التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
١
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَرْفَعُوۤاْ أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ ٱلنَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِٱلْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ
٢
إِنَّ ٱلَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ ٱللَّهِ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱمْتَحَنَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَىٰ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ
٣
إِنَّ ٱلَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ ٱلْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ
٤
وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حَتَّىٰ تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٥
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوۤاْ أَن تُصِيبُواْ قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُواْ عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ
٦
وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ ٱللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ ٱلأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ ٱلإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ ٱلْكُفْرَ وَٱلْفُسُوقَ وَٱلْعِصْيَانَ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلرَّاشِدُونَ
٧
فَضْلاً مِّنَ ٱللَّهِ وَنِعْمَةً وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
٨
-الحجرات

فتح القدير

قوله: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تُقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَىِ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ } قرأ الجمهور { تقدّموا } بضم المثناة الفوقية، وتشديد الدال مكسورة، وفيه وجهان: أحدهما: أنه متعدّ، وحذف مفعوله لقصد التعميم، أو ترك المفعول للقصد إلى نفس الفعل كقولهم: هو يعطي ويمنع، والثاني: أنه لازم نحو: وجه وتوجه، ويعضدّه قراءة ابن عباس، والضحاك، ويعقوب (تقدموا) بفتح التاء والقاف والدال. قال الواحدي: قدم ها هنا بمعنى تقدّم، وهو لازم. قال أبو عبيدة: العرب تقول: لا تقدّم بين يدي الإمام وبين يدي الأب، أي: لا تعجل بالأمر دونه والنهي؛ لأن المعنى: لا تقدّموا قبل أمرهما ونهيهما، وبين يدي الإمام عبارة عن الإمام لا ما بين يدي الإنسان، ومعنى الآية: لا تقطعوا أمراً دون الله ورسوله، ولا تعجلوا به. وقيل: المراد معنى بين يدي فلان: بحضرته؛ لأن ما يحضره الإنسان، فهو بين يديه { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } في كلّ أموركم، ويدخل تحتها الترك للتقدّم بين يدي الله ورسوله دخولاً أوّلياً. ثم علل ما أمر به من التقوى بقوله: { إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ } لكلّ مسموع { عَلِيمٌ } بكل معلوم { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَرْفَعُواْ أَصْوٰتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ ٱلنَّبِىّ } يحتمل أن المراد حقيقة رفع الصوت؛ لأن ذلك يدلّ على قلة الاحتشام وترك الاحترام؛ لأن خفض الصوت وعدم رفعه من لوازم التعظيم والتوقير. ويحتمل أن يكون المراد: المنع من كثرة الكلام ومزيد اللغط، والأوّل أولى. والمعنى: لا ترفعوا أصواتكم إلى حدّ يكون فوق ما يبلغه صوت النبيّ صلى الله عليه وسلم. قال المفسرون: المراد من الآية: تعظيم النبي وتوقيره، وأن لا ينادوه كما ينادي بعضهم بعضاً { وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِٱلْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ } أي: لا تجهروا بالقول إذا كلمتموه، كما تعتادونه من الجهر بالقول إذا كلم بعضكم بعضاً. قال الزجاج: أمرهم الله بتجليل نبيه، وأن يغضوا أصواتهم، ويخاطبوه بالسكينة والوقار، وقيل: المراد بقوله { وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِٱلْقَوْلِ }: لا تقولوا يا محمد ويا أحمد؛ ولكن يا نبيّ، الله ويا رسول الله، توقيراً له، والكاف في محل نصب على أنها نعت مصدر محذوف، أي: جهراً مثل جهر بعضكم لبعض، وليس المراد برفع الصوت وبالجهر في القول هو ما يقع على طريقة الاستخفاف، فإن ذلك كفر، وإنما المراد أن يكون الصوت في نفسه غير مناسب لما يقع في مواقف من يجب تعظيمه وتوقيره. والحاصل أن النهي هنا وقع عن أمور، الأوّل: عن التقدّم بين يديه بما لا يأذن به من الكلام. والثاني: عن رفع الصوت البالغ إلى حدّ يكون فوق صوته، سواء كان في خطابه، أو في خطاب غيره. والثالث: ترك الجفاء في مخاطبته، ولزوم الأدب في مجاورته؛ لأن المقاولة المجهورة إنما تكون بين الأكفاء الذين ليس لبعضهم على بعض مزية توجب احترامه وتوقيره. ثم علل سبحانه ما ذكره بقوله: { أَن تَحْبَطَ أَعْمَـٰلُكُمْ } قال الزجاج: أن تحبط أعمالكم التقدير: لأن تحبط أعمالكم، أي: فتحبط، فاللام المقدرة لام الصيرورة كذا قال، وهذه العلة يصح أن تكون للنهي، أي: نهاكم الله عن الجهر خشية أن تحبط، أو كراهة أن تحبط، أو علة للمنهي أي: لا تفعلوا الجهر فإنه يؤدّي إلى الحبوط، فكلام الزجاج ينظر إلى الوجه الثاني لا إلى الوجه الأوّل، وجملة: { وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ } في محل نصب على الحال، وفيه تحذير شديد ووعيد عظيم. قال الزجاج: وليس المراد وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ يوجب أن يكفر الإنسان وهو لا يعلم، فكما لا يكون الكافر مؤمناً إلاّ باختياره الإيمان على الكفر، كذلك لا يكون الكافر كافراً من حيث لا يعلم. ثم رغب سبحانه في امتثال ما أمر به، فقال: { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوٰتَهُمْ عِندَ رَسُولِ ٱللَّهِ } أصل الغض: النقص من كل شيء. ومنه نقص الصوت { أُوْلَـئِكَ ٱلَّذِينَ ٱمْتَحَنَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَىٰ } قال الفراء: أخلص قلوبهم للتقوى، كما يمتحن الذهب بالنار، فيخرج جيده من رديئه، ويسقط خبيثه. وبه قال مقاتل، ومجاهد وقتادة. وقال الأخفش: اختصها للتقوى، وقيل: طهرها من كلّ قبيح، وقيل: وسعها وسرّحها، من محنت الأديم: إذا وسعته. وقال أبو عمرو: كلّ شيء جهدته فقد محنته، واللام في { للتقوى } متعلقة بمحذوف، أي: صالحة للتقوى كقولك أنت صالح لكذا، أو للتعليل الجاري مجرى بيان السبب، كقولك جئتك لأداء الواجب، أي: ليكون مجيئي سبباً لأداء الواجب { لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ } أي: أولئك لهم، فهو خبر آخر لاسم الإشارة، ويجوز أن يكون مستأنفاً لبيان ما أعدّ الله لهم في الآخرة. { إَنَّ ٱلَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء ٱلْحُجُرٰتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } هم جفاة بني تميم كما سيأتي بيانه، و{ وراء الحجرات }: خارجها وخلفها، والحجرات: جمع حجرة، كالغرفات جمع غرفة، والظلمات جمع ظلمة، وقيل: الحجرات جمع حجرة، والحجر جمع حجرة، فهو جمع الجمع، الحجرة: الرقعة من الأرض المحجورة بحائط يحوّط عليها، وهي فعيلة بمعنى مفعولة. قرأ الجمهور: { الحجرات } بضم الجيم. وقرأ أبو جعفر بن القعقاع، وشيبة بفتحها تخفيفاً، وقرأ ابن أبي عبلة بإسكانها، وهي لغات، و «من» في { من وراء } لابتداء الغاية، ولا وجه للمنع من جعلها لهذا المعنى { أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } لغلبة الجهل عليهم، وكثرة الجفاء في طباعهم. { وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حَتَّىٰ تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ } أي: لو انتظروا خروجك، ولم يعجلوا بالمناداة لكان أصلح لهم في دينهم ودنياهم، لما في ذلك من رعاية حسن الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورعاية جانبه الشريف والعمل بما يستحقه من التعظيم والتجليل. وقيل: إنهم جاءوا شفعاء في أسارى، فأعتق رسول الله صلى الله عليه وسلم نصفهم، وفادى نصفهم، ولو صبروا لأعتق الجميع، ذكر معناه مقاتل { وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } كثير المغفرة والرحمة بليغهما لا يؤاخذ مثل هؤلاء فيما فرط منهم من إساءة الأدب { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِن جَاءكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُواْ } قرأ الجمهور { فتبينوا } من التبين، وقرأ حمزة، والكسائي (فتثبتوا) من التثبت، والمراد من التبين: التعرّف والتفحص، ومن التثبت: الأناة وعدم العجلة والتبصر في الأمر الواقع والخبر الوارد حتى يتضح ويظهر. قال المفسرون: إن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط، كما سيأتي بيانه إن شاء الله. وقوله: { إن تُصِيببُواْ قَوْمَا بِجَهَالَةٍ } مفعول له، أي: كراهة أن تصيبوا، أو لئلا تصيبوا؛ لأن الخطأ ممن لم يتبين الأمر، ولم يتثبت فيه هو الغالب وهو جهالة؛ لأنه لم يصدر عن علم، والمعنى: ملتبسين بجهالة بحالهم { فَتُصْبِحُواْ عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ } بهم من إصابتهم بالخطأ { نَـٰدِمِينَ } على ذلك مغتمين له مهتمين به. ثم وعظهم الله سبحانه، فقال: { وَٱعْلَمُواْ أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ ٱللَّهِ } فلا تقولوا قولاً باطلاً، ولا تتسرّعوا عند وصول الخبر إليكم من غير تبين، و"أن" وما في حيزها