التفاسير

< >
عرض

سَبَّحَ للَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ
١
لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ يُحْيِـي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
٢
هُوَ ٱلأَوَّلُ وَٱلآخِرُ وَٱلظَّاهِرُ وَٱلْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
٣
هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي ٱلأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
٤
لَّهُ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَإِلَى ٱللَّهِ تُرْجَعُ ٱلأُمُورُ
٥
يُولِجُ ٱلْلَّيْلَ فِي ٱلنَّهَارِ وَيُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱلْلَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ
٦
-الحديد

فتح القدير

قوله: { سَبَّحَ للَّهِ مَا فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأرْض } أي: نزّهه ومجده. قال المقاتلان: يعني كل شيء من ذي روح وغيره، وقد تقدّم الكلام في تسبيح الجمادات عند تفسير قوله: { وَإِن مّن شَىْء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } [الإسراء: 44] والمراد بالتسبيح المسند إلى ما في السمٰوات والأرض من العقلاء وغيرهم، والحيوانات والجمادات هو ما يعم التسبيح بلسان المقال كتسبيح الملائكة والإنس والجنّ، وبلسان الحال كتسبيح غيرهم، فإن كل موجود يدل على الصانع. وقد أنكر الزجاج أن يكون تسبيح غير العقلاء هو تسبيح الدلالة وقال: لو كان هذا تسبيح الدلالة، وظهور آثار الصنعة لكانت مفهومة، فلم قال: { وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } وإنما هو تسبيح مقال، واستدل بقوله: { { وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودُ ٱلْجِبَالَ يُسَبّحْنَ } [الأنبياء: 79] فلو كان هذا التسبيح من الجبال تسبيح دلالة لم يكن لتخصيص داود فائدة، وفعل التسبيح قد يتعدّى بنفسه تارة، كما في قوله: { وَسَبّحُوهُ } [الأحزاب: 42] وباللام أخرى كهذه الآية، وأصله أن يكون متعدياً بنفسه؛ لأن معنى سبحته: بعدته عن السوء، فإذا استعمل باللام، فهي إما مزيدة للتأكيد، كما في شكرته، وشكرت له، أو هي للتعليل، أي: افعل التسبيح؛ لأجل الله سبحانه خالصاً له، وجاء هذا الفعل في بعض الفواتح ماضياً كهذه الفاتحة، وفي بعضها مضارعاً، وفي بعضها أمراً للإشارة إلى أن هذه الأشياء مسبحة في كل الأوقات لا يختصّ تسبيحها بوقت دون وقت، بل هي مسبحة أبداً في الماضي، وستكون مسبحة أبداً في المستقبل، { وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ } أي: القادر الغالب الذي لا ينازعه أحد، ولا يمانعه ممانع كائناً ما كان { ٱلْحَكِيمُ } الذي يفعل أفعال الحكمة والصواب. { لَّهُ مُلْكُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأرْض } يتصرّف فيه وحده، ولا ينفذ غير تصرّفه وأمره، وقيل: أراد خزائن المطر والنبات، وسائر الأرزاق { يحيى ويميت } الفعلان في محل رفع على أنهما خبر لمبتدأ محذوف، أو في محل نصب على الحال من ضمير له، أو كلام مستأنف، لبيان بعض أحكام الملك، والمعنى: أنه يحيـي في الدنيا ويميت الأحياء، وقيل: يحيـي النطف وهي موات، ويميت الأحياء، وقيل: يحيـي الأموات للبعث { وَهُوَ عَلَىٰ كُلّ شَىْء قَدِيرٌ } لا يعجزه شيء كائناً ما كان. { هُوَ ٱلاْوَّلُ } قبل كل شيء { وَٱلآخِرُ } بعد كل شيء، أي: الباقي بعد فناء خلقه { وَٱلظَّـٰهِرُ } العالي الغالب على كل شيء، أو الظاهر وجوده بالأدلة الواضحة { وَٱلْبَـٰطِنُ } أي: العالم بما بطن، من قولهم: فلان يبطن أمر فلان، أي: يعلم داخلة أمره، ويجوز أن يكون المعنى المحتجب عن الأبصار، والعقول، وقد فسّر هذه الأسماء الأربعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما سيأتي، فيتعين المصير إلى ذلك { وَهُوَ بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ } لا يعزب عن علمه شيء من المعلومات. { هُوَ ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } هذا بيان لبعض ملكه للسمٰوات والأرض. وقد تقدّم تفسيره في سورة الأعراف وفي غيرها مستوفي { يَعْلَمُ مَا يَلْجُ فِى ٱلاْرْضِ } أي: يدخل فيها من مطر وغيره { وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا } من نبات وغيره { وَمَا يَنزِلُ مِنَ ٱلسَّمَاء } من مطر وغيره { وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا } أي: يصعد إليها من الملائكة، وأعمال العباد، وقد تقدّم تفسير هذا في سورة سبأ { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنتُمْ } أي: بقدرته، وسلطانه، وعلمه، وهذا تمثيل للإحاطة بما يصدر منهم أينما داروا في الأرض من برّ وبحر { وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } لا يخفى عليه من أعمالكم شيء { لَّهُ مُلْكُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأرْض } هذا التكرير للتأكيد { وَإِلَى ٱللَّهِ تُرْجَعُ ٱلأمُورُ } لا إلى غيره. قرأ الجمهور { ترجع } مبنياً للمفعول. وقرأ حمزة، والكسائي، وابن عامر على البناء للفاعل. { يُولِجُ ٱلَّيْلَ فِى ٱلنَّهَارِ وَيُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِى ٱلَّيْلِ } قد تقدّم تفسير هذا في سورة آل عمران، وفي مواضع { وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ } أي: بضمائر الصدور ومكنوناتها، لا يخفى عليه من ذلك خافية.

