التفاسير

< >
عرض

وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَآءَ فَزَيَّنُواْ لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلْقَوْلُ فِيۤ أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُواْ خَاسِرِينَ
٢٥
وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لِهَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ وَٱلْغَوْاْ فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ
٢٦
فَلَنُذِيقَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ عَذَاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ ٱلَّذِي كَانُواْ يَعْمَلُونَ
٢٧
ذَلِكَ جَزَآءُ أَعْدَآءِ ٱللَّهِ ٱلنَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الخُلْدِ جَزَآءً بِمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ
٢٨
وَقَال الَّذِينَ كَفَرُواْ رَبَّنَآ أَرِنَا ٱلَّذَيْنِ أَضَلاَّنَا مِنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ ٱلأَسْفَلِينَ
٢٩
إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقَامُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ ٱلْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ
٣٠
نَحْنُ أَوْلِيَآؤُكُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَفِي ٱلآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِيۤ أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ
٣١
نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ
٣٢
وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَآ إِلَى ٱللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ
٣٣
وَلاَ تَسْتَوِي ٱلْحَسَنَةُ وَلاَ ٱلسَّيِّئَةُ ٱدْفَعْ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا ٱلَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ
٣٤
وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّاهَآ إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ
٣٥
وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ ٱلشَّيْطَٰنِ نَزْغٌ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ
٣٦
-فصلت

فتح القدير

قوله: { وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاء } أي: هيأنا قرناء من الشياطين. وقال الزجاج: سببنا لهم قرناء حتى أضلوهم. وقيل: سلطنا عليهم قرناء. وقيل: قدّرنا، والمعاني متقاربة، وأصل التقييض التيسير، والتهيئة، والقرناء جمع قرين، وهم: الشياطين، جعلهم بمنزلة الأخلاء لهم. وقيل: إن الله قيض لهم قرناء في النار، والأولى أن ذلك في الدنيا لقوله: { فَزَيَّنُواْ لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } فإن المعنى: زينوا لهم ما بين أيديهم من أمور الدنيا وشهواتها، وحملوهم على الوقوع في معاصي الله بانهماكهم فيها، وزينوا لهم ما خلفهم من أمور الآخرة، فقالوا: لا بعث، ولا حساب، ولا جنة، ولا نار. وقال الزجاج: ما بين أيديهم ما عملوه، وما خلفهم ما عزموا على أن يعملوه. وروي عن الزجاج أيضاً، أنه قال: ما بين أيديهم من أمر الآخرة أنه لا بعث، ولا جنة، ولا نار، وما خلفهم من أمر الدنيا { وَحَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلْقَوْلُ } أي: وجب، وثبت عليهم العذاب، وهو قوله سبحانه: { { لأَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ } [صۤ: 85] و { فِى أُمَمٍ } في محل نصب على الحال من الضمير في عليهم، والمعنى: كائنين في جملة أمم. وقيل: في بمعنى مع، أي: مع أمم من الأمم الكافرة التي { قَدْ خَلَتْ } ومضت { مِن قَبْلِهِمْ مّنَ ٱلْجِنّ وَٱلإِنْسِ } على الكفر، وجملة: { إِنَّهُمْ كَانُواْ خَـٰسِرِينَ } تعليل لاستحقاقهم العذاب.

{ وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لِهَـٰذَا ٱلْقُرْءانِ } أي: قال بعضهم لبعض: لا تسمعوه، ولا تنصتوا له. وقيل: معنى لا تسمعوا: لا تطيعوا، يقال: سمعت لك، أي: أطعتك { وَٱلْغَوْاْ فِيهِ } أي: عارضوه باللغو والباطل، أو ارفعوا أصواتكم ليتشوش القارىء له. وقال مجاهد: الغوا فيه بالمكاء، والتصدية، والتصفيق، والتخليط في الكلام حتى يصير لغواً. وقال الضحاك: أكثروا الكلام؛ ليختلط عليه ما يقول. وقال أبو العالية: قعوا فيه، وعيبوه. قرأ الجمهور: { والغوا } بفتح الغين، من لغا إذا تكلم باللغو، وهو: ما لا فائدة فيه، أو من لغى بالفتح يلغى بالفتح أيضاً كما حكاه الأخفش، وقرأ عيسى بن عمر، والجحدري، وابن أبي إسحاق، وأبو حيوة، وبكر بن حبيب السهمي، وقتادة، والسماك، والزعفراني بضم الغين. وقد تقدّم الكلام في اللغو في سورة البقرة { لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } أي: لكي تغلبوهم، فيسكتوا. ثم توعدهم سبحانه على ذلك، فقال: { فَلَنُذِيقَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ عَذَاباً شَدِيداً }، وهذا وعيد لجميع الكفار، ويدخل فيهم الذين السياق معهم دخولاً أوّلياً { وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ ٱلَّذِى كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي: ولنجزينهم في الآخرة جزاء أقبح أعمالهم التي عملوها في الدنيا. قال مقاتل: وهو: الشرك. وقيل: المعنى: أنه يجازيهم بمساوىء أعمالهم لا بمحاسنها كما يقع منهم من صلة الأرحام، وإكرام الضيف، لأن ذلك باطل لا أجر له مع كفرهم، والإشارة بقوله: { ذٰلِكَ } إلى ما تقدّم، وهو: مبتدأ وخبره جزاء أعداء الله، أو خبر مبتدأ محذوف، أي: الأمر ذلك، وجملة { جَزَاء أَعْدَاء ٱللَّهِ ٱلنَّارُ } مبينة للجملة التي قبلها، والأوّل أولى، وتكون النار عطف بيان للجزاء، أو بدلاً منه، أو خبر مبتدأ محذوف، أو مبتدأ والخبر: { لَهُمْ فِيهَا دَارُ الخُلْدِ }. وعلى الثلاثة الوجوه الأولى تكون جملة لهم فيها دار الخلد مستأنفة مقرّرة لما قبلها، ومعنى دار الخلد: دار الإقامة المستمرة التي لا انقطاع لها { جَزَاء أَعْدَاء ٱللَّهِ ٱلنَّارُ لَهُمْ } أي: يجزون جزاء بسبب جحدهم بآيات الله. قال مقاتل: يعني: القرآن يجحدون أنه من عند الله، وعلى هذا يكون التعبير عن اللغو بالجحود لكونه سبباً له، إقامة للسبب مقام المسبب.

{ وَقَال الَّذِينَ كَفَرُواْ رَبَّنَا أَرِنَا ٱللَّذَيْنِ أَضَلَّـٰنَا مِنَ ٱلْجِنّ وَٱلإِنسِ } قالوا: هذا وهم في النار، وذكره بلفظ الماضي تنبيهاً على تحقق وقوعه، والمراد: أنهم طلبوا من الله سبحانه أن يريهم من أضلهم من فريق الجن، والإنس من الشياطين الذين كانوا يسوّلون لهم، ويحملونهم على المعاصي، ومن الرؤساء الذين كانوا يزينون لهم الكفر. وقيل: المراد إبليس، وقابيل لأنهما سنا المعصية لبني آدم. قرأ الجمهور: { أرنا } بكسر الراء. وقرأ ابن محيصن، والسوسي عن أبي عمرو، وابن عامر بسكون الراء، وبها قرأ أبو بكر، والمفضل، وهما لغتان بمعنى واحد. وقال الخليل: إذا قلت أرني ثوبك بالكسر، فمعناه: بصرنيه، وبالسكون: أعطنيه { نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا } أي: ندسهما بأقدامنا، لنشتفي منهم. وقيل: نجعلهم أسفل منا في النار { لِيَكُونَا مِنَ ٱلأَسْفَلِينَ } فيها مكاناً، أو ليكونا من الأذلين المهانين. وقيل: ليكونوا أشد عذاباً منا.

ثم لما ذكر عقاب الكافرين، وما أعدّه لهم ذكر حال المؤمنين، وما أنعم عليهم به، فقال: { إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ } أي: وحده لا شريك له { ثُمَّ ٱسْتَقَـٰمُواْ } على التوحيد، ولم يلتفتوا إلى إلاه غير الله. قال جماعة من الصحابة، والتابعين: معنى الاستقامة: إخلاص العمل لله. وقال قتادة، وابن زيد: ثم استقاموا على طاعة الله. وقال الحسن: استقاموا على أمر الله، فعملوا بطاعته، واجتنبوا معصيته. وقال مجاهد، وعكرمة: استقاموا على شهادة أن لا إلٰه إلاّ الله حتى ماتوا. وقال الثوري: عملوا على وفاق ما قالوا. وقال الربيع: أعرضوا عما سوى الله. وقال الفضيل بن عياض: زهدوا في الفانية، ورغبوا في الباقية { تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ ٱلْمَلَـئِكَةُ } من عند الله سبحانه بالبشرى التي يريدونها من جلب نفع، أو دفع ضرر، أو رفع حزن. قال ابن زيد، ومجاهد: تتنزل عليهم عند الموت. وقال مقاتل، وقتادة: إذا قاموا من قبورهم للبعث. وقال وكيع: البشرى في ثلاثة مواطن: عند الموت، وفي القبر، وعند البعث { ألا تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ } أن هي: المخففة، أو المفسرة، أو الناصبة، و «لا» على الوجهين الأوّلين ناهية، وعلى الثالث نافية، والمعنى: لا تخافوا مما تقدمون عليه من أمور الآخرة، ولا تحزنوا على ما فاتكم من أمور الدنيا من أهل، وولد، ومال. قال مجاهد: لا تخافوا الموت، ولا تحزنوا على أولادكم، فإن الله خليفتكم عليهم. وقال عطاء: لا تخافوا ردّ ثوابكم، فإنه مقبول، ولا تحزنوا على ذنوبكم، فإني أغفرها لكم. والظاهر عدم تخصيص تنزل الملائكة عليهم بوقت معين، وعدم تقييد نفي الخوف، والحزن بحالة مخصوصة كما يشعر به حذف المتعلق في الجميع { وَأَبْشِرُواْ بِٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ } بها في الدنيا، فإنكم واصلون إليها مستقرّون بها خالدون في نعيمها.

ثم بشرهم سبحانه بما هو أعظم من ذلك كله، فقال: { نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَفِى ٱلأَخِرَةِ } أي: نحن المتولون لحفظكم، ومعونتكم في أمور الدنيا، وأمور الآخرة، ومن كان الله وليه فاز بكلّ مطلب، ونجا من كلّ مخافة. وقيل: إن هذا من قول الملائكة. قال مجاهد: يقولون لهم: نحن قرناؤكم الذين كنا معكم في الدنيا، فإذا كان يوم القيامة قالوا: لا نفارقكم حتى تدخلوا الجنة. وقال السدّي: نحن الحفظة لأعمالكم في الدنيا، وأولياؤكم في الآخرة. وقيل: إنهم يشفعون لهم في الآخرة، ويتلقونهم بالكرامة { وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ } من صنوف اللذات، وأنواع النعم { وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ } أي: ما تتمنون، افتعال من الدعاء بمعنى: الطلب، وقد تقدّم بيان معنى هذا في قوله: { { وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ } [يسۤ: 57] مستوفى، والفرق بين الجملتين: أن الأولى باعتبار شهوات أنفسهم، والثانية باعتبار ما يطلبونه أعم من أن يكون مما تشتهيه أنفسهم أولاً. وقال الرازي: الأقرب عندي أن قوله: { وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ } إشارة إلى الجنة الروحانية المذكورة في قوله: { { دَعْوٰهُمْ فِيهَا سُبْحَـٰنَكَ ٱللَّهُمَّ } [يونس: 10] الآية، وانتصاب { نُزُلاً مّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ } على الحال من الموصول، أو من عائده، أو من فاعل تدّعون، أو هو مصدر مؤكد لفعل محذوف، أي: أنزلناه نزلاً، والنزل: ما يعدّ لهم حال نزولهم من الرزق، والضيافة، وقد تقدم تحقيقه في سورة آل عمران.

{ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مّمَّن دَعَا إِلَى ٱللَّهِ } أي: إلى توحيد الله، وطاعته. قال الحسن: هو المؤمن أجاب الله دعوته، ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من طاعته { وَعَمِلَ صَـٰلِحَاً } في إجابته { وَقَالَ إِنَّنِى مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ } لربي. وقال ابن سيرين، والسدّي، وابن زيد: هو: رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروي هذا أيضاً عن الحسن. وقال عكرمة، وقيس بن أبي حازم، ومجاهد: نزلت في المؤذنين. ويجاب عن هذا بأن الآية مكية، والأذان إنما شرع بالمدينة. والأولى حمل الآية على العموم كما يقتضيه اللفظ، ويدخل فيها من كان سبباً لنزولها دخولاً أولياً، فكل من جمع بين دعاء العباد إلى ما شرعه الله، وعمل عملاً صالحاً، وهو: تأدية ما فرضه الله عليه مع اجتناب ما حرمه عليه، وكان من المسلمين ديناً لا من غيرهم، فلا شيء أحسن منه، ولا أوضح من طريقته، ولا أكثر ثواباً من عمله.

ثم بيّن سبحانه الفرق بين محاسن الأعمال، ومساويها، فقال: { وَلاَ تَسْتَوِى ٱلْحَسَنَةُ وَلاَ ٱلسَّيّئَةُ } أي: لا تستوي الحسنة التي يرضى الله بها، ويثيب عليها، ولا السيئة التي يكرهها الله، ويعاقب عليها، ولا وجه لتخصيص الحسنة بنوع من أنواع الطاعات، وتخصيص السيئة بنوع من أنواع المعاصي، فإن اللفظ أوسع من ذلك. وقيل: الحسنة التوحيد، والسيئة الشرك. وقيل: الحسنة المداراة، والسيئة الغلظة. وقيل: الحسنة العفو، والسيئة الانتصار. وقيل: الحسنة العلم، والسيئة الفحش. قال الفراء: «لا» في قوله، { ولا السيئة } زائدة { ٱدْفَعْ بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ } أي: ادفع السيئة إذا جاءتك من المسيء بأحسن ما يمكن دفعها به من الحسنات، ومنه مقابلة الإساءة بالإحسان، والذنب بالعفو، والغضب بالصبر، والإغضاء عن الهفوات، والاحتمال للمكروهات. وقال مجاهد، وعطاء: بالتي هي أحسن يعني: بالسلام إذا لقي من يعاديه. وقيل: بالمصافحة عند التلاقي { فَإِذَا ٱلَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ } هذه هي الفائدة الحاصلة من الدفع بالتي هي أحسن، والمعنى: أنك إذا فعلت ذلك الدفع صار العدوّ كالصديق، والبعيد عنك كالقريب منك. وقال مقاتل: نزلت في أبي سفيان بن حرب كان معادياً للنبي صلى الله عليه وسلم، فصار له ولياً بالمصاهرة التي وقعت بينه وبينه، ثم أسلم، فصار ولياً في الإسلام حميماً بالصهارة. وقيل غير ذلك، والأولى حمل الآية على العموم.

{ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ } قال الزجاج: ما يلقى هذه الفعلة، وهذه الحالة، وهي: دفع السيئة بالحسنة إلاّ الذين صبروا على كظم الغيظ، واحتمال المكروه { وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظّ عَظِيمٍ } في الثواب والخير. وقال قتادة: الحظ العظيم: الجنة، أي: ما يلقاها إلاّ من وجبت له الجنة. وقيل: الضمير في يلقاها عائد إلى الجنة. وقيل: راجع إلى كلمة التوحيد. قرأ الجمهور: { يلقاها } من التلقية، وقرأ طلحة بن مصرف، وابن كثير في رواية عنه: (يلاقاها) من الملاقاة، ثم أمره سبحانه بالاستعاذة من الشيطان، فقال: { وَإِمَّا يَنَزَغَنَّكَ مِنَ ٱلشَّيْطَـٰنِ نَزْغٌ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ } النزغ شبيه النخس شبه به الوسوسة، لأنها تبعث على الشرّ؛ والمعنى: وإن صرفك الشيطان عن شيء مما شرعه الله لك، أو عن الدفع بالتي هي أحسن، فاستعذ بالله من شرّه، وجعل النزغ نازغاً على المجاز العقلي كقولهم: جدّ جدّه، وجملة: { إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ } تعليل لما قبلها، أي: السميع لكلّ ما يسمع، والعليم بكلّ ما يعلم، ومن كان كذلك، فهو يعيذ من استعاذ به.

وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو بمكة إذا قرأ القرآن يرفع صوته، فكان المشركون يطردون الناس عنه، ويقولون: { لاَ تَسْمَعُواْ لِهَـٰذَا ٱلْقُرْءانِ وَٱلْغَوْاْ فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } وكان إذا أخفى قراءته لم يسمع من يحبّ أن يسمع القرآن، فأنزل الله: { { وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا } [الإسراء: 110]. وأخرج عبد الرزاق، والفريابي، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه، وابن عساكر عن عليّ بن أبي طالب: أنه سئل عن قوله: { رَبَّنَا أَرِنَا ٱللَّذَيْنِ أَضَلَّـٰنَا مِنَ ٱلْجِنّ وَٱلإِنسِ } قال: هو: ابن آدم الذي قتل أخاه، وإبليس.

وأخرج الترمذي، والنسائي، والبزار، وأبو يعلى، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن عديّ، وابن مردويه عن أنس قال: «قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: { إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقَـٰمُواْ } قال: قد قالها ناس من الناس، ثم كفر أكثرهم، فمن قالها حين يموت، فهو ممن استقام عليها». وأخرج ابن المبارك، وعبد الرزاق، والفريابي، وسعيد بن منصور، ومسدد، وابن سعد، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم من طريق سعيد بن عمران، عن أبي بكر الصديق في قوله: { إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقَـٰمُواْ } قال: الاستقامة أن لا يشركوا بالله شيئاً. وأخرج ابن راهويه، وعبد بن حميد، والحكيم الترمذي في نوادر الأصول، والحاكم وصححه، وابن مردويه، وأبو نعيم في الحلية من طريق الأسود بن هلال عن أبي بكر الصديق أنه قال: ما تقولون في هاتين الآيتين: { إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقَـٰمُواْ }، و { { ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَـٰنَهُمْ بِظُلْمٍ } [الأنعام: 82]؟ قالوا: الذين قالوا: ربنا الله، ثم عملوا بها، واستقاموا على أمره، فلم يذنبوا، ولم يلبسوا إيمانهم بظلم لم يذنبوا، قال: لقد حملتموهما على أمر شديد { ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَـٰنَهُمْ بِظُلْمٍ } يقول: بشرك، والذين قالوا: ربنا الله، ثم استقاموا، فلم يرجعوا إلى عبادة الأوثان. وأخرج ابن مردويه عن بعض الصحابة: ثم استقاموا على فرائض الله. وأخرج البيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس: { ثُمَّ ٱسْتَقَـٰمُواْ } قال: على شهادة أن لا إلٰه إلاّ الله. وأخرج ابن المبارك، وسعيد بن منصور، وأحمد في الزهد، وعبد بن حميد، والحكيم الترمذي، وابن المنذر عن عمر بن الخطاب: { إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقَـٰمُواْ } قال: استقاموا بطاعة الله، ولم يروغوا روغان الثعلب. وأخرج أحمد، وعبد بن حميد، والدارمي، والبخاري في تاريخه، ومسلم، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وابن حبان، عن سفيان الثقفي، أن رجلاً قال: يا رسول الله مرني بأمر في الإسلام لا أسأل عنه أحداً بعدك، قال: قل آمنت بالله، ثم استقم، قلت: فما أتقي؟ فآوى إلى لسانه. قال الترمذي: حسن صحيح.

وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن عائشة في قوله: { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مّمَّن دَعَا إِلَى ٱللَّهِ } قالت: المؤذن { وَعَمِلَ صَـٰلِحَاً } قالت: ركعتان فيما بين الأذان، والإقامة. وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف، وابن المنذر، وابن مردويه من وجه آخر عنها قالت: ما أرى هذه الآية نزلت إلاّ في المؤذنين. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله: { وَلاَ تَسْتَوِى ٱلْحَسَنَةُ وَلاَ ٱلسَّيّئَةُ ٱدْفَعْ بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ } قال: أمر المسلمين بالصبر عند الغضب، والحلم عند الجهل، والعفو عند الإساءة، فإذا فعلوا ذلك عصمهم الله من الشيطان، وخضع لهم عدوّهم { كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ }. وأخرج ابن مردويه عنه { ٱدْفَعْ بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ } قال: القه بالسلام، فإذا الذي بينك، وبينه عداوة كأنه وليّ حميم. وأخرج ابن المنذر عن أنس في قوله: { وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ } قال: الرجل يشتمه أخوه، فيقول: إن كنت صادقاً، فغفر الله لي، وإن كنت كاذباً، فغفر الله لك. وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما عن سليمان بن صرد قال: استبّ رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم، فاشتدّ غضب أحدهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه الغضب: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" فقال الرجل: أمجنون تراني؟، فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم { وَإِمَّا يَنَزَغَنَّكَ مِنَ ٱلشَّيْطَـٰنِ نَزْغٌ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ مِنَ ٱلشَّيْطَـٰنِ ٱلرَّجِيمِ }».