التفاسير

< >
عرض

وَٱلذَّارِيَاتِ ذَرْواً
١
فَٱلْحَامِلاَتِ وِقْراً
٢
فَٱلْجَارِيَاتِ يُسْراً
٣
فَٱلْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً
٤
إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ
٥
وَإِنَّ ٱلدِّينَ لَوَٱقِعٌ
٦
وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلْحُبُكِ
٧
إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ
٨
يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ
٩
قُتِلَ ٱلْخَرَّاصُونَ
١٠
ٱلَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ
١١
يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ ٱلدِّينِ
١٢
يَوْمَ هُمْ عَلَى ٱلنَّارِ يُفْتَنُونَ
١٣
ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ هَـٰذَا ٱلَّذِي كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ
١٤
إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ
١٥
آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ
١٦
كَانُواْ قَلِيلاً مِّن ٱللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ
١٧
وَبِٱلأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ
١٨
وَفِيۤ أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ وَٱلْمَحْرُومِ
١٩
وَفِي ٱلأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ
٢٠
وَفِيۤ أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ
٢١
وَفِي ٱلسَّمَآءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ
٢٢
فَوَرَبِّ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ
٢٣
-الذاريات

فتح القدير

قوله: { وَٱلذرِيَـٰتِ ذَرْواً } يقال: ذرت الريح التراب تذروه ذرواً، وأذرته تذريه ذرياً، أقسم سبحانه بالرّياح التي تذري التراب، وانتصاب { ذرواً } على المصدرية، والعامل فيها اسم الفاعل، والمفعول محذوف. قرأ أبو عمرو، وحمزة بإدغام تاء الذاريات في ذال ذرواً. وقرأ الباقون بدون إدغام. وقيل: المقسم به مقدّر وهو ربّ الذاريات وما بعدها، والأوّل أولى { فَٱلْحَـٰمِلَـٰتِ وِقْراً } هي السحاب تحمل الماء، كما تحمل ذوات الأربع الوقر، وانتصاب { وقراً } على أنه مفعول به، كما يقال: حمل فلان عدلاً ثقيلاً. قرأ الجمهور: { وقراً } بكسر الواو اسم ما يوقر أي: يحمل، وقرىء بفتحها على أنه مصدر، والعامل فيه اسم الفاعل، أو على تسمية المحمول بالمصدر مبالغة { فَٱلْجَـٰرِيَـٰتِ يُسْراً } هي السفن الجارية في البحر بالرّياح جرياً سهلاً، وانتصاب { يسراً } على المصدرية، أو صفة لمصدر محذوف، أو على الحال، أي: جرياً ذا يسر، وقيل: هي الرّياح، وقيل: السحاب، والأوّل أولى. واليسر: السهل في كل شيء { فَٱلْمُقَسّمَـٰتِ أَمْراً } هي الملائكة التي تقسم الأمور. قال الفرّاء: تأتي بأمر مختلف: جبريل بالغلظة، وميكائيل صاحب الرحمة، وملك الموت يأتي بالموت، وقيل: تأتي بأمر مختلف من الجدب، والخصب، والمطر، والموت، والحوادث. وقيل: هي السحب التي يقسم الله بها أمر العباد، وقيل: إن المراد بالذاريات والحاملات والجاريات والمقسمات: الرياح، فإنها توصف بجميع ذلك؛ لأنها تذرو التراب، وتحمل السحاب، وتجري في الهواء، وتقسم الأمطار، وهو ضعيف جدًّا. وانتصاب { أمراً } على المفعول به، وقيل: على الحال، أي: مأمورة، والأوّل أولى { إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَـٰدِقٌ } هذا جواب القسم، أي: إنما توعدون من الثواب والعقاب، لكائن لا محالة. و"مَا" يجوز أن تكون موصولة والعائد محذوف، وأن تكون مصدرية. ووجه تخصيص هذه الأمور بالإقسام بها كونها أموراً بديعة مخالفة لمقتضى العادة، فمن قدر عليها، فهو قادر على البعث الموعود به. { وَٱلسَّمَاء ذَاتِ ٱلْحُبُكِ } قرأ الجمهور { الحبك } بضم الحاء والباء، وقرىء بضم الحاء وسكون الباء، وبكسر الحاء وفتح الباء، وبكسر الحاء وضم الباء. قال ابن عطية: هي لغات، والمراد بالسماء هنا: هي المعروفة، وقيل: المراد بها السحاب، والأوّل أولى.

