التفاسير

< >
عرض

سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ
١
هُوَ ٱلَّذِيۤ أَخْرَجَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ ٱلْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ وَظَنُّوۤاْ أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ ٱللَّهِ فَأَتَاهُمُ ٱللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي ٱلْمُؤْمِنِينَ فَٱعْتَبِرُواْ يٰأُوْلِي ٱلأَبْصَارِ
٢
وَلَوْلاَ أَن كَتَبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمُ ٱلْجَلاَءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ عَذَابُ ٱلنَّارِ
٣
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَآقِّ ٱللَّهَ فَإِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ
٤
مَا قَطَعْتُمْ مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَآئِمَةً عَلَىٰ أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ ٱللَّهِ وَلِيُخْزِيَ ٱلْفَاسِقِينَ
٥
وَمَآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
٦
مَّآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ ٱلْقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ ٱلأَغْنِيَآءِ مِنكُمْ وَمَآ آتَاكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ
٧
-الحشر

فتح القدير

قوله: { سَبَّحَ للَّهِ مَا فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَمَا فِي ٱلأرْضِ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } قد تقدّم تفسير هذا في سورة الحديد. { هُوَ ٱلَّذِى أَخْرَجَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ مِن دِيَـٰرِهِمْ لأوَّلِ ٱلْحَشْرِ } هم بنو النضير، وهم. رهط من اليهود من ذرية هارون، نزلوا المدينة في فتن بني إسرائيل انتظاراً منهم لمحمد صلى الله عليه وسلم، فغدروا بالنبيّ صلى الله عليه وسلم بعد أن عاهدوه، وصاروا عليه مع المشركين، فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رضوا بالجلاء. قال الكلبي: كانوا أوّل من أجلي من أهل الذمّة من جزيرة العرب، ثم أجلي آخرهم في زمن عمر بن الخطاب، فكان جلاؤهم أوّل حشر من المدينة، وآخر حشر إجلاء عمر لهم. وقيل: إن أوّل الحشر إخراجهم من حصونهم إلى خيبر، وآخر الحشر إخراجهم من خيبر إلى الشام، وقيل: آخر الحشر هو حشر جميع الناس إلى أرض المحشر، وهي الشام. قال عكرمة: من شك أن المحشر يوم القيامة في الشام، فليقرأ هذه الآية، وأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لهم: "اخرجوا" ، قالوا: إلى أين؟ قال: "إلى أرض المحشر" . قال ابن العربي: الحشر أوّل وأوسط وآخر، فالأوّل إجلاء بني النضير، والأوسط إجلاء أهل خيبر، والآخر يوم القيامة.

