التفاسير

< >
عرض

لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلصَّادِقُونَ
٨
وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُوا ٱلدَّارَ وَٱلإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ
٩
وَٱلَّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا ٱغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا ٱلَّذِينَ سَبَقُونَا بِٱلإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ
١٠
-الحشر

فتح القدير

قوله: { لِلْفُقَرَاء } قيل: هو بدل من { لذى ٱلْقُرْبَىٰ } وما عطف عليه، ولا يصح أن يكون بدلاً من الرسول، وما بعده لئلا يستلزم وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفقر، وقيل التقدير: { كَى لاَ يَكُونَ دُولَةً } ولكن يكون للفقراء، وقيل: التقدير: اعجبوا للفقراء، وقيل: التقدير: والله شديد العقاب للفقراء أي: شديد العقاب للكفار بسبب الفقراء، وقيل: هو عطف على ما مضى بتقدير الواو، كما تقول: المال لزيد لعمرو لبكر، والمراد بـ{ الْمُهَـٰجِرِينَ }: الذين هاجروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رغبة في الدين ونصرة له. قال قتادة: هؤلاء المهاجرون هم الذين تركوا الديار، والأموال، والأهلين، ومعنى { أُخْرِجُواْ مِن دِيَـٰرِهِم }: أن كفار مكة أخرجوهم منها، واضطروهم إلى الخروج، وكانوا مائة رجل { يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَاناً } أي: يطلبون منه أن يتفضل عليهم بالرزق في الدنيا، وبالرضوان في الآخرة { وَيَنصُرُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } بالجهاد للكفار، وهذه الجملة معطوفة على { يبتغون }، ومحل الجملتين النصب على الحال، الأولى مقارنة، والثانية مقدّرة، أي: ناوين لذلك، ويجوز أن تكون حالاً مقارنة؛ لأن خروجهم على تلك الصفة نصرة لله ورسوله، والإشارة بقوله: { أُوْلَـٰئِكَ } إليهم من حيث اتصافهم بتلك الصفات، وهو مبتدأ، وخبره: { هُمُ ٱلصَّـٰدِقُونَ } أي: الكاملون في الصدق الراسخون فيه. ثم لما فرغ من مدح المهاجرين مدح الأنصار فقال: { وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءوا ٱلدَّارَ وَٱلإيمَـٰنَ مِن قَبْلِهِمْ } المراد بالدار: المدينة، وهي دار الهجرة، ومعنى تبوّئهم الدار والإيمان: أنهم اتخذوها مباءة، أي: تمكنوا منهما تمكناً شديداً، والتبوّأ في الأصل إنما يكون للمكان، ولكنه جعل الإيمان مثله لتمكنهم فيه تنزيلاً للحال منزلة المحل، وقيل: إن الإيمان منصوب بفعل غير الفعل المذكور، والتقدير: واعتقدوا الإيمان، أو وأخلصوا الإيمان كذا قال أبو علي الفارسي. ويجوز أن يكون على حذف مضاف، أي: تبوءوا الدار وموضع الإيمان، ويجوز أن يكون تبوّءوا مضمناً لمعنى لزموا، والتقدير: لزموا الدار والإيمان، ومعنى { مِن قَبْلِهِم }: من قبل هجرة المهاجرين، فلا بدّ من تقدير مضاف، لأن الأنصار إنما آمنوا بعد إيمان المهاجرين، والموصول مبتدأ، وخبره: { يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ } وذلك لأنهم أحسنوا إلى المهاجرين، وأشركوهم في أموالهم ومساكنهم { وَلاَ يَجِدُونَ فِى صُدُورِهِمْ حَاجَةً } أي: لا يجد الأنصار في صدورهم حسداً، وغيظاً، وحزازة { مّمَّا أُوتُواْ } أي: مما أوتي المهاجرون دونهم من الفيء، بل طابت أنفسهم بذلك. وفي الكلام مضاف محذوف، أي: لا يجدون في صدورهم مسّ حاجة، أو أثر حاجة، وكلّ ما يجده الإنسان في صدره مما يحتاج إليه فهو حاجة. وكان المهاجرون في دور الأنصار فلما غنم النبيّ صلى الله عليه وسلم بني النضير دعا الأنصار، وشكرهم فيما صنعوا مع المهاجرين من إنزالهم إياهم في منازلهم، وإشراكهم في أموالهم، ثم قال: "إن أحببتم قسمت ما أفاء الله عليّ من بني النضير بينكم وبين المهاجرين - وكان المهاجرون على ما هم عليه من السكنى في مساكنكم، والمشاركة لكم في أموالكم - وإن أحببتم أعطيتهم ذلك، وخرجوا من دياركم" ، فرضوا بقسمة ذلك في المهاجرين، وطابت أنفسهم { وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } الإيثار: تقديم الغير على النفس في حظوظ الدنيا رغبة في حظوظ الآخرة، يقال: آثرته بكذا، أي: خصصته به، والمعنى: ويقدّمون المهاجرين على أنفسهم في حظوظ الدنيا { وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } أي: حاجة وفقر، والخصاصة مأخوذة من خصاص البيت، وهي الفرج التي تكون فيه، وجملة: { وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } في محل نصب على الحال، وقيل: إن الخصاصة مأخوذة من الاختصاص، وهو الانفراد بالأمر، فالخصاصة الانفراد بالحاجة، ومنه قول الشاعر:

إن الربيع إذا يكون خصاصة عاش السقيم به وأثرى المقتر

{ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } قرأ الجمهور: { يوق } بسكون الواو، وتخفيف القاف من الوقاية، وقرأ ابن أبي عبلة، وأبو حيوة بفتح الواو، وتشديد القاف. وقرأ الجمهور: { شحّ نفسه } بضم الشين. وقرأ ابن عمر، وابن أبي عبلة بكسرها. والشحّ: البخل مع حرص، كذا في الصحاح، وقيل: الشحّ أشدّ من البخل. قال مقاتل: شحّ نفسه: حرص نفسه. قال سعيد بن جبير: شحّ النفس هو أخذ الحرام، ومنع الزكاة. قال ابن زيد: من لم يأخذ شيئًا نهاه الله عنه، ولم يمنع شيئًا أمره الله بأدائه، فقد وقى شحّ نفسه. قال طاووس: البخل أن يبخل الإنسان بما في يده، والشحّ أن يشحّ بما في أيدي الناس، يحبّ أن يكون له ما في أيديهم بالحلال والحرام لا يقنع. وقال ابن عيينة: الشحّ: الظلم. وقال الليث: ترك الفرائض وانتهاك المحارم. والظاهر من الآية أن الفلاح مترتب على عدم شحّ النفس بشيء من الأشياء التي يقبح الشحّ بها شرعاً من زكاة، أو صدقة، أو صلة رحم، أو نحو ذلك، كما تفيده إضافة الشحّ إلى النفس، والإشارة بقوله: { فَأُوْلَـئِكَ } إلى «من» باعتبار معناها، وهو مبتدأ، وخبره { هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } والفلاح الفوز والظفر بكل مطلوب. ثم لما فرغ سبحانه من الثناء على المهاجرين والأنصار، ذكر ما ينبغي أن يقوله من جاء بعدهم، فقال: { وَٱلَّذِينَ جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ } وهم التابعون لهم بإحسان إلى يوم القيامة، وقيل: هم الذين هاجروا بعد ما قوي الإسلام، والظاهر شمول الآية لمن جاء بعد السابقين من الصحابة المتأخر إسلامهم في عصر النبوّة، ومن تبعهم من المسلمين بعد عصر النبوّة إلى يوم القيامة؛ لأنه يصدق على الكلّ أنهم جاءوا بعد المهاجرين الأوّلين والأنصار، والموصول مبتدأ، وخبره { يَقُولُونَ رَبَّنَا ٱغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوٰنِنَا ٱلَّذِينَ سَبَقُونَا بِٱلإَيمَـٰنِ } ويجوز أن يكون الموصول معطوفاً على قوله: { وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءوا ٱلدَّارَ وَٱلإيمَـٰنَ }، فيكون { يقولون } في محل نصب على الحال، أو مستأنف لا محل له، والمراد بالأخوّة هنا: أخوة الدّين، أمرهم الله أن يستغفروا لأنفسهم، ولمن تقدّمهم من المهاجرين والأنصار { وَلاَ تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلاًّ لّلَّذِينَ ءامَنُواْ } أي: غشاً وبغضاً وحسداً. أمرهم الله سبحانه بعد الاستغفار للمهاجرين والأنصار أن يطلبوا من الله سبحانه أن ينزع من قلوبهم الغلّ للذين آمنوا على الإطلاق، فيدخل في ذلك الصحابة دخولاً أوّلياً لكونهم أشرف المؤمنين، ولكون السياق فيهم، فمن لم يستغفر للصحابة على العموم، ويطلب رضوان الله لهم، فقد خالف ما أمره الله به في هذه الآية، فإن وجد في قلبه غلاً لهم، فقد أصابه نزغ من الشيطان، وحلّ به نصيب وافر من عصيان الله بعداوة أوليائه، وخير أمة نبيه صلى الله عليه وسلم، وانفتح له باب من الخذلان يفد به على نار جهنم إن لم يتدارك نفسه باللجأ إلى الله سبحانه، والاستغاثة به، بأن ينزع عن قلبه ما طرقه من الغلّ لخير القرون، وأشرف هذه الأمة، فإن جاوز ما يجده من الغلّ إلى شتم أحد منهم، فقد انقاد للشيطان بزمام، ووقع في غضب الله وسخطه، وهذا الداء العضال إنما يصاب به من ابتلي بمعلم من الرافضة، أو صاحب من أعداء خير الأمة الذين تلاعب بهم الشيطان، وزين لهم الأكاذيب المختلفة، والأقاصيص المفتراة، والخرافات الموضوعة، وصرفهم عن كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه، وعن سنة رسول الله، المنقولة إلينا بروايات الأئمة الأكابر في كل عصر من العصور، فاشتروا الضلالة بالهدى، واستبدلوا الخسران العظيم بالربح الوافر، ومازال الشيطان الرجيم ينقلهم من منزلة إلى منزلة، ومن رتبة إلى رتبة حتى صاروا أعداء كتاب الله وسنة رسوله، وخير أمته وصالحي عباده وسائر المؤمنين، وأهملوا فرائض الله وهجروا شعائر الدين، وسعوا في كيد الإسلام وأهله كل السعي، ورموا الدين وأهله بكلّ حجر ومدر، والله من ورائهم محيط. { رَبَّنَا إِنَّكَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ } أي: كثير الرأفة والرحمة بليغهما لمن يستحق ذلك من عبادك.

وقد أخرج البخاري عن عمر بن الخطاب أنه قال: أوصي الخليفة بعدي بالمهاجرين الأوّلين أن يعرف لهم حقهم، ويحفظ لهم حرمتهم، وأوصيه بالأنصار الذين تبوّءوا الدار والإيمان من قبلهم أن يقبل من محسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم. وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما عن أبي هريرة قال: أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أصابني الجهد، فأرسل إلى نسائه، فلم يجد عندهنّ شيئًا فقال: "ألا رجل يضيف هذه الليلةرحمه الله " ، فقال رجل من الأنصار، وفي رواية، فقال أبو طلحة الأنصاري: أنا يا رسول الله، فذهب به إلى أهله، فقال لامرأته: أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تدّخريه شيئًا، قالت: والله ما عندي إلاّ قوت الصبية، قال: فإذا أراد الصبية العشاء، فنوّميهم وتعالي فأطفئي السراج، ونطوي بطوننا الليلة لضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففعلت، ثم غدا الضيف على النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: لقد عجب الله الليلة من فلان وفلانة، وأنزل فيهما { وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ }». وأخرج الحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في الشعب عن ابن عمر قال: أهدي إلى رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأس شاة فقال: إن أخي فلاناً وعياله أحوج إلى هذا منا، فبعث به إليه، فلم يزل يبعث به واحد إلى آخر حتى تداولها أهل سبعة أبيات حتى رجعت إلى الأوّل، فنزلت فيهم: { وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ }. وأخرج الفريابي، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود أن رجلاً قال: إني أخاف أن أكون قد هلكت، قال: وما ذاك؟ قال: إني سمعت الله يقول: { وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } وأنا رجل شحيح لا يكاد يخرج مني شيء، فقال له ابن مسعود: ليس ذاك بالشحّ، ولكنه البخل، ولا خير في البخل، وإن الشحّ الذي ذكره الله في القرآن أن تأكل مال أخيك ظلماً. وأخرج ابن المنذر، وابن مردويه عن ابن عمر في الآية قال: ليس الشحّ أن يمنع الرجل ماله، ولكنه البخل، وإنه لشرّ، إنما الشحّ أن تطمح عين الرجل إلى ما ليس له. وأخرج ابن المنذر عن عليّ بن أبي طالب قال: من أدّى زكاة ماله، فقد وقى شحّ نفسه. وأخرج الحكيم الترمذي، وأبو يعلى، وابن مردويه عن أنس قال: قال رسول الله: "ما محق الإسلام محق الشحّ شيء قط" . وأخرج أحمد، والبخاري في الأدب، ومسلم، والبيهقي عن جابر بن عبد الله أن رسول الله قال: "اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشحّ، فإن الشحّ أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم، واستحلوا محارمهم" . وقد وردت أحاديث كثيرة في ذمّ الشحّ. وأخرج الحاكم وصححه، وابن مردويه عن سعد بن أبي وقاص قال: الناس على ثلاث منازل، قد مضت منزلتان، وبقيت منزلة، فأحسن ما أنتم كائنون عليه أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت، ثم قرأ: { وَٱلَّذِينَ جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ } الآية. وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن الأنباري في المصاحف، وابن مردويه عن عائشة قالت: أمروا أن يستغفروا لأصحاب النبيّ، فسبوهم، ثم قرأت هذه الآية: { وَٱلَّذِينَ جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ }. وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر أنه سمع رجلاً، وهو يتناول بعض المهاجرين فقرأ عليه { لِلْفُقَرَاء الْمُهَـٰجِرِينَ } الآية، ثم قال: هؤلاء المهاجرون، أفمنهم أنت؟ قال: لا، ثم قرأ عليه { وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءوا ٱلدَّارَ وَٱلإيمَـٰنَ } الآية. ثم قال: هؤلاء الأنصار، أفأنت منهم؟ قال: لا، ثم قرأ عليه { وَٱلَّذِينَ جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ } الآية، ثم قال: أفمن هؤلاء أنت؟ قال: أرجو، قال: ليس من هؤلاء من سبّ هؤلاء.