واختلف المفسرون في تفسير الحبك؛ فقال مجاهد، وقتادة، والربيع، وغيرهم: المعنى ذات الخلق المستوي الحسن. قال ابن الأعرابي: كل شيء أحكمته وأحسنت عمله، فقد حبكته واحتبكته. وقال الحسن، وسعيد بن جبير: ذات الزينة. وروي عن الحسن أيضاً أنه قال: ذات النجوم. وقال الضحاك: ذات الطرائق، وبه قال الفرّاء، يقال لما تراه من الماء والرّمل إذا أصابته الريح: حبك. قال الفراء: الحبك بكسر: كل شيء كالرمل إذا مرّت به الريح الساكنة، والماء إذا مرّت به الرّيح، ويقال لدرع الحديد: حبك، ومنه قول الشاعر:

كأنما جللها الحواك طنفسة في وشيها حباك

أي: طرق، وقيل: الحبك: الشدّة، والمعنى: والسماء ذات الشدّة، والمحبوك: الشديد الخلق من فرس أو غيره، ومنه قول الشاعر:

قد غدا يحملني في أنفه لاحق الأطلين محبوك ممرّ

وقول الآخر:

مرج الدين فأعددت له مشرف الحارك محبوك الكتد

قال الواحدي بعد حكاية القول الأوّل: هذا قول الأكثرين { إِنَّكُمْ لَفِى قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ } هذا جواب القسم بالسماء ذات الحبك أي: إنكم يا أهل مكة لفي قول مختلف متناقض في محمد صلى الله عليه وسلم. بعضكم يقول: إنه شاعر. وبعضكم يقول: إنه ساحر، وبعضكم يقول: إنه مجنون. ووجه تخصيص القسم بالسماء المتصفة بتلك الصفة تشبيه أقوالهم في اختلافها باختلاف طرائق السماء، واستعمال الحبك في الطرائق هو الذي عليه أهل اللغة، وإن كان الأكثر من المفسرين على خلافه. على أنه يمكن أن ترجع تلك الأقوال في تفسير الحبك إلى هذا، وذلك بأن يقال: إن ما في السماء من الطرائق يصح أن يكون سبباً لمزيد حسنها، واستواء خلقها، وحصول الزينة فيها، ومزيد القوّة لها. وقيل: إن المراد بكونهم في قول مختلف أن بعضهم ينفي الحشر، وبعضهم يشكّ فيه، وقيل: كونهم يقرّون أن الله خالقهم، ويعبدون الأصنام { يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ } أي: يصرف عن الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، أو عن الحقّ، وهو البعث والتوحيد من صرف. وقيل: يصرف عن ذلك الاختلاف من صرفه الله عنه بالعصمة والتوفيق، يقال: أفكه يأفكه إفكاً أي: قلبه عن الشيء وصرفه عنه، ومنه قوله تعالى: { { قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا } [الأحقاف: 22] وقال مجاهد: يؤفن عنه من أفن، والأفن: فساد العقل، وقيل: يحرمه من حرم. وقال قطرب: يجدع عنه من جدع. وقال اليزيدي: يدفع عنه من دفع. { قُتِلَ الخراصون } هذا دعاء عليهم. وحكى الواحدي عن المفسرين جميعاً أن المعنى: لعن الكذابون. قال ابن الأنباري: والقتل إذا أخبر به عن الله كان بمعنى اللعن؛ لأن من لعنه الله فهو بمنزلة المقتول