وقد أجمع المفسرون على أن هؤلاء المذكورين في الآية هم بنو النضير، ولم يخالف في ذلك إلاّ الحسن البصري فقال: هم بنو قريظة، وهو غلط، فإن بني قريظة ما حشروا، بل قتلوا بحكم سعد بن معاذ لما رضوا بحكمه، فحكم عليهم بأن تقتل مقاتلتهم، وتسبي ذراريهم، وتغنم أموالهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد: "لقد حكمت بحكم الله من فوق سبعة أرقعة" . واللام في { لأوّل الحشر } متعلقة بـ { أخرج }، وهي لام التوقيت كقوله: { لِدُلُوكِ ٱلشَّمْسِ } [الإسراء: 78]. { مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ } هذا خطاب للمسلمين، أي: ما ظننتم أيها المسلمون أن بني النضير يخرجون من ديارهم؛ لعزتهم، ومنعتهم، وذلك أنهم كانوا أهل حصون مانعة، وعقار، ونخيل واسعة، وأهل عدد وعدّة { وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مّنَ ٱللَّهِ } أي: وظنّ بنو النضير أن حصونهم تمنعهم من بأس الله، وقوله: { مَّانِعَتُهُمْ } خبر مقدّم، و{ حصونهم } مبتدأ مؤخر، والجملة خبر { أنهم }، ويجوز أن يكون { مانعتهم } خبر { أنهم }، و{ حصونهم } فاعل { مانعتهم }، ورجح الثاني أبو حيان، والأوّل أولى { فَأَتَـٰهُمُ ٱللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ } أي: أتاهم أمر الله من حيث لم يخطر ببالهم أنه يأتيهم أمره من تلك الجهة، وهو أنه سبحانه أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بقتالهم وإجلائهم وكانوا لا يظنون ذلك، وقيل: هو قتل رئيسهم كعب بن الأشرف، قاله ابن جريج، والسديّ، وأبو صالح، فإنّ قتله أضعف شوكتهم. وقيل: إن الضمير في { أتاهم }، و{ لم يحتسبوا } للمؤمنين، أي: فأتاهم نصر الله من حيث لم يحتسبوا، والأوّل أولى لقوله: { وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعْبَ } فإن قذف الرعب كان في قلوب بني النضير، لا في قلوب المسلمين. قال أهل اللغة: الرعب: الخوف الذي يرعب الصدر، أي: يملؤه، وقذفه: إثباته فيه. وقيل: كان قذف الرعب في قلوبهم بقتل سيدهم كعب بن الأشرف، والأولى عدم تقييده بذلك، وتفسيره به، بل المراد بالرعب الذي قذفه الله في قلوبهم هو الذي ثبت في الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم: "نصرت بالرعب مسيرة شهر" . { يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِى ٱلْمُؤْمِنِينَ } وذلك أنهم لما أيقنوا بالجلاء حسدوا المسلمين أن يسكنوا منازلهم، فجعلوا يخربونها من داخل، والمسلمون من خارج. قال قتادة والضحاك: كان المؤمنون يخربون من خارج، ليدخلوا، واليهود من داخل ليبنوا به ما خرب من حصنهم. قال الزجاج: معنى تخريبها بأيدي المؤمنين: أنهم عرضوها لذلك. قرأ الجمهور: { يخربون } بالتخفيف، وقرأ الحسن، والسلمي، ونصر بن عاصم، وأبو العالية، وأبو عمرو بالتشديد. قال أبو عمرو: إنما اخترت القراءة بالتشديد، لأن الإخراب ترك الشيء خراباً، وإنما خربوها بالهدم. وليس ما قاله بمسلم، فإن التخريب والإخراب عند أهل اللغة بمعنى واحد. قال سيبويه: إن معنى فعلت وأفعلت يتعاقبان نحو أخربته وخربته، وأفرحته وفرحته. واختار القراءة الأولى أبو عبيد، وأبو حاتم. قال الزهري، وابن زيد، وعروة بن الزبير: لما صالحهم النبيّ صلى الله عليه وسلم على أن لهم ما أقلت الإبل، كانوا يستحسنون الخشبة، أو العمود، فيهدمون بيوتهم، ويحملون ذلك على إبلهم، ويخرب المؤمنون باقيها. وقال الزهري أيضاً: { يخربون بيوتهم } بنقض المعاهدة، و{ أيدي المؤمنين } بالمقاتلة، وقال أبو عمرو: بأيديهم في تركهم لها، وبـ { أيدي المؤمنين } في إجلائهم عنها، والجملة إما مستأنفة لبيان ما فعلوه، أو في محل نصب على الحال { فَٱعْتَبِرُواْ يٰأُوْلِى ٱلأبْصَـٰرِ } أي: اتعظوا وتدبروا، وانظروا فيما نزل بهم يا أهل العقول والبصائر. قال الواحدي: ومعنى الاعتبار: النظر في الأمور ليعرف بها شيء آخر من جنسها. { وَلَوْلاَ أَن كَتَبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمُ ٱلْجَلاَء لَعَذَّبَهُمْ فِى ٱلدُّنْيَا } أي: لولا أن كتب الله عليهم الخروج من أوطانهم على ذلك الوجه، وقضى به عليهم لعذبهم بالقتل والسبي في الدنيا، كما فعل ببني قريظة. والجلاء: مفارقة الوطن، يقال: جلا بنفسه جلاء، وأجلاه غيره إجلاءً. والفرق بين الجلاء والإخراج، وإن كان معناهما في الإبعاد واحداً من جهتين: إحداهما: أن الجلاء ما كان مع الأهل والولد، والإخراج قد يكون مع بقاء الأهل والولد. الثاني: أن الجلاء لا يكون إلاّ لجماعة، والإخراج يكون لجماعة ولواحد، كذا قال الماوردي. { وَلَهُمْ فِى ٱلآخِرَةِ عَذَابُ ٱلنَّارِ } هذه الجملة مستأنفة غير متعلقة بجواب لولا متضمنة لبيان ما يحصل لهم في الآخرة من العذاب، وإن نجوا من عذاب الدنيا، والإشارة بقوله: { ذٰلِكَ } إلى ما تقدّم ذكره من الجلاء في الدنيا، والعذاب في الآخرة { بِأَنَّهُمْ شَاقُّواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } أي: بسبب المشاقة منهم لله ولرسوله بعدم الطاعة، والميل مع الكفار، ونقض العهد { وَمَن يُشَاقّ ٱللَّهَ فَإِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ } اقتصر هاهنا على مشاقة الله؛ لأن مشاقته مشاقة لرسوله. قرأ الجمهور: { يشاق } بالإدغام، وقرأ طلحة بن مصرف، ومحمد بن السميفع: (يشاقق) بالفك. { مَا قَطَعْتُمْ مّن لّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى&1648; أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ ٱللَّهِ } قال مجاهد: إن بعض المهاجرين وقعوا في قطع النخل، فنهاهم بعضهم، وقالوا: إنما هي مغانم للمسلمين، وقال الذين قطعوا: بل هو غيظ للعدوّ؛ فنزل القرآن بتصديق من نهى عن قطع النخل، وتحليل من قطعه من الإثم فقال: { مَا قَطَعْتُمْ مّن لّينَةٍ } قال قتادة، والضحاك: إنهم قطعوا من نخيلهم وأحرقوا ست نخلات. وقال محمد بن إسحاق: إنهم قطعوا نخلة وأحرقوا نخلة، فقال بنو النضير، وهم أهل كتاب: يا محمد ألست تزعم أنك نبيّ تريد الصلاح، أفمن الصلاح قطع النخل، وحرق الشجر؟، وهل وجدت، فيما أنزل عليك إباحة الفساد في الأرض، فشقّ ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووجد المسلمون في أنفسهم، فنزلت الآية، ومعنى الآية: أيُّ شيء قطعتم من ذلك أو تركتم فبإذن الله، والضمير في { تركتموها } عائد إلى «ما» لتفسيرها باللينة، وكذا في قوله: { قَائِمَةً عَلَىٰ أُصُولِهَا }، ومعنى { عَلَىٰ أُصُولِهَا }: أنها باقية على ما هي عليه.

