التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ جَآءَ آلَ فِرْعَوْنَ ٱلنُّذُرُ
٤١
كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عِزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ
٤٢
أَكُفَّٰرُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَٰئِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَآءَةٌ فِي ٱلزُّبُرِ
٤٣
أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ
٤٤
سَيُهْزَمُ ٱلْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ ٱلدُّبُرَ
٤٥
بَلِ ٱلسَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَٱلسَّاعَةُ أَدْهَىٰ وَأَمَرُّ
٤٦
إِنَّ ٱلْمُجْرِمِينَ فِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ
٤٧
يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي ٱلنَّارِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ
٤٨
إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ
٤٩
وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِٱلْبَصَرِ
٥٠
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَآ أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ
٥١
وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي ٱلزُّبُرِ
٥٢
وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ
٥٣
إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ
٥٤
فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ
٥٥
-القمر

فتح القدير

{ ٱلنُّذُرُ } يجوز أن يكون جمع نذير، ويجوز أن يكون مصدر بمعنى: الإنذار كما تقدّم، وهي الآيات التي أنذرهم بها موسى، وهذا أولى لقوله: { كَذَّبُواْ بِـئَايَـٰتِنَا كُلَّهَا } فإنه بيان لذلك، والمراد بها: الآيات التسع التي تقدّم ذكرها { فَأَخَذْنَـٰهُمْ أَخْذَ عِزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ } أي: أخذناهم بالعذاب أخذ غالب في انتقامه قادر على إهلاكهم لا يعجزه شيء، ثم خوّف سبحانه كفار مكة فقال: { أَكُفَّـٰرُكُمْ خَيْرٌ مّنْ أُوْلَـئِكُمْ } والاستفهام للإنكار، والمعنى النفي، أي: ليس كفاركم يا أهل مكة، أو يا معشر العرب خير من كفار من تقدّمكم من الأمم الذين أهلكوا بسبب كفرهم، فكيف تطمعون في السلامة من العذاب، وأنتم شرّ منهم. ثم أضرب سبحانه عن ذلك، وانتقل إلى تبكيتهم بوجه آخر هو أشد من التبكيت بالوجه الأوّل، فقال: { أَمْ لَكُم بَرَاءةٌ فِى ٱلزُّبُرِ } والزبر هي الكتب المنزلة على الأنبياء، والمعنى: إنكار أن تكون لهم براءة من عذاب الله في شيء من كتب الأنبياء. ثم أضرب عن هذا التبكيت، وانتقل إلى التبكيت لهم بوجه آخر، فقال: { أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ } أي: جماعة لا تطاق لكثرة عددنا وقوّتنا، أو أمرنا مجتمع لا نغلب، وأفرد منتصراً اعتباراً بلفظ جميع. قال الكلبي: المعنى نحن جميع أمرنا ننتصر من أعدائنا، فردّ الله سبحانه عليهم بقوله: { سَيُهْزَمُ ٱلْجَمْعُ } أي: جمع كفار مكة، أو كفار العرب على العموم. قرأ الجمهور { سيهزم } بالتحتية مبنياً للمفعول. وقرأ ورش عن يعقوب: { سنهزم } بالنون وكسر الزاي ونصب الجمع. وقرأ أبو حيوة، وابن أبي عبلة بالتحتية مبنياً للفاعل، وقرىء بالفوقية مبنياً للفاعل { وَيُوَلُّونَ ٱلدُّبُرَ } قرأ الجمهور { يولون } بالتحتية، وقرأ عيسى، وابن أبي إسحاق، وورش عن يعقوب بالفوقية على الخطاب، والمراد بالدبر: الجنس، وهو في معنى الإدبار، وقد هزمهم الله يوم بدر، وولوا الأدبار، وقتل رؤساء الشرك، وأساطين الكفر، فلله الحمد. { بَلِ ٱلسَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ } أي: موعد عذابهم الأخرويّ، وليس هذا العذاب الكائن في الدنيا بالقتل والأسر والقهر، وهو تمام ما وعدوا به من العذاب، وإنما هو مقدّمة من مقدّماته وطليعة من طلائعه، ولهذا قال: { وَٱلسَّاعَةُ أَدْهَىٰ وَأَمَرُّ } أي: وعذاب الساعة أعظم في الضرّ وأفظع، مأخوذ من الدهاء، وهو النكر والفظاعة، ومعنى أمرّ: أشد مرارة من عذاب الدنيا، يقال: دهاه أمر كذا، أي: أصابه دهواً ودهياً. { إِنَّ ٱلْمُجْرِمِينَ فِى ضَلَـٰلٍ وَسُعُرٍ } أي: في ذهاب عن الحقّ وبعد عنه، وقد تقدّم في هذه السورة تفسير { وَسُعُرٍ }، فلا نعيده { يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِى ٱلنَّارِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ } والظرف منتصب بما قبله، أي: كائنون في ضلال وسعر يوم يسحبون، أو بقول مقدّر بعده، أي: يوم يسحبون يقال لهم: { ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ } أي: قاسوا حرّها وشدّة عذابها، وسقر: علم لجهنم. وقرأ أبو عمرو في رواية عنه بإدغام سين { مسّ } في سين { سقر } { إِنَّا كُلَّ شَىْء خَلَقْنَـٰهُ بِقَدَرٍ } قرأ الجمهور بنصب "كل" على الاشتغال. وقرأ أبو السماك بالرفع، والمعنى: أن كل شيء من الأشياء خلقه الله سبحانه ملتبساً بقدر قدّره، وقضاء قضاه سبق في علمه مكتوب في اللوح المحفوظ قبل وقوعه، والقدر: التقدير، وقد قدّمنا الكلام على تفسير هذه الآية مستوفى. { وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وٰحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِٱلْبَصَرِ } أي: إلا مرة واحدة، أو كلمة واحدة كلمح بالبصر في سرعته، واللمح: النظر على العجلة والسرعة. وفي الصحاح لمحه وألمحه: إذا أبصره بنظر خفيف، والاسم اللمحة. قال الكلبي: وما أمرنا بمجيء الساعة في السرعة إلاّ كطرف البصر. { وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَـٰعَكُمْ } أي: أشباهكم ونظراءكم في الكفر من الأمم، وقيل: أتباعكم وأعوانكم { فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } يتذكر ويتّعظ بالمواعظ، ويعلم أن ذلك حق، فيخاف العقوبة، وأن يحل به ما حلّ بالأمم السالفة { وَكُلُّ شَىْء فَعَلُوهُ فِى ٱلزُّبُرِ } أي: جميع ما فعلته الأمم من خير أو شرّ مكتوب في اللوح المحفوظ، وقيل: في كتب الحفظة { وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ } أي: كل شيء من أعمال الخلق وأقوالهم وأفعالهم مسطور في اللوح المحفوظ صغيره وكبيره، وجليله وحقيره، يقال: سطر يسطر سطراً كتب، وأسطر مثله. ثم لما فرغ سبحانه من ذكر حال الأشقياء ذكر حال السعداء فقال: { إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِى جَنَّـٰتٍ وَنَهَرٍ } أي: في بساتين مختلفة، وجنان متنوعة، وأنهار متدفقة. قرأ الجمهور: { ونهر } بفتح الهاء على الإفراد، وهو جنس يشمل أنهار الجنة، وقرأ مجاهد، والأعرج، وأبو السماك بسكون الهاء وهما لغتان، وقرأ أبو مجلز، وأبو نهشل، والأعرج، وطلحة بن مصرف، وقتادة (نهر) بضم النون، والهاء على الجمع { فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ } أي: في مجلس حقّ لا لغو فيه ولا تأثيم، وهو الجنة { عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ } أي قادر على ما يشاء لا يعجزه شيء، و{ عند } هنا كناية عن الكرامة، وشرف المنزلة، وقرأ عثمان البستي: (في مقاعد صدق).

وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس { أَكُفَّـٰرُكُمْ خَيْرٌ مّنْ أُوْلَـئِكُمْ } يقول: ليس كفاركم خير من قوم نوح، وقوم لوط. وأخرج ابن أبي شيبة، وابن منيع، وابن جرير، وابن المنذر، وابن مردويه عنه في قوله: { سَيُهْزَمُ ٱلْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ ٱلدُّبُرَ } قال: كان ذلك يوم بدر قالوا: { نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ } فنزلت هذه الآية. وفي البخاري، وغيره عنه أيضاً أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال وهو في قبة له يوم بدر: "أنشدك عهدك ووعدك، اللَّهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم أبداً" ، فأخذ أبو بكر بيده، وقال: حسبك يا رسول الله ألححت على ربك، فخرج، وهو يثب في الدرع، ويقول: { سَيُهْزَمُ ٱلْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ ٱلدُّبُرَ * بَلِ ٱلسَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَٱلسَّاعَةُ أَدْهَىٰ وَأَمَرُّ }. وأخرج أحمد، وعبد بن حميد، ومسلم، والترمذي، وابن ماجه، وغيرهم عن أبي هريرة قال: جاء مشركو قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخاصمونه في القدر، فنزلت: { يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِى ٱلنَّارِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ }. وأخرج مسلم عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل شيء بقدر حتى العجز، والكيس». وأخرج ابن المنذر عنه في قوله: { وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ } قال: مسطور في الكتاب.