الهالك. قال الفرّاء: معنى { قتل }: لعن. والخرّاصون: الكذابون الذين يتخرّصون فيما لا يعلمون، فيقولون: إن محمداً مجنون كذاب شاعر ساحر. قال الزجاج: الخرّاصون: هم الكذابون، والخرص: حزر ما على النخل من الرّطب تمراً، والخرّاص: الذي يخرصها، وليس هو المراد هنا، ثم قال: { ٱلَّذِينَ هُمْ فِى غَمْرَةٍ سَـٰهُونَ } أي: في غفلة وعمى جهالة عن أمور الآخرة، ومعنى ساهون: لاهون غافلون، والسهو: الغفلة عن الشيء وذهابه عن القلب، وأصل الغمرة: ما ستر الشيء وغطاه، ومنها غمرات الموت { يَسْـئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ ٱلدّينِ } أي: يقولون متى يوم الجزاء تكذيباً منهم واستهزاءً، ثم أخبر سبحانه عن ذلك اليوم، فقال: { يَوْمَ هُمْ عَلَى ٱلنَّارِ يُفْتَنُونَ } أي: يحرقون ويعذبون، يقال: فتنت الذهب: إذا أحرقته لتختبره، وأصل الفتنة: الاختبار. قال عكرمة: ألم تر أن الذهب إذا أدخل النار قيل: فتن. وانتصاب { يوم } بمضمر، أي: الجزاء يوم هم على النار، ويجوز أن يكون بدلاً من { يوم الدين }، والفتح للبناء لكونه مضافاً إلى الجملة، وقيل: هو منصوب بتقدير أعني. وقرأ ابن أبي عبلة برفع: { يوم } على البدل من يوم الدين، وجملة: { ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ } هي بتقدير القول، أي: يقال لهم: ذوقوا عذابكم، قاله ابن زيد. وقال مجاهد: حريقكم، ورجح الأوّل الفرّاء، وجملة: { هَـٰذَا ٱلَّذِى كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ } من جملة ما هو محكيّ بالقول، أي: هذا ما كنتم تطلبون تعجيله استهزاءً منكم، وقيل: هي بدل من فتنتكم. { إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِى جَنَّـٰتٍ وَعُيُونٍ } لما ذكر سبحانه حال أهل النار ذكر حال أهل الجنة، أي: هم في بستانين فيها عيون جارية لا يبلغ وصفها الواصفون { ءاخِذِينَ مَا ءاتَـٰهُمْ رَبُّهُمْ } أي: قابلين ما أعطاهم ربهم من الخير والكرامة. وجملة: { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ } تعليل لما قبلها، أي: لأنهم كانوا في الدنيا محسنين في أعمالهم الصالحة من فعل ما أمروا به، وترك ما نهوا عنه. ثم بين إحسانهم الذي وصفهم به، فقال: { كَانُواْ قَلِيلاً مّن ٱلَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ } الهجوع: النوم بالليل دون النهار، والمعنى: كانوا قليلاً ما ينامون من الليل، و"ما" زائدة، ويجوز أن تكون مصدرية، أو موصولة أي: كانوا قليلاً من الليل هجوعهم، أو ما يهجعون فيه، ومن ذلك قول أبي قيس بن الأسلت:

قد حصت البيضة رأسي فما أطعم نوماً غير تهجاع

والتهجاع: القليل من النوم، ومن ذلك قول عمرو بن معدي كرب.