واختلف المفسرون في تفسير اللينة، فقال الزهري، ومالك، وسعيد بن جبير، وعكرمة، والخليل: إنها النخل كله إلاّ العجوة. وقال مجاهد: إنها النخل كله، ولم يستثن عجوة ولا غيرها. وقال الثوري: هي كرام النخل. وقال أبو عبيدة: إنها جميع أنواع التمر سوى العجوة والبرني. وقال جعفر بن محمد: إنها العجوة خاصة، وقيل: هي ضرب من النخل، يقال لتمره: اللون، تمره أجود التمر. وقال الأصمعي: هي الدقل. وأصل اللينة. لونة، فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها، وجمع اللينة لين، وقيل: ليان. وقرأ ابن مسعود (ما قطعتم من لينة ولا تركتم قوماً على أصولها) أي: قائمة على سوقها، وقرىء: (على أصلها)، وقرىء: (قائماً على أصوله) { وَلِيُخْزِىَ ٱلْفَـٰسِقِينَ } أي: ليذلّ الخارجين عن الطاعة، وهم اليهود، ويغيظهم في قطعها وتركها، لأنهم إذا رأوا المؤمنين يتحكمون في أموالهم كيف شاءوا من القطع والترك ازدادوا غيظاً. قال الزجاج: { وليخزي الفاسقين } بأن يريهم أموالهم يتحكم فيها المؤمنون كيف أحبوا من قطع وترك، والتقدير: وليخزي الفاسقين أذن في ذلك، يدل على المحذوف قوله: { فَبِإِذْنِ ٱللَّهِ }، وقد استدلّ بهذه الآية على جواز الاجتهاد، وعلى تصويب المجتهدين، والبحث مستوفى في كتب الأصول. { وَمَا أَفَاء ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْهُمْ } أي: ما ردّه عليه من أموال الكفار، يقال: فاء يفيء، إذا رجع، والضمير في { منهم } عائد إلى بني النضير { فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ } يقال: وجف الفرس والبعير يجف وجفاً، وهو سرعة السير، وأوجفه صاحبه: إذا حمله على السير السريع، ومنه قول تميم بن مقبل:

مذ أوبد بالبيض الحديد صقالها عن الركب أحياناً إذا الركب أوجفوا

وقال نصيب:

ألا رُبَّ ركب قد قطعت وجيفهم إليك ولولا أنت لم يوجف الركب

و«ما» في { فَمَا أَوْجَفْتُمْ } نافية، والفاء جواب الشرط إن كانت «ما» في قوله: { مَّا أَفَاء ٱللَّهُ } شرطية، وإن موصولة، فالفاء زائدة، «ومن» في قوله: { مِنْ خَيْلٍ } زائدة للتأكيد، والركاب. ما يركب من الإبل خاصة، والمعنى: أن ما ردّ الله على رسوله من أموال بني النضير لم تركبوا لتحصيله خيلاً، ولا إبلاً، ولا تجشمتم لها شقة، ولا لقيتم بها حرباً ولا مشقة، وإنما كانت من المدينة على ميلين، فجعل الله سبحانه أموال بني النضير لرسوله صلى الله عليه وسلم، خاصة لهذا السبب، فإنه افتتحها صلحاً، وأخذ أموالها، وقد كان سأله المسلمون أن يقسم لهم، فنزلت الآية: { وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يُسَلّطُ رُسُلَهُ عَلَىٰ مَن يَشَاء } من أعدائه، وفي هذا بيان أن تلك الأموال كانت خاصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، دون أصحابه لكونهم لم يوجفوا عليها بخيل، ولا ركاب، بل مشوا إليها مشياً، ولم يقاسوا فيها شيئًا من شدائد الحروب، { وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلّ شَيْء قَدِيرٌ } يسلط من يشاء على من أراد، ويعطي من يشاء، ويمنع من يشاء { لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْـئَلُونَ } [الأنبياء: 23]. { مَّا أَفَاء ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ ٱلْقُرَىٰ } هذا بيان لمصارف الفيء بعد بيان أنه لرسول الله خاصة، والتكرير لقصد التقرير والتأكيد، ووضع { أهل القرى } موضع قوله: { مِنْهُمْ } أي: من بني النضير للإشعار بأن هذا الحكم لا يختصّ ببني النضير وحدهم، بل هو حكم على كل قرية يفتحها رسول الله صلى الله عليه وسلم صلحاً، ولم يوجف عليها المسلمون بخيل ولا ركاب. قيل: والمراد بالقرى: بنو النضير، وقريظة، وفدك، وخيبر. وقد تكلم أهل العلم في هذه الآية والتي قبلها، هل معناهما متفق، أو مختلف؟ فقيل: معناهما متفق كما ذكرنا، وقيل: مختلف وفي ذلك كلام لأهل العلم طويل. قال ابن العربي: لا إشكال أنها ثلاثة معانٍ في ثلاث آيات. أما الآية الأولى، وهي قوله: { وَمَا أَفَاء ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْهُمْ } فهي خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم خالصة له، وهي أموال بني النضير وما كان مثلها. وأما الآية الثانية، وهي قوله: { مَّا أَفَاء ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ ٱلْقُرَىٰ } فهذا كلام مبتدأ غير الأوّل بمستحق غير الأول، وإن اشتركت هي والأولى في أن كل واحدة منهما تضمنت شيئًا أفاءه الله على رسوله، واقتضت الآية الأولى أنه حاصل بغير قتال، واقتضت آية الأنفال، وهي الآية الثالثة أنه حاصل بقتال، وعريت الآية الثانية، وهي قوله: { مَّا أَفَاء ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ ٱلْقُرَىٰ } عن ذكر حصوله بقتال، أو بغير قتال، فنشأ الخلاف من ها هنا؛ فطائفة قالت: هي ملحقة بالأولى، وهي مال الصلح، وطائفة قالت: هي ملحقة بالثالثة، وهي آية الأنفال. والذين قالوا: إنها ملحقة بآية الأنفال اختلفوا هل هي منسوخة، أو محكمة؟ هذا معنى حاصل كلامه. وقال مالك: إن الآية الأولى من هذه السورة خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم، والآية الثانية: هي في بني قريظة، ويعني: أن معناها يعود إلى آية الأنفال. ومذهب الشافعي أن سبيل خمس الفيء سبيل خمس الغنيمة، وأنّ أربعة أخماسه كانت للنبيّ صلى الله عليه وسلم وهي بعده لمصالح المسلمين { فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَـٰكِينِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ } المراد بقوله: { لِلَّهِ } أنه { يحكم فيه بما يشاء } { وَلِلرَّسُولِ } يكون ملكاً له { وَلِذِى ٱلْقُرْبَىٰ } وهم بنو هاشم، وبنو المطلب، لأنهم قد منعوا من الصدقة، فجعل لهم حقاً في الفيء. قيل: تكون القسمة في هذا المال على أن يكون أربعة أخماسه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وخمسه يقسم أخماساً. للرّسول خمس، ولكل صنف من الأصناف الأربعة المذكورة خمس، وقيل: يقسم أسداساً. السادس: سهم الله سبحانه، ويصرف إلى وجوه القرب، كعمارة المساجد، ونحو ذلك { كيلاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ ٱلأغْنِيَاء مِنكُمْ } أي: كيلا يكون الفيء دولة بين الأغنياء دون الفقراء، والدولة: اسم للشيء يتداوله القوم بينهم، يكون لهذا مرّة ولهذا مرّة. قال مقاتل: المعنى: أنه يغلب الأغنياء الفقراء، فيقسمونه بينهم. قرأ الجمهور: { يكون } بالتحتية { دولة } بالنصب أي: كيلا يكون الفيء دولة. وقرأ أبو جعفر، والأعرج، وهشام، وأبو حيان: (تكون) بالفوقية "دولة" بالرفع، أي: كيلا تقع، أو توجد دولة، وكان تامة. وقرأ الجمهور: "دولة" بضم الدال. وقرأ أبو حيوة، والسلمي بفتحها. قال عيسى بن عمر، ويونس، والأصمعي: هما لغتان بمعنى واحد. وقال أبو عمرو بن العلاء: الدولة بالفتح الذي يتداول من الأموال، وبالضم الفعل، وكذا قال أبو عبيدة. ثم لما بيّن لهم سبحانه مصارف هذا المال أمرهم بالاقتداء برسوله صلى الله عليه وسلم فقال: { وَمَا ءاتَـٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَـٰكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ } أي: ما أعطاكم من مال الغنيمة فخذوه، وما نهاكم عن أخذه فانتهوا عنه، ولا تأخذوه. قال الحسن، والسديّ: ما أعطاكم من مال الفيء فاقبلوه، وما منعكم منه فلا تطلبوه. وقال ابن جريج: ما آتاكم من طاعتي فافعلوا، وما نهاكم عنه من معصيتي فاجتنبوه. والحقّ أن هذه الآية عامة في كل شيء يأتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمر أو نهي، أو قول أو فعل، وإن كان السبب خاصاً، فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وكل شيء أتانا به من الشرع، فقد أعطانا إياه، وأوصله إلينا، وما أنفع هذه الآية وأكثر فائدتها. ثم لما أمرهم بأخذ ما أمرهم به الرّسول، وترك ما نهاهم عنه أمرهم بتقواه، وخوفهم شدّة عقوبته، فقال: { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } فهو معاقب من لم يأخذه ما آتاه الرّسول، ولم يترك ما نهاه عنه.