وقد أخرج ابن أبي شيبة، ومسلم، والترمذي، والبيهقي، عن أبي هريرة قال: جاءت فاطمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأله خادماً، فقال: قولي: "اللَّهمّ ربّ السمٰوات السبع، ورب العرش العظيم، وربنا وربّ كل شيء، منزل التوراة والإنجيل والفرقان، فالق الحبّ والنوى، أعوذ بك من شرّ كل شيء أنت آخذ بناصيته، أنت الأول، فليس قبلك شيء، وأنت الآخر، فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر، فليس فوقك شيء، وأنت الباطن، فليس دونك شيء، اقض عنا الدين، وأغننا من الفقر" . وأخرج أحمد، ومسلم، وغيرهما من حديث أبي هريرة من وجه آخر مرفوعاً مثل هذا في الأربعة الأسماء المذكورة، وتفسيرها. وأخرج أبو الشيخ في العظمة عن ابن عمر وأبي سعيد عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "لا يزال الناس يسألون عن كل شيء حتى يقولوا: هذا الله كان قبل كل شيء، فماذا كان قبل الله؟ فإن قالوا لكم ذلك، فقولوا: هو الأوّل قبل كل شيء، والآخر فليس بعده شيء، وهو الظاهر فوق كل شيء، وهو الباطن دون كل شيء، وهو بكل شيء عليم" . وأخرج أبو داود عن أبي زميل قال: سألت ابن عباس، فقلت: ما شيء أجده في صدري، قال ما هو؟ قلت: والله لا أتكلم به، قال: فقال لي: أشيء من شك؟ قال، وضحك، قال: ما نجا من ذلك أحد، قال: حتى أنزل الله: { فَإِن كُنتَ فِي شَكّ مّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ ٱلَّذِينَ يَقْرَءونَ ٱلْكِتَـٰبَ مِن قَبْلِكَ } الآية [يونس: 94] قال: وقال لي: إذا وجدت في نفسك شيئًا فقل: { هو الأوّل والآخر والظاهر والباطن، وهو بكل شيء عليم }. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنتُمْ } قال: عالم بكم أينما كنتم.