أمن ريحانة الداعي السميع يهيجني وأصحابي هجوع

وقيل: "ما" نافية، أي: ما كانوا ينامون قليلاً من الليل، فكيف بالكثير منه، وهذا ضعيف جدًّا. وهذا قول من قال: إن المعنى كان عددهم قليلاً. ثم ابتدأ فقال: { مَا يَهْجَعُونَ } وبه قال ابن الأنباري، وهو أضعف مما قبله. وقال قتادة في تفسير هذه الآية: كانوا يصلون بين العشاءين، وبه قال أبو العالية، وابن وهب. { وَبِٱلأسْحَـٰرِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } أي: يطلبون في أوقات السحر من الله سبحانه أن يغفر ذنوبهم. قال الحسن: مدّوا الصلاة إلى الأسحار. ثم أخذوا بالأسحار الاستغفار. وقال الكلبي، ومقاتل، ومجاهد: هم بالأسحار يصلون، وذلك أن صلاتهم طلب منهم للمغفرة. وقال الضحاك: هي صلاة الفجر. ثم ذكر سبحانه صدقاتهم فقال: { وفي أَمْوٰلِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّائِلِ وَٱلْمَحْرُومِ } أي: يجعلون في أموالهم على أنفسهم حقاً للسائل والمحروم تقرّباً إلى الله عزّ وجلّ. وقال محمد بن سيرين، وقتادة: الحق هنا: الزكاة المفروضة، والأوّل أولى، فيحمل على صدقة النفل، وصلة الرحم، وقري الضيف؛ لأن السورة مكية، والزكاة لم تفرض إلاّ بالمدينة، وسيأتي في سورة { سأل سائل }: { والذين فِى أَمْوٰلِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ لَّلسَّائِلِ وَٱلْمَحْرُومِ } [المعارج: 24، 25] بزيادة معلوم، والسائل هو: الذي يسأل الناس لفاقته.

واختلف في تفسير المحروم، فقيل: هو الذي يتعفف عن السؤال حتى يحسبه الناس غنياً، فلا يتصدّقون عليه، وبه قال قتادة، والزهري. وقال الحسن، ومحمد ابن الحنفية: هو الذي لا سهم له في الغنيمة، ولا يجري عليه من الفيء شيء. وقال زيد بن أسلم: هو الذي أصيب ثمره، أو زرعه، أو ماشيته. قال القرطبي: هو الذي أصابته الجائحة. وقيل: الذي لا يكتسب. وقيل: هو الذي لا يجد غنى يغنيه، وقيل: هو الذي يطلب الدنيا وتدبر عنه. وقيل: هو المملوك. وقيل: الكلب. وقيل غير ذلك. قال الشعبي: لي اليوم سبعون سنة منذ احتلمت أسأل عن المحروم، فما أنا اليوم بأعلم مني فيه يومئذ، والذي ينبغي التعويل عليه ما يدلّ عليه المعنى اللغوي، والمحروم في اللغة: الممنوع، من الحرمان وهو المنع، فيدخل تحته من حرم الرزق من الأصل، ومن أصيب ماله بجائحة أذهبته، ومن حرم العطاء، ومن حرم الصدقة لتعففه. ثم ذكر سبحانه ما نصبه من الدلائل الدالة على توحيده، وصدق وعده ووعيده، فقال: { وَفِى ٱلأرْضِ ءايَـٰتٌ لّلْمُوقِنِينَ } أي: دلائل واضحة، وعلامات ظاهرة من الجبال والبرّ والبحر والأشجار والأنهار والثمار، وفيها آثار الهلاك للأمم الكافرة المكذّبة لما جاءت به رسل الله ودعتهم إليه، وخص الموقنين بالله لأنهم الذين يعترفون بذلك ويتدبرون فيه، فينتفعون به { وَفِى أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } أي: وفي أنفسكم آيات تدلّ على توحيد الله وصدق ما جاءت به الرّسل، فإنه خلقهم نطفة ثم علقة، ثم مضغة ثم عظماً، إلى أن ينفخ فيه الروح. ثم تختلف بعد ذلك صورهم، وألوانهم، وطبائعهم، وألسنتهم، ثم نفس خلقهم على هذه الصفة العجيبة الشأن من لحم ودم، وعظم وأعضاء، وحواسّ ومجاري ومنافس. ومعنى { أَفلاَ تُبْصِرُونَ }: أفلا تنظرون بعين البصيرة، فتستدلون بذلك على الخالق الرّازق المتفرّد بالألوهية، وأنه لا شريك له ولا ضدّ ولا ندّ، وأن وعده الحقّ، وقوله الحقّ، وأن ما جاءت إليكم به رسله هو الحقّ الذي لا شك فيه، ولا شبهة تعتريه. وقيل: المراد بالأنفس: الأرواح، أي: وفي نفوسكم التي بها حياتكم آيات { وَفِى ٱلسَّمَاء رِزْقُكُمْ } أي: سبب رزقكم، وهو المطر، فإنه سبب الأرزاق. قال سعيد بن جبير، والضحاك: الرزق هنا: ما ينزل من السماء من مطر وثلج. وقيل: المراد بالسماء: السحاب، أي: وفي السحاب رزقكم، وقيل: المراد بالسماء: المطر، وسماه سماء؛ لأنه ينزل من جهتها، ومنه قول الشاعر:

إذا نزل السماء بأرض قوم رعيناه وإن كانوا غضابا

وقال ابن كيسان: يعني: وعلى رب السماء رزقكم، قال: ونظيره: { وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي ٱلأرْضِ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ رِزْقُهَا } [هود: 6] وهو بعيد. وقال سفيان الثوري: أي: عند الله في السماء رزقكم. وقيل المعنى: وفي السماء تقدير رزقكم. قرأ الجمهور { رزقكم } بالإفراد، وقرأ يعقوب، وابن محيصن، ومجاهد (أرزاقكم) بالجمع { وَمَا تُوعَدُونَ } من الجنة والنار، قاله مجاهد. قال عطاء: من الثواب والعقاب، وقال الكلبي: من الخير والشرّ، قال ابن سيرين: ما توعدون من أمر الساعة، وبه قال الربيع. والأولى الحمل على ما هو أعمّ من هذه الأقوال، فإن جزاء الأعمال مكتوب في السماء، والقضاء والقدر ينزل منها، والجنة والنار فيها. ثم أقسم سبحانه بنفسه، فقال: { فَوَرَبّ ٱلسَّمَاء وَٱلأرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ } أي: ما أخبركم به في هذه الآيات. قال الزجاج: هو ما ذكر من أمر الرزق والآيات. قال الكلبي: يعني: ما قصّ في الكتاب. وقال مقاتل: يعني: من أمر الساعة. وقيل: إن "مَا" في قوله: { وَمَا تُوعَدُونَ } مبتدأ، وخبره: { فَوَرَبّ ٱلسَّمَاء وَٱلأرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ }، فيكون الضمير لما. ثم قال سبحانه: { مّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ } قرأ الجمهور بنصب { مثل } على تقدير: كمثل نطقكم و"ما" زائدة، كذا قال بعض الكوفيون: إنه منصوب بنزع الخافض. وقال الزجاج، والفراء: يجوز أن ينتصب على التوكيد، أي: لحق حقاً مثل نطقكم. وقال المازني: إن «مثل» مع «ما» بمنزلة شيء واحد فبني على الفتح. وقال سيبويه: هو مبنيّ لإضافته إلى غير متمكن، واختار هذه القراءة أبو عبيد، وأبو حاتم. وقرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر، والأعمش: (مثل) بالرفع على أنه صفة لحقّ لأن مثل نكرة وإن أضيفت، فهي لا تتعرّف بالإضافة كغير. ورجح قول المازني أبو عليّ الفارسي قال: ومثله قول حميد:

وويحاً لمن لم يدر ما هنّ ويحما

فبني ويح مع ما ولم يلحقه التنوين، ومعنى الآية تشبيه: تحقيق ما أخبر الله عنه بتحقيق نطق الآدمي ووجوده، وهذا كما تقول: إنه لحق كما أنك ها هنا، وإنه لحق كما أنك تتكلم، والمعنى: أنه في صدقه ووجوده كالذي تعرفه ضرورة.

وقد أخرج عبد الرزاق، والفريابي، وسعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن الأنباري، والدارقطني في الأفراد، والحاكم وصححه، والبيهقي في الشعب من طرق عن علي بن أبي طالب في قوله: { وَٱلذرِيَـٰتِ ذَرْواً } قال: الرياح { فَٱلْحَـٰمِلَـٰتِ وِقْراً } قال: السحاب { فَٱلْجَـٰرِيَـٰتِ يُسْراً } قال: السفن { فَٱلْمُقَسّمَـٰتِ أَمْراً } قال: الملائكة. وأخرج البزار، والدارقطني في الإفراد، وابن مردويه، وابن عساكر عن عمر بن الخطاب مثله، ورفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي إسناده أبو بكر بن سبرة، وهو لين الحديث، وسعيد بن سلام، وليس من أصحاب الحديث، كذا قال البزار. قال ابن كثير: فهذا الحديث ضعيف رفعه، وأقرب ما فيه أنه موقوف على عمر. وأخرج الفريابي، وابن مردويه عن ابن عباس مثل قول عليّ. وأخرج الفريابي، وسعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس { وَٱلسَّمَاء ذَاتِ ٱلْحُبُكِ } قال: حسنها واستواؤها. وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ في العظمة عنه في الآية قال: ذات البهاء والجمال، وإن بنيانها كالبرد المسلسل. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه قال: ذات الخلق الحسن. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن ابن عمر مثله. وأخرج ابن منيع عن عليّ قال: هي السماء السابعة. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: { يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ } قال: يضلّ عنه من ضلّ. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه أيضاً: { قُتِلَ ٱلْخَرصُونَ } قال: لعن المرتابون. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عنه أيضاً قال: هم الكهنة { ٱلَّذِينَ هُمْ فِى غَمْرَةٍ سَـٰهُونَ } قال: في غفلة لاهون. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً قال: الغمرة: الكفر والشك. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه قال: في ضلالتهم يتمادون، وفي قوله: { يَوْمَ هُمْ عَلَى ٱلنَّارِ يُفْتَنُونَ } قال: يعذبون. وأخرج هؤلاء عنه أيضاً في قوله: { ءاخِذِينَ مَا ءاتَـٰهُمْ رَبُّهُمْ } قال: الفرائض { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ } قال: قبل أن تنزل الفرائض يعملون. وأخرج هؤلاء أيضاً، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في الأسماء والصفات عنه أيضاً { كَانُواْ قَلِيلاً مّن ٱلَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ } قال: ما تأتي عليهم ليلة ينامون حتى يصبحوا إلاّ يصلون فيها. وأخرج ابن نصر، وابن جرير، وابن المنذر عنه أيضاً في الآية يقول: قليلاً ما كانوا ينامون. وأخرج أبو داود، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في سننه عن أنس في الآية قال: كانوا يصلون بين المغرب والعشاء. وأخرج عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن ابن عمر { وَبِٱلأسْحَـٰرِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } قال: يصلون. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس: { فِى أَمْوٰلِهِمْ حَقٌّ } قال: سوى الزكاة يصل بها رحماً، أو يقري بها ضيفاً، أو يعين بها محروماً. وأخرج سعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه قال: السائل الذي يسأل الناس، والمحروم الذي ليس له سهم من فيء المسلمين. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً قال: المحروم هو المحارف الذي يطلب الدنيا وتدبر عنه، ولا يسأل الناس، فأمر الله المؤمنين برفده. وأخرج ابن أبي حاتم عن عائشة في الآية قالت: هو المحارف الذي لا يكاد يتيسر له مكسبه. وأخرج الترمذي، والبيهقي في سننه عن فاطمة بنت قيس، أنها سألت النبيّ صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية قال: " إن في المال حقاً سوى الزكاة" ، وتلا هذه الآية { لَّيْسَ ٱلْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ } إلى قوله: { { وَفِي ٱلرّقَابِ وَأَقَامَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءاتَى ٱلزَّكَوٰةَ } [البقرة: 177]. وأخرج الفريابي، وسعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الشعب عن عبد الله بن الزبير في قوله: { وَفِى أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } قال: سبيل الغائط والبول.