وقد أخرج الحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل عن عائشة قالت: كانت غزوة بني النضير، - وهم طائفة من اليهود - على رأس ستة أشهر من وقعة بدر، وكان منزلهم، ونخلهم في ناحية المدينة، فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلوا على الجلاء، وعلى أن لهم ما أقلت الإبل من الأمتعة، والأموال إلاّ الحلقة، يعني: السلاح، فأنزل الله فيهم { سَبَّحَ للَّهِ مَا فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَمَا فِي ٱلأرْضِ } إلى قوله: { لأوَّلِ ٱلْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ } فقاتلهم النبيّ حتى صالحهم على الإجلاء، وجلاهم إلى الشام، وكانوا من سبط لم يصبهم جلاء فيما خلا، وكان الله قد كتب عليهم ذلك، ولولا ذلك لعذبهم في الدنيا بالقتل والسبي، وأما قوله: { لأوَّلِ ٱلْحَشْرِ } فكان إجلاؤهم ذلك أوّل حشر في الدنيا إلى الشام. وأخرج البزار، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقيّ في البعث عن ابن عباس قال: من شك أن المحشر بالشام فليقرأ هذه الآية: { هُوَ ٱلَّذِى أَخْرَجَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ مِن دِيَـٰرِهِمْ لأوَّلِ ٱلْحَشْرِ } قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ: "اخرجوا"، قالوا: "إلى أين؟ قال: إلى أرض المحشر". وأخرج ابن جرير، وابن مردويه، والبيهقيّ في الدلائل، وابن عساكر عن ابن عباس قال: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم قد حاصرهم حتى بلغ منهم كل مبلغ، فأعطوه ما أراد منهم، فصالحهم على أن يحقن لهم دماءهم، وأن يخرجهم من أرضهم وأوطانهم، وأن يسيروا إلى أذرعات الشام، وجعل لكل ثلاثة منهم بعيراً وسقاء. وفي البخاري، ومسلم، وغيرهما عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرق نخل بني النضير، وقطع وهي البويرة، ولها يقول حسان:

لهان على سراة بني لؤيّ حريق بالبويرة مستطير

فأنزل الله: { مَا قَطَعْتُمْ مّن لّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَىٰ أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ ٱللَّهِ وَلِيُخْزِىَ ٱلْفَـٰسِقِينَ }. وأخرج الترمذي وحسنه، والنسائي، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال: اللينة: النخلة { وَلِيُخْزِىَ ٱلْفَـٰسِقِينَ } قال: استنزلوهم من حصونهم، وأمروا بقطع النخل، فحكّ في صدورهم، فقال المسلمون: قد قطعنا بعضاً وتركنا بعضاً، فلنسألنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم هل لنا فيما قطعنا من أجر، وهل علينا فيما تركنا من وزر؟ فأنزل الله: { مَا قَطَعْتُمْ مّن لّينَةٍ } الآية، وفي الباب أحاديث، والكلام في صلح بني النضير مبسوط في كتب السير. وأخرج البخاريّ، ومسلم، وغيرهما عن عمر بن الخطاب قال: كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله، ومما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، وكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة، فكان ينفق على أهله منها نفقة سنة، ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع عدّة في سبيل الله. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله: { فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ } فجعل ما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكم فيه ما أراد، ولم يكن يومئذٍ خيل ولا ركاب يوجف بها. قال: والإيجاف أن يوضعوا السير، وهي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان من ذلك خيبر، وفدك، وقرى عرينة. وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعمد لينبع، فأتاها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاحتواها كلها، فقال ناس: هلا قسمها الله، فأنزل الله عذره فقال: { مَّا أَفَاء ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ ٱلْقُرَىٰ } الآية. وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً قال: كان ما أفاء الله على رسوله من خيبر نصف لله ورسوله، والنصف الآخر للمسلمين، فكان الذي لله ورسوله من ذلك الكثيبة، والوطيح، وسلالم، ووحدوه، وكان الذي للمسلمين الشقّ: ثلاثة عشر سهماً، ونطاة خمسة أسهم، ولم يقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر لأحد من المسلمين إلاّ لمن شهد الحديبية، ولم يأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحد من المسلمين تخلف عنه عند مخرجه إلى الحديبية أن يشهد معه خيبر إلاّ جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاريّ. وأخرج أبو داود، وابن مردويه عن عمر بن الخطاب قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم صفايا في النضير، وخيبر، وفدك، فأما بنو النضير فكانت حبساً لنوائبه، وأما فدك فكانت لابن السبيل، وأما خيبر فجزأها ثلاثة أجزاء: قسم منها جزءين بين المسلمين، وحبس جزءاً لنفسه ولنفقة أهله، فما فضل عن نفقة أهله ردّها على فقراء المهاجرين. وأخرج عبد الرزاق، وابن سعد، وابن أبي شيبة، وابن زنجويه في الأموال، وعبد بن حميد، وابن المنذر عن عمر بن الخطاب قال: ما على وجه الأرض مسلم إلاّ وله في هذا الفيء حقّ إلاّ ما ملكت أيمانكم. وأخرج البخاريّ، ومسلم، وغيرهما عن ابن مسعود قال: "لعن الله الواشمات والمستوشمات، والمتنمصات والمتفلجات للحسن، المغيرات لخلق الله" ، فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها: أمّ يعقوب، فجاءت ابن مسعود، فقالت: بلغني أنك لعنت كيت وكيت، قال: وما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في كتاب الله؟ قالت: لقد قرأت ما بين الدّفتين، فما وجدت فيه شيئًا من هذا، قال: لئن كنت قرأته لقد وجدته، أما قرأت { ومَا آتَـٰكُمْ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَـٰكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ } قالت: بلى، قال: فإنه قد نهى عنه.