التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ قَالَ ٱللَّهُ يٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـٰهَيْنِ مِن دُونِ ٱللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِيۤ أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ ٱلْغُيُوبِ
١١٦
مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَآ أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ
١١٧
إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ
١١٨
قَالَ ٱللَّهُ هَـٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ ٱلصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذٰلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ
١١٩
للَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
١٢٠
-المائدة

فتح القدير

.

قوله: { وَإِذْ قَالَ ٱللَّهُ } معطوف على ما قبله في محل نصب بعامله أو بعامل مقدّر، هنا: أي اذكر. وقد ذهب جمهور المفسرين إلى أن هذا القول منه سبحانه هو يوم القيامة. والنكتة توبيخ عباد المسيح وأمه من النصارى. وقال السديّ وقطرب: إنه قال له هذا القول عند رفعه إلى السماء، لما قالت النصارى فيه ما قالت، والأوّل أولى: قيل "وَإِذْ" هنا بمعنى إذا كقوله تعالى: { { وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ فَزِعُواْ } [سبأ: 51] أي إذا فزعوا، وقول أبي النجم:

ثم جزاك الله عني إذ جزى جنات عدن في السموات العلى

أي إذا جزى، وقول الأسود بن جعفر الأسدي:

في الآن إذ هازلتهنّ فإنما يقلن ألا لم يذهب الشيخ مذهبا

أي إذا هازلتهنّ تعبيراً عن المستقبل بلفظ الماضي تنبيهاً على تحقيق وقوعه. وقد قيل في توجيه هذا الاستفهام منه تعالى إنه لقصد التوبيخ كما سبق. وقيل: لقصد تعريف المسيح بأن قومه غيروا بعده وادّعوا عليه ما لم يقله. وقوله: { مِن دُونِ ٱللَّهِ } متعلق بقوله: { ٱتَّخِذُونِى } على أنه حال، أي متجاوزين الحدّ، ويجوز أن يتعلق بمحذوف هو صفة لإلٰهين، أي كائنين من دون الله. قوله: { سُبْحَـٰنَكَ } تنزيه له سبحانه، أي أنزهك تنزيهاً { مَا يَكُونُ لِى أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِى بِحَقّ } أي ما ينبغي لي أن أدّعي لنفسي ما ليس من حقها { إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ } ردّ ذلك إلى علمه سبحانه، وقد علم أنه لم يقله، فثبت بذلك عدم القول منه. قوله: { تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ } هذه الجملة في حكم التعليل لما قبلها، أي تعلم معلومي ولا أعلم معلومك، وهذا الكلام من باب المشاكلة كما هو معروف عند علماء المعاني والبيان. وقيل المعنى: تعلم ما في غيبي ولا أعلم ما في غيبك. وقيل تعلم ما أخفيه ولا أعلم ما تخفيه. وقيل: تعلم ما أريد ولا أعلم ما تريد.

قوله: { مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِى بِهِ } هذه جملة مقرّرة لمضمون ما تقدّم، أي ما أمرتهم إلا بما أمرتني: { أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ رَبّى وَرَبَّكُمْ } هذا تفسير لمعنى { مَا قُلْتُ لَهُمْ } أي ما أمرتهم، وقيل: عطف بيان للمضمر في { بِهِ } وقيل بدل منه { وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً } أي حفيظاً ورقيباً أرعى أحوالهم وأمنعهم عن مخالفة أمرك { مَّا دُمْتُ فِيهِمْ } أي مدّة دوامي فيهم { فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِى } قيل: هذا يدل على أن الله سبحانه توفاه قبل أن يرفعه، وليس بشيء لأن الأخبار قد تضافرت بأنه لم يمت، وأنه باق في السماء على الحياة التي كان عليها في الدنيا، حتى ينزل إلى الأرض آخر الزمان، وإنما المعنى: فلما رفعتني إلى السماء. قيل الوفاة في كتاب الله سبحانه جاءت على ثلاثة أوجه: بمعنى الموت، ومنه قوله تعالى: { { ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلأنفُسَ حِينَ مِوْتِـهَا } [الزمر: 42] وبمعنى النوم، ومنه قوله تعالى: { { وَهُوَ ٱلَّذِى يَتَوَفَّـٰكُم بِٱلَّيْلِ } [الأنعام: 60] أي ينيمكم، وبمعنى الرفع، ومنه { فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِى }. { وَإِذْ قَالَ ٱللَّهُ يٰعِيسَى إِنّي مُتَوَفّيكَ } [آل عمران: 55]. { كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ } أصل المراقبة: المراعاة، أي كنت الحافظ لهم والعالم بهم والشاهد عليهم: { إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ } تصنع بهم ما شئت وتحكم فيهم بما تريد { وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } أي القادر على ذلك الحكيم في أفعاله، قيل: قاله على وجه الاستعطاف كما يستعطف السيد لعبده. ولهذا لم يقل إن تعذبهم فإنهم عصوك؛ وقيل: قاله على وجه التسليم لأمر الله والانقياد له، ولهذا عدل عن الغفور الرحيم إلى العزيز الحكيم.

