْحَقّ } فيجازي كل أحد بما يستحقه من خير، وشرّ { وَٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ } أي: تعبدونهم من دون الله { لاَ يَقْضُونَ بِشَىْء }، لأنهم لا يعلمون شيئاً، ولا يقدرون على شيء. قرأ الجمهور: { يدعون } بالتحتية يعني: الظالمين، واختار هذه القراءة أبو عبيد، وأبو حاتم، وقرأ نافع، وشيبة، وهشام بالفوقية على الخطاب لهم { إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ }، فلا يخفى عليه من المسموعات، والمبصرات خافية.

وقد أخرج الفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه عن ابن مسعود في قوله: { أَمَتَّنَا ٱثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا ٱثْنَتَيْنِ } قال: هي مثل التي في البقرة { { كُنتُمْ أَمْوٰتًا فَأَحْيَـٰكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } [البقرة: 28] كانوا أمواتاً في صلب آبائهم، ثم أخرجهم، فأحياهم، ثم أماتهم، ثم يحييهم بعد الموت. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال: كنتم تراباً قبل أن يخلقكم، فهذه ميتة، ثم أحياكم، فخلقكم، فهذه حياة، ثم يميتكم، فترجعون إلى القبور، فهذه ميتة أخرى، ثم يبعثكم يوم القيامة، فهذه حياة، فهما موتتان، وحياتان كقوله: { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوٰتًا فَأَحْيَـٰكُمْ } الآية. وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله: { يَوْمَ ٱلتَّلاَقِ } قال: يوم القيامة يلتقي فيه آدم، وآخر ولده. وأخرج عنه أيضاً قال: { يَوْمَ ٱلتَّلاَقِ } يوم الآزفة، ونحو هذا من أسماء يوم القيامة عظمه الله، وحذره عباده. وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وأبو نعيم في الحلية عنه أيضاً قال: «ينادي مناد بين يدي الساعة: يا أيها الناس أتتكم الساعة، فيسمعها الأحياء، والأموات، وينزل الله إلى السماء الدنيا، فيقول: { لّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ لِلَّهِ ٱلْوٰحِدِ ٱلْقَهَّارِ }». وأخرج ابن أبي الدنيا في البعث، والديلمي عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله. وأخرج عبد بن حميد، عن ابن مسعود قال: «يجمع الله الخلق يوم القيامة بصعيد واحد بأرض بيضاء كأنها سبيكة فضة لم يعص الله فيها قط، فأوّل ما يتكلم أن ينادي منادٍ: { لّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ لِلَّهِ ٱلْوٰحِدِ ٱلْقَهَّارِ } { ٱلْيَوْمَ تُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَـسَبَتْ لاَ ظُلْمَ ٱلْيَوْمَ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } فأول ما يبدأ به من الخصومات الدماء».

وأخرج سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: { يَعْلَمُ خَائِنَةَ ٱلأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِى ٱلصُّدُورُ } قال: الرجل يكون في القوم، فتمرّ بهم المرأة، فيريهم أنه يغضّ بصره عنها، وإذا غفلوا لحظ إليها، وإذا نظروا غضّ بصره عنها، وقد اطلع الله من قلبه أنه ودّ أن ينظر إلى عورتها. وأخرج ابن أبي حاتم، والطبراني في الأوسط، وأبو نعيم في الحلية، والبيهقي في الشعب عنه في الآية قال: إذا نظر إليها يريد الخيانة أم لا { وَمَا تُخْفِى ٱلصُّدُورُ } قال: إذا قدر عليها أيزني بها أم لا؟ ألا أخبركم بالتي تليها { وَٱللَّهُ يَقْضِى بِٱلْحَقّ } قادر على أن يجزي بالحسنة الحسنة، وبالسيئة السيئة. وأخرج أبو داود، والنسائي، وابن مردويه عن سعد قال: لما كان يوم فتح مكة أمن النبي صلى الله عليه وسلم الناس إلا أربعة نفر، وامرأتين، وقال: "اقتلوهم، وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة" منهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح، فاختبأ عند عثمان بن عفان، فلما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى البيعة جاء به. فقال: يا رسول الله بايع عبد الله، فرفع رأسه، فنظر إليه ثلاثاً كل ذلك يأبى بيعته، ثم بايعه، ثم أقبل على أصحابه، فقال: "أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حين رآني كففت يدي عن بيعته، فيقتله؟" فقالوا: ما يدرينا يا رسول الله ما في نفسك هلا أومأت إلينا بعينك؟، فقال: "إنه لا ينبغي لنبي أن يكون له خائنة الأعين" .