سادة مسدّ مفعولي اعلموا، وجملة: { لَوْ يُطِيعُكُمْ فِى كَثِيرٍ مّنَ ٱلأمْرِ لَعَنِتُّمْ } في محل نصب على الحال من ضمير فيكم، أو مستأنفة، والمعنى: لو يطيعكم في كثير مما تخبرونه به من الأخبار الباطلة، وتشيرون به عليه من الآراء التي ليست بصواب؛ لوقعتم في العنت، وهو التعب والجهد والإثم والهلاك، ولكنه لا يطيعكم في غالب ما تريدون قبل وضوح وجهه له، ولا يسارع إلى العمل بما يبلغه قبل النظر فيه { وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ ٱلإيمَـٰنَ } أي: جعله أحبّ الأشياء إليكم، أو محبوباً لديكم، فلا يقع منكم إلاّ ما يوافقه، ويقتضيه من الأمور الصالحة، وترك التسرع في الأخبار، وعدم التثبت فيها، قيل: والمراد بهؤلاء: من عدا الأوّلين؛ لبيان براءتهم عن أوصاف الأوّلين، والظاهر أنه تذكير للكل بما يقتضيه الإيمان، وتوجبه محبته التي جعلها الله في قلوبهم { وَزَيَّنَهُ فِى قُلُوبِكُمْ } أي: حسنه بتوفيقه حتى جروا على ما يقتضيه في الأقوال والأفعال { وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ ٱلْكُفْرَ وَٱلْفُسُوقَ وَٱلْعِصْيَانَ } أي: جعل كل ما هو من جنس الفسوق، ومن جنس العصيان مكروهاً عندكم، وأصل الفسق: الخروج عن الطاعة، والعصيان: جنس ما يعصى الله به، وقيل: أراد بذلك الكذب خاصة، والأوّل أولى { أُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلرشِدُونَ } أي: الموصوفون بما ذكرهم الراشدون. والرشد: الاستقامة على طريق الحق مع تصلب، من الرشادة: وهي الصخرة { فَضْلاً مّنَ ٱللَّهِ وَنِعْمَةً } أي: لأجل فضله وإنعامه، والمعنى: أنه حبّب إليكم ما حبَّب، وكرّه ما كرّه؛ لأجل فضله وإنعامه، أو جعلكم راشدين لأجل ذلك، وقيل: النصب بتقدير فعل، أي: تبتغون فضلاً ونعمة { وَٱللَّهُ عَلِيمٌ } بكل معلوم { حَكِيمٌ } في كل ما يقضي به بين عباده ويقدّره لهم.

وقد أخرج البخاري وغيره، عن عبد الله بن الزبير قال: قدم ركب من بني تميم على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر: أمر القعقاع بن معبد، وقال عمر: بل أمر الأقرع بن حابس، فقال أبو بكر: ما أردت إلاّ خلافي، فقال عمر: ما أردت خلافك، فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما، فأنزل الله: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تُقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَىِ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ } حتى انقضت الآية. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: { لاَ تُقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَىِ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ } قال: نهوا أن يتكلموا بين يدي كلامه. وأخرج ابن مردويه عن عائشة في الآية قالت: لا تصوموا قبل أن يصوم نبيكم. وأخرج البخاري في تاريخه عنها قالت: كان أناس يتقدّمون بين يدي رمضان بصيام، يعني: يوماً أو يومين، فأنزل الله: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تُقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَىِ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ }. وأخرج الطبراني، وابن مردويه عنها أيضاً: أن ناساً كانوا يتقدّمون الشهر، فيصومون قبل النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله: { يا أيها الذين آمنوا } الآية. وأخرج البزار، وابن عدي، والحاكم، وابن مردويه عن أبي بكر الصديق قال: أنزلت هذه الآية { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَرْفَعُواْ أَصْوٰتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ ٱلنَّبِىّ } قلت: يا رسول الله، والله لا أكلمك إلاّ كأخي السرار، وفي إسناده حصين بن عمر، وهو ضعيف؛ ولكنه يؤيده ما أخرجه عبد بن حميد، والحاكم وصححه من طريق أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: لما نزلت: { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوٰتَهُمْ عِندَ رَسُولِ ٱللَّهِ } قال أبو بكر: والذي أنزل عليك الكتاب يا رسول الله لا أكلمك إلاّ كأُخي السرار حتى ألقى الله. وأخرج البخاري، ومسلم وغيرهما عن أنس قال: لما نزلت: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَرْفَعُواْ أَصْوٰتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ ٱلنَّبِىّ } إلى قوله: { وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ } وكان ثابت بن قيس بن شماس رفيع الصوت فقال: أنا الذي كنت أرفع صوتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، حبط عملي، أنا من أهل النار، وجلس في بيته حزيناً، ففقده رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلق بعض القوم إليه، فقالوا: فقدك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما لك؟ قال: أنا الذي أرفع صوتي فوق صوت النبيّ، وأجهر له بالقول، حبط عملي، أنا من أهل النار، فأتوا النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأخبروه بذلك، فقال: " لا، بل هو من أهل الجنة" ؛ فلما كان يوم اليمامة قتل. وفي الباب أحاديث بمعناه. وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة في قوله: { أُوْلَـئِكَ ٱلَّذِينَ ٱمْتَحَنَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَىٰ } قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "منهم ثابت بن قيس بن شماس" . وأخرج أحمد، وابن جرير، وأبو القاسم البغوي، والطبراني، وابن مردويه، قال السيوطي: بسند صحيح من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمٰن، عن الأقرع بن حابس، أنه أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد اخرج إلينا، فلم يجبه، فقال: يا محمد إن حمدي زين، وإن ذمي شين، فقال:« ذاك الله»، فأنزل الله: { إَنَّ ٱلَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء ٱلْحُجُرٰتِ }، قال ابن منيع: لا أعلم روى الأقرع مسنداً غير هذا. وأخرج الترمذي وحسنه، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن البراء بن عازب في قوله: { إَنَّ ٱلَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء ٱلْحُجُرٰتِ } قال: جاء رجل فقال: يا محمد إن حمدي زين، وإن ذمي شين، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:« ذاك الله». وأخرج ابن راهويه، ومسدد، وأبو يعلى، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وابن مردويه قال السيوطي: بإسناد حسن عن زيد بن أرقم قال: اجتمع ناس من العرب فقالوا: انطلقوا إلى هذا الرجل فإن يك نبياً فنحن أسعد الناس به، وإن يك ملكاً نعش بجناحه، فأتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم فأخبرته بما قالوا، فجاءوا إلى حجرته، فجعلوا ينادونه: يا محمد يا محمد فأنزل الله: { إَنَّ ٱلَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء ٱلْحُجُرٰتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذني، وجعل يقول: " لقد صدّق الله قولك يا زيد، لقد صدق الله قولك يا زيد" . وفي الباب أحاديث. وأخرج أحمد، وابن أبي حاتم، والطبراني، وابن منده، وابن مردويه، قال السيوطي: بسند جيد عن الحارث بن ضرار الخزاعي قال: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعاني إلى الإسلام، فدخلت فيه وأقررت به، ودعاني إلى الزكاة فأقررت بها، وقلت: يا رسول الله أرجع إلى قومي، فأدعوهم إلى الإسلام، وأداء الزكاة، فمن استجاب لي جمعت زكاته، وترسل إليّ يا رسول الله رسولاً لإبان كذا وكذا؛ ليأتيك ما جمعت من الزكاة، فلما جمع الحارث الزكاة ممن استجاب له، وبلغ الإبان الذي أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليه احتبس الرسول، فلم يأت، فظنّ الحارث أن قد حدث فيه سخطة من الله ورسوله، فدعا سروات قومه، فقال لهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان وقت لي وقتاً يرسل إليّ رسوله؛ ليقبض ما كان عندي من الزكاة وليس من رسول الله الخلف، ولا أرى حبس رسوله إلاّ من سخطة، فانطلقوا فنأتي رسول الله، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الوليد بن عقبة إلى الحارث؛ ليقبض ما كان عنده مما جمع من الزكاة، فلما أن سار الوليد حتى بلغ بعض الطريق فَرَقَ فرجع، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إن الحارث منعني الزكاة، وأراد قتلي، فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم البعث إلى الحارث، فأقبل الحارث بأصحابه حتى إذا استقلّ البعث، وفصل عن المدينة لقيهم الحارث فقالوا: هذا الحارث؟ فلما غشيهم قال لهم: إلى من بعثتم؟ قالوا: إليك، قال: ولم؟ قالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إليك الوليد بن عقبة، فزعم أنك منعته الزكاة، وأردت قتله، قال: لا، والذي بعث محمداً بالحقّ ما رأيته بتة، ولا أتاني، فلما دخل الحارث على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "منعت الزكاة، وأردت قتل رسولي" ؟ قال: لا والذي بعثك بالحقّ ما رأيته، ولا رآني، وما أقبلت إلاّ حين احتبس عليّ رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم خشيت أن تكون كانت سخطة من الله ورسوله، فنزل: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِن جَاءكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ } إلى قوله: { حَكِيمٌ }قال ابن كثير: هذا من أحسن ما روي في سبب نزول الآية. وقد رويت روايات كثيرة متفقة على أنه سبب نزول الآية، وأنه المراد بها وإن اختلفت القصص.