قوله: { قَالَ ٱللَّهُ هَـٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ ٱلصَّـٰدِقِينَ صِدْقُهُمْ } أي صدقهم في الدنيا، وقيل: في الآخرة، والأوّل، أولى. قرأ نافع وابن محيصن "يَوْم" بالنصب، وقرأ الباقون بالرفع، فوجه النصب أنه ظرف للقول، أي قال الله هذا القول يوم ينفع الصادقين، ووجه الرفع أنه خبر للمبتدأ هو وما أضيف إليه. وقال الكسائي نصب "يَوْمَ" هاهنا لأنه مضاف إلى الجملة، وأنشد:

على حين عاتبت المشيب على الصبا وقلت ألمَّا أصحُ والشيبُ وازِعُ

وبه قال الزجاج، ولا يجيز البصريون ما قالاه إلا إذا أضيف الظرف إلى فعل ماض. وقرأ الأعمش: "هَـٰذَا يَوْمٌ يَنفَعُ" بتنوين يوم كما في قوله: { { وَٱتَّقُواْ يَوْمًا لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا } [البقرة: 48] فكلاهما مقطوع عن الإضافة بالتنوين. وقد تقدّم تفسير قوله: { لَهُمْ جَنَّـٰتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلأنْهَـٰرُ خَـٰلِدِينَ فِيهَا أَبَداً }. قوله: { رّضِىَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ } أي رضي عنهم بما عملوه من الطاعات الخالصة له، ورضوا عنه بما جازاهم به مما لا يخطر لهم على بال ولا تتصوره عقولهم، والرضا منه سبحانه هو أرفع درجات النعيم، وأعلى منازل الكرامة، والإشارة بذلك إلى نيل ما نالوه من دخول الجنة والخلود فيها أبداً، ورضوان الله عليهم. والفوز: الظفر بالمطلوب على أتمّ الأحوال.

قوله: { للَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأرْضَ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَىٰ كُلّ شَىْء قَدِيرٌ } جاء سبحانه بهذه الخاتمة دفعاً لما سبق من إثبات من أثبت إلهية عيسى وأمه، وأخبر بأن ملك السموات والأرض له دون عيسى وأمه ودون سائر مخلوقاته، وأنه القادر على كل شيء دون غيره. وقيل المعنى: أن له ملك السموات والأرض يعطي الجنات للمطيعين، جعلنا الله منهم.

وقد أخرج الترمذي وصححه، والنسائي، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه، عن أبي هريرة قال: تلقى عيسى حجته والله لقَّاه في قوله: { وَإِذْ قَالَ ٱللَّهُ يٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِى وَأُمّىَ إِلَـٰهَيْنِ مِن دُونِ ٱللَّهِ } قال أبو هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلقاه الله سبحانه: { مَا يَكُونُ لِى أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِى بِحَقّ } الآية. وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن قتادة في الآية قال: يقول الله هذا يوم القيامة، ألا ترى أنه يقول: { هَـٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ ٱلصَّـٰدِقِينَ صِدْقُهُمْ }. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السديّ قال: قال الله ذلك لما رفع عيسى إليه، وقالت النصارى ما قالت.

وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: { أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ رَبّى وَرَبَّكُمْ } قال: سيدي وسيدكم. وأخرج ابن المنذر، عنه في قوله: { كُنتَ أَنتَ الرقيب عَلَيْهِمْ } قال: الحفيظ. وأخرج الطبراني عن ابن مسعود قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: { وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ } قال: "ما كنت فيهم" .

وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس { إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ } يقول: عبيدك قد استوجبوا العذاب بمقالتهم { وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ } أي من تركت منهم ومدّ في عمره حتى أهبط من السماء إلى الأرض لقتل الدجال، فزالوا عن مقالتهم ووحدوك { فَإِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ }. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه في قوله: { هَـٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ ٱلصَّـٰدِقِينَ صِدْقُهُمْ } يقول: هذا يوم ينفع الموحدين